ذاكرة التاريخ .. رسالة من بريد الجمعة عام 1993

 

ذاكرة التاريخ .. رسالة من بريد الجمعة عام 1993

 هذه الرسالة الخامسة التي أكتبها إليك , وبدون الخوض فيما لا يفيد من تفاصيل , فأنا شاب في الخامسة والعشرين من عمري , دأبت حتى قبل تخرجي على السعي هنا وهناك وراء الرزق , لكي أجمع وأدخر مبلغا كافيا من المال لهدف واحد هو أن أتزوج , وقد عاهدت الله منذ فترة مراهقتي على أن أكرس حياتي لأسرتي الحالية أخوتي وأمي , ثم زوجة المستقبل بإذن الله , ونحن والحمد لله ميسورون بفضل رضانا برزقنا وسماحتنا , وبعد تخرجي تمكنت بكفاحي من تحسين ظروفي كثيرا , وأنا أكتب لك رسالتي هذه من احدى الدول العربية التي أعمل بها , والمشكلة التي أواجهها يا سيدي هي أنني أقابل بالرفض دائما كلما تقدمت لفتاة من جانب أبويها وأهلها , وبلا تردد أو محاولة للتفكير .. فهل تعرف لماذا ؟

لأن أبي توفي رحمه الله منذ عشر سنوات , وعقب رحيله بعدة شهور فقط تزوجت أمي من أحد أصدقائه , ولم تتحفظ في علاقتها به حتى في أيام الحداد الأولى , ولم تحفظ ذكرى أبي ولم تراع وضعها كزوجة وأم لثلاثة أبناء مما آثار غضب شقيقه عليه ومقاطعته له حتى مات غاضبا عليه , ناهيك عن غضب أسرة أبي , بل وأسرة أمي نفسها التي لم تضعها أمي في اعتبارها , ولم تراع أحدا فيما أرادت وفعلت .

ولم تطل التجربة كثيرا , ووجهت باستنكار الجميع حتى اضطر هذا الشخص للانسحاب , وبعد ذلك بأقل من عام تزوجت أمي من "آخر" تعرفت عليه في الدولة العربية التي نقيم فيها دون علم أهلها , ودون علمي أنا أكبر أولادها , ولم تطل التجربة أيضا لفترة طويلة وانتهت بأن خذلها ورجع إلى زوجته وأولاده وتركها حسيرة باكية بعد أن اساءت لنفسها ولنا ولأسرتنا .

وبدلا من أن تستقر في بيتها وتتعلم من تجربتها وتحافظ على سمعتهم , تزوجت من "الثالث" بعد شهور قليلة , وكان هذه المرة أحد معارفي .. وأصغر منها بالطبع .. ولا حول ولا قوة إلا بالله .. فكانت الفضيحة العائلية الثالثة خلال سبع سنوات فقط من رحيل أبي , ورغم أن هذه الفضائح قد انتهت الآن ومنذ ثلاث سنوات خاصة بعد أن تصديت لها وطالبتها بمراعاة وضعها وأوضاعنا وأوضاع أسرتنا إلا أن الناس لا تنسى .. وذاكرتها أقوى من ذاكرة التاريخ خاصة فيما يتعلق بهذا النوع من السلوكيات , والآن وبعد ثلاث سنوات كلما تقدمت لفتاة رفضني أهلها على الفور وبلا تردد , بل لقد نجحت خلال احدى إجازاتي بمصر في أن أخطب فتاة تمنيتها لنفسي , لكن الخطبة لم تدم أكثر من شهر واحد استدرك بعده أهلها فضائحنا وفسخوا الخطبة غير نادمين , وعدت إلى عملي ذليلا كسير القلب .

لقد أيقنت الآن تماما أن زواجي أمر صعب , إن لم يكن مستحيلا الآن على الأقل رغم مركزنا الاجتماعي المرموق , ورغم حالة أسرتي الميسورة , ورغم أن لدي شقة جاهزة للزواج , وكل ذلك بسبب سمعة أمي , وتلطيخها لسمعتي واظهاري بمظهر الابن السيئ الذي يثور عليها لمنعها مما تريد .

 

ورغم إساءتها لي ولذكرى أبي ومركز أسرتي وإخوتي فإني أسامحها , وأرجو الله أن يسامحها ويغفر لها , وأنا إنسان مؤمن بقضاء الله وقدره , ولا أعترض عليهما , لكني مع ذلك لا أستطيع أن أحبس دموعي كلما رأيت زوجين يتحدثان سويا معا في الشارع أو خطيبين يتضاحكان أو يتهامسان أو أطفالا صغارا يلهون لأني أحب الأطفال جدا , ورغم تمسكي بديني وصلاتي وصيامي وعمرتي , فإن الله لم يكتب لي الزواج حتى الآن ولا يبدو أنه سيكتبه لي قبل سنوات طويلة تكون خلالها ذاكرة الناس قد ضعفت بعض الشئ .. فهل عندك ما تستطيع أن تسرى به عني همومي ؟

 

جميع الحقوق محفوظة لمدونة "من الأدب الإنساني لعبد الوهاب مطاوع"

abdelwahabmetawe.blogspot.com

ولـــكـــاتـــب هـــذه الــرســـالة أقـــول :

 

معك حق والله يا صديقي فذاكرة الناس أحد وأقوى من ذاكرة التاريخ خاصة في المثالب والعيوب , لكن ذلك لا ينبغي أن يشغلنا عن الحقيقة الأهم , وهي أن هذه الذاكرة نفسها , وإن كنا ضد الالحاح على ذكر عيوب الآخرين ومحاسبة الأبرياء عن أوزار غيرهم , إلا أنها دليل عملي آخر على أن سلم القيم الاجتماعية مازال معتدلا والحمد لله ولم ينقلب بعد إلى أسفل .. فمازال الالتزام الخلقي والسمعة العائلية الطيبة والتدين الرشيد في مقدمة المؤهلات التي ترجح كفة الناس عند الفضلاء , وليست الاعتبارات المادية وحدها "كما يظن الغافلون" .. ولاشك أنك ضحية لعوامل لا ذنب لك فيها , لكنها تؤكد مرة أخرى ما نلح عليه كثيرا من أن الآباء والأمهات ليسوا مسئولين فقط عن إعالة أولادهم وتعليمهم , وإنما عن سعادتهم الخاصة أيضا , وأن هذه السعادة لن تتحقق لهم في الحياة ما لم يلتزم هؤلاء الآباء والأمهات بالمنهج القويم في حياتهم حتى لا يورثوهم سوء السمعة ونفور الفضلاء منهم , وحتى لا يستمتع هؤلاء الآباء والأمهات بحياتهم وأهوائهم وملذاتهم بلا رادع من مبادئ ولا دين ولا قيم ولا احترام للشكل العام والاعتبارات الاجتماعية العديدة , ثم يضرس الأبناء من بعدهم ويدفعون ثمن استسلامهم لضعفهم ونزواتهم , إنها قصة طويلة وقد كتبت فيها مرارا , وقلت أكثر من مرة أننا ندفع دائما ثمنا لكل أفعالنا في الحياة فإن لم نؤده نحن كاملا أداه عنا أبناؤنا بعدنا , وإن لكل شئ في الحياة ثمنا واجب السداد , فالاستسلام للأهواء له ثمن , ورد النفس عن نزواتها ورغائبها له أيضا عائد نجنيه نحن في الدنيا وفي الآخره , ونورثه لأبنائنا من بعدنا .

والواضح يا صديقي أن والدتك لم تتوقف طويلا أمام هذا الميراث الأهم من الميراث المادي ولا أمام هذه الثمن الذي حكمت عليكم بدفعه حين استجابت لأهوائها بلا تحفظ ولا مراعاة لاعتبارات كثيرة ..  لكن هذا الوضع المؤلم لن يستمر بالنسبة لك طويلا .. ولن يطول العهد حتى تلتقي بمن تقتنع بخلقك ودينك , وترفض أن تستأديك ثمنا لما لم تفعله ولم ترده لنفسك , ومازال العمر أمامك متسعا لتحقيق كل الأحلام والأمنيات بإذن الله , فأنت مازلت في الخامسة والعشرين من عمرك , لكن إحساسك المغالى فيه بهذا "الميراث" المؤلم هو الذي يصور لك أن الله لن يكتب لك الزواج والسعادة في حياتك الخاصة في الأمد القريب , والزمن في النهاية كما قال شاعر الهند طاغور هو أشرف النقاد جميعا وهو الناقد الوحيد الذي يسقط الباطل ويعلي الحق دون انحياز لأحد .. وهو أيضا الذي سيحكم لصالحك في النهاية ويعفيك من المسئولية عما جنته أمك عليك وعلى نفسها وأسرتها , وتفضل بالكتابة إلى باسمك وعنوانك وكل التفاصيل الضرورية عنك لعلي أستطيع أن أقدم لك شيئا إن شاء الله.

نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" ديسمبر 1993

كتابة النص من مصدره / بسنت محمود

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي

 

Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات