النار المتأججة .. رسالة من بريد الجمعة عام 2002
أبعث إليك هذه
الرسالة ردا على رسالة الأبواب المغلقة والتي نشرت منذ بضعة أشهر .. ولقد تتساءل
عن سبب كتابتي لهذا الخطاب على الرغم من مرور تلك الفترة الطويلة وأجيبك بأني
عندما قرأت رسالة (الأبواب المغلقة) كتبت ردا عليها ولكنني لم أرسلها لك,
ولا أدري لماذا ؟ ولكي تتذكر الرسالة فلقد كانت عن فتاة تعيش مع والدتها, أما
والدها فقد طلق أمها منذ أن كانت طفلة صغيرة جدا, وذهب وتزوج من امرأة أخرى,
ولم يخطر بباله أن يسأل عن ابنته ولو مرة واحدة, والآن وبعد أن كبرت هذه الفتاة
وأصبحت في سن الزواج يريد والدها أن يقوم بدور الأب بالنسبة لها, وبعثت إليك من
تسألك ماذا تفعل معه وهي تكره سيرته ولا تطيق أن تسمع اسمه, وهل تسامحه ؟
وقد كان ردك على رسالتها بأن تسامحه, وأن تتركه يمارس دور الأب عليها لأن هذا
حقه وإلى آخر الرد.
وأنا فتاة في العشرين من عمري, وأدرس بإحدى كليات القمة وأعيش حياة مريحة جدا,
وفي مستوى اجتماعي راق, ولكن كل هذا من خير أمي فأنا أعيش مع والدتي, أما
والدي فقد انفصل عن والدتي وعمري بضعة أشهر, وترك أمي ولم ينفق علي مليما واحدا
منذ ولدت وحتى الآن, وكافحت أمي كفاحا مريرا لكي توفر لي هذه الحياة الكريمة
التي أعيشها والمشكلة أن والدي لم يفكر في يوم من الأيام أن يسأل علي ولو بتليفون
ولم يفكر في أن يراني أبدا, وبالاختصار هو قد ألغاني نهائيا من حياته ومن
ذاكرته, نسي تماما أن له ابنة على قيد الحياة, هو الآن متزوج ولديه أولاد من
زوجته الثانية.. وبالتالي إن قصتي مشابهة جدا لقصة تلك الفتاة كاتبة رسالة
الأبواب المغلقة, وعندما قرأت رسالتها شعرت بأنني أقرأ قصتي, ولكنني دهشت لردك
عليها الذي تنصحها فيه بأن تصفح عنه وتقبل باقترابه منها فقد كان ردك هذا بمثابة
الضربة القاضية التي أصابتني بالحزن الشديد إذ كيف تريد منها أن تنسى أن والدها
المفترض أنه الشجرة التي تستظل بها, ومصدر الأمان لها قد ألغاها تماما من حياته
واعتبر أنه لا وجود لها في الدنيا.
لقد أهملها طوال
هذه الفترة بل لم يعطها أي حق من حقوقها, إنني أعتبر نفسي يتيمة على الرغم من أن
والدي حي يرزق وأنا أكره والدي كرها شديدا جدا جدا جدا جدا, بل وأكره اسمه,
وأكره رؤيته على الرغم من أني لم أره أبدا وليس عندي أي استعداد لأن أرى هذا
المخلوق البغيض فلقد ظلمني ظلما شديدا وسبب لي أضرارا نفسية كبيرة, وقد حاول
والدي سامحه الله أن يمارس دور الأب معي عندما علم بأني دخلت إحدى كليات القمة
ولكنني رفضت بشدة هذا, وأريد أن أقول لك إنني لا أكرهه من فراغ فهو لم يحاول أن
يتقرب مني أبدا أو يرجوني أن أسامحه على ما فعله بي, بل إنه لم يحاول أن يعوضني
عن سنوات الحرمان التي عشتها, لم يحاول أن يعطيني لحظة حب واحدة, أنا لم أشعر
قط بحب ودفء وحنان الأب, فكيف لي أن أسامحه, إنني لا أتذكر له حسنة واحدة يمكن
أن تشفع له عندي, وأريد أن أبعث رسالة له ولكل الآباء من أمثاله الذين يتناسون
أن لهم أبناء وبنات من صلبهم يعيشون بعيدا عن أعينهم, أقول فيها:
ولكاتبة هذه الرسالة أقول:
نشرت رسالتك كاملة بالرغم من استيائي مما تحمله من عبارات قاسية عن أبيك, لأني أردت أن يطلع بعض الآباء على حجم الحقد الأسود الذي ينهش قلوب بعض الأبناء تجاه آبائهم نتيجة لإهمالهم لهم أو انشغالهم بحياتهم الجديدة عنهم.أما أنت يا ابنتي فإني أقول لك إنه ليس من السلامة النفسية ولا من الدين ولا من العدل مع النفس أو الغير أن ينطوي صدرك على كل هذا القدر من الكراهية لأحد من البشر خاصة إذا كان أباك ومهما يكن تقصيره في حقك أو تقاعسه عن أداء واجبه تجاهك فالكراهية نار تأكل نفسها إن لم تجد ما تأكله.
وكراهيتنا لمن أمرنا الله سبحانه وتعالى بأن نصاحبهم في الدنيا معروفا حتى لو ظلمونا توقعنا في دائرة التأثم وتحرمنا من القدرة على التواصل السليم مع الآخرين وتحرمنا من قدر كبير من السلام النفسي.. وترشحنا للتعاسة والشقاء في الحياة..
فالنفس الطيبة لا تكره أحدا كل هذه الكراهية حتى ولو كان قد أساء إليها..
وهي تعتب على من ظلمها.. لكنها لا تحقد عليه ولا تنتقم منه ولقد تفضل عليه من كان رحيما بها.. لكنها لا تنشغل بكراهيته واجترار الأحقاد عليه..
ولقد تعجز عن حبه لشدة إيلامه لها لكنها لا تنجرف أبدا إلي مستنقع الكراهية العمياء له
وهذا هو معنى التسامح الذي أقصده في مثل هذه الحالة..
إنه تسامح مع الحياة طلبا للسلام النفسي.. وضنا بالمشاعر والأوقات والأعصاب من أن تبدد أو تحترق هي بنار الكراهية.
وأنت تستطيعين تحييد مشاعرك تجاه أبيك.. فتخففين بذلك من ضغط هذه المشاعر السلبية عليك..
كما تستطيعين أيضا تأجيل الحكم عليه إلى حين الاستماع ذات يوم إلي وجهة نظره أو أسبابه لإهماله لك وتخليه عنك كل هذه السنوات.. فلعل له عذرا وأنت تلوم كما يقول الشاعر.. ولعل ما قيل لك عنه لم يكن دقيقا بالقدر الكافي أو لعله كان معبرا عن وجهة نظر أحادية لا تأخذ باعتبارات الطرف الآخر, فلماذا تضيفين إلى حرمانك من حنان الأب ورعايته.. الحرمان الإرادي من السلام النفسي والصحة النفسية ؟!
رابط رسالة ثمار الشوك تعقيبا على هذه الرسالة
رابط رسالة جبال الحقد تعقيبا على هذه الرسالة
رابط رسالة ورقة على الحائط تعقيبا على هذه الرسالة
رابط رسالة ذوبان الجليد تعقيبا على هذه الرسالة
· نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 2002
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر