الحلم المفقود .. رسالة من بريد الجمعة عام 1994
أنا سيدة في السابعة والعشرين من عمري .. نشأت في بيت يضم بين جوانبه بإحدى مدن الجنوب القريبة من القاهرة ثلاث زوجات لرجل واحد هو أبي .. فعايشت جميع المشاكل الناجمة عن هذه الحالة الفريدة .. لكن أصعبها على نفسي كان افتقادي للإحساس بترابط الأسرة الصغيرة .. ووجود الأب بين زوجته وأبنائه , ونتيجة لذلك تركزت أحلامي في فترة الصبا في أن تكون لي ذات يوم أسرة صغيرة يجتمع فيها شمل الأب والأم والأبناء فلا يفرق بينهم شئ .. وحين وصلت في تعليمي إلى السنة الثانية من المرحلة الجامعية حقق الله لي أكبر أحلامي وتقدم لي شاب من أقاربي وجدت فيه الأب والزوج والحبيب، فتحمست لإتمام الزواج على الفور وتزوجت وأنا طالبة ثم أنجبت أول أطفالي وأنا في السنة النهائية من دراستي , وبعد تخرجي في كليتي أنجبت طفلتي الثانية .
وكنا نعيش في بيت أهل زوجي فأمضيت عاما طويلا بلا عمل تفرغت فيه لخدمة أهل زوجي وأسرتي الصغيرة , ثم جاءتني فرصة للعمل في إحدى الدول العربية بمؤهلي التربوي فاصطحبت زوجي والطفلين وسافرنا إليها , وهناك عوضني زوجي عن غربتي برعايته لي وحنانه ونظرة الحب الصافية التي أراها في عنينه , فشكرت ربي كثيرا على حياتي ودعوته بحرارة أن يحميها من تقلبات الأيام .
وبعد عامين عدت لمصر وأنجبت طفلي الثالث ثم رجعت بعد الولادة إلى مقر عملي من جديد , فلم تمض شهور حتى مرضت مرضا طارئا شديدا بلا مقدمات , ونقلني زوجي إلى المستشفى فظللت فيه شهورا أحارب شبحا مجهولا لا أدري عنه شيئا وأدعو ربي في كل لحظة ألا يحرم أطفالي من أمهم .. واستجاب الله لدعائي فخرجت من المستشفى ولكن فوق مقعد متحرك , فقد أصبت بشلل في النصف الأسفل من جسمي , وكان زوجي حين تقرر بقائي بالمستشفى قد أعاد أطفالي الثلاثة إلى مصر , وبقي بجواري يرعاني في مرضي , فساعدني ذلك على تقبل أقداري وقررت أن أتعايش مع ظروفي الجديدة وألا أدعها تهزمني ولم يكن من الممكن أن أستمر في غربتي بعد ما حدث لي فعدت إلى بلدي مع زوجي ورغم قراري بأن أتكيف مع ظروفي وأقبلها بشجاعة فلقد ضعفت وبكيت حين دخلت إلى بيتي على المقعد المتحرك ولم أستطع النهوض منه والجري إلى أطفالي الثلاثة لأحتضنهم , وألمني أنهم وقفوا ينظرون إلي بفزع إلى أن حملهم زوجي إلي فاحتضنتهم وقبلتهم وأفرغت كل ما في صدري من دموع على وجوههم وأيديهم , وكانت هذه هي المرة الوحيدة التي أنهرت فيها منذ خروجي من المستشفى.
وبعد أيام من عودتي قررت بيني وبين نفسي ألا أدع أحدا يشفق علي وألا أسمح لأحد بمساعدتي في أداء واجباتي المنزلية حتى لا يشعر زوجي بأي نقص في حياتنا , فأصبحت أقوم بكل أعمال البيت من كنس ومسح وغسيل وطهي ورعاية الأطفال وأنا فوق مقعدي الذي أتحرك به بنشاط في كل مكان من الشقة .. ومضت عدة شهور ونحن على هذا الحال ثم بدأت أشعر بتذمر زوجي وضيقه مع أني لم أقصر في حقوقه كزوج , وحرصت دائما على إرضائه لكن ضيقه ازداد ثم بدأت إهاناته لي أمام الأطفال , فكل شئ لم يعد يعجبه .. وكل شئ ناقص ويحتاج إلى استكمال , وغلبتني مشاعري ذات مرة فرجوته ألا يعذبني ويشعرني بعجزي , وأن يحدد لي كل ما يريدني أن أفعله لأؤديه على خير وجه ليرضى ولا تصبح لديه أسباب للشكوى , فإذا به يصدمني بأنه لم يعد يستطيع تحمل الحياة معي على هذا النحو وأنه يريد أن يتزوج ولم أدر بما أجيبه أو أرد عليه .. لكنه عاد يكرر رغبته في الزواج فاستعنت بأهلي وأهله عليه لإقناعه بالعدول عن هذه الرغبة ورحمة بي وبأطفالي , خاصة وأنا أؤدي كل واجباتي كأم وزوجة , كما أني والله العظيم أشعر بكل ما تشعر به الزوجة تجاه زوجها وتستطيع أن تسأل الأطباء عن ذلك وتتأكد منه .
لكن أحدا من أهلي وأهله لم يساندني من موقفي .. وتزوج زوجي الحبيب بعد ثماني سنوات فقط من زواجنا وأكبر أطفالنا عمره 7 سنوات , وتزوج في الشقة المقابلة لشقتي وأحضر لزوجته الجديدة كل ما كنت أتمناه لنفسي بعد العودة من الغربة .. وتحطم الحلم الذي حلمته في بيت أبي بأسرة صغيرة يجتمع شمل الأب والأم فيها في مكان واحد دائما .. وتحولت حياتي منذ زواجه إلى جحيم , فبعد أن كنت الشجاعة القوية التي لا تقبل شفقة أحد أصبحت دموعي تهطل بلا مقاومة كلما سألني طفلي الكبير : متى ستشفين لكي يعود أبي للبقاء معنا طول الوقت ؟
وهجرني زوجي دون أن يروي ظمئي إلى كلمة حلوة أو كلمة شكر وتقدير .. وإني أسألك يا سيدي ما هو ذنبي فيما أصابني من مرض , وهل من حق زوجي أن يتزوج دون مراعاة لمشاعري وأحاسيسي كإمرأة .. وهل هذا عدل وأين حقي عليه ليس كزوجة فقط بل كمريضة أيضا , فأنا أحتاج إلى علاج طبيعي طويل وإلى مقعد متحرك جديد , وزواجه الجديد قد أضعف امكانياته فلم يعد قادرا على تلبية احتياجاتي , إنني لا أعرف لماذا يحاسبني الجميع على ما لا ذنب فيه , بل إنني حتى لا أفهم حقيقة مرضي وإحتمالات شفائي واستعادتي لقدرتي على الحركة , فهل تستطيع أن تسأل لي أحد أصدقائك من كبار الأطباء ولدي كل التقارير الطبية والأشعة بالرنين المغناطيسي .. وأخيرا فإني أفكر في طلب الطلاق من زوجي وإذا كان ذلك حلا لمشكلتي .. فهل لي الحق في ذلك .. وهل تؤيدني فيه؟
جميع الحقوق محفوظة لمدونة "من الأدب الإنساني لعبد الوهاب مطاوع"
abdelwahabmetawe.blogspot.com
ولـــكـــاتـــبة هـــذه الـــرســـالـــة أقــــول :
من أكثر أحزان الإنسان إثارة للشجن أن يفقد حلمه , وأن يدفع ثمنا مؤلما لما لم يرتكبه من جريمة , وأنت يا سيدتي محقة في أحزانك وشجونك لأن أحدا لم يعرض عليك قائمة بالأمراض المتاحة فاخترت منها بإرادتك ما أصابك من مرض , ولأنك حاولت بإخلاص أن تتقبلي أقدارك بشجاعة وتتكيفي معها , وأن تؤدي جاهدة واجباتك كزوجة وأم في حدود قدراتك , ولقد كان المأمول أن يقدر لك زوجك محاولاتك المخلصة هذه فيتغاضى عن بعض النواقص البسيطة في حياته لو كانت ثمة نواقص فيها , فهي مهما بلغت ثمن بسيط للوفاء كان يستطيع أداءه بسهولة لو أراد .. وكثيرون غيره دفعوا هذا للثمن وبلا تنمر في ظروف مماثلة , ورأوا في مزايا العشرة الطيبة الخالية من النزاعات والمشاكل ما يعوضهم عن مثل هذه النواقص البسيطة .. لكن آفة الإنسان دائما أنه يطلب لنفسه دائما الحد الأقصى من الأشياء ويتعامى عن الحقيقة الأزلية وهي أن الحياة مزيج متعادل تقريبا من أسباب الرضا .. وأسباب السخط وإن المكان الوحيد الذي تكتمل فيه الأشياء والأسباب ولا يصبح للإنسان فيه ما يتطلع إليه أو يشكو من افتقاده له لا يقع على سطح الأرض وإنما في السماء .. ورغم علم الجميع بذلك وتسليمهم به إلا أن الأمور تجري هكذا في كثير من الأحيان، فنسخط لما ينقصنا .. ونعمى عما بين أيدينا .. ونظن أن الآخرين دائما أسعد منا ونحلم بأن نكون أسعد منهم فتقودنا أوهامنا وتطلعاتنا إلى سلسلة لا نهاية لها من التعاسة والأخطاء.
وأنت تسألينني هل من حق زوجك أن يتزوج عليك وأنت في ظروفك هذه ؟ وهل هو عدل ؟
وأجيبك بأن مرض الزوجة هو أحد الأسباب الشرعية التي تبيح للرجل الزواج مرة أخرى , لكن من حق الزوجة إذا لم تقبل بزواجه أن تطلب الطلاق للضرروتحصل عليه , بل إن من حقها أن تشترط على زوجها عند زواجه منها وفي صلب عقد الزواج ألا يتزوج عليها مرة أخرى , فإن فعل فإنه يكون قد أخل بشروط العقد ويحق لها الطلاق منه بلا عناء , لكن سؤالك هذا ليس هو القضية وإنما القضية شئ آخر لا يتعلق بالعدل وإنما بالرحمة التي هي فوق العدل وبالوفاء الذي يعلو عليه في بعض الأحيان .. فزوجك لم يطل صبره على محنتك المرضية .. ولم يطل احتماله لاختبار الحياة له , وقد كان واجبه الإنساني تجاهك يقتضيه أن يبذل بعض الجهد للتكيف مع ظروفك الجديدة وأن يحاول التواؤم معها إلى أقصى حد يطيقه احتراما لمشاعرك ورعاية لحقك عليه , فإذا عجز عن الاحتمال أكثر من ذلك حق له أن يستأذنك في الزواج مرة أخرى ولربما رأيت أنت في هذه الحالة ألا تحرميه من شئ ينقصه فوافقت مقدرة لظروفه وغير شاعرة تجاهه بالمرارة وخيانة الحلم , فهكذا يفعل الأصلاء مع شركاء الحياة في محنهم المرضية التي تطرأ على حياتهم بعد الزواج , أما أن يتزوج بعد بضعة شهور فقط من محنتك , فهذا أمر مخالف لكل قيم الوفاء ومشاركة شريك الرحلة في السراء والضراء وفي الصحة والمرض وفي الغنى والفقر وفي كل اختبارات الحياة , فإذا كنت تشكين أيضا من هجره لك فإثمه في ذلك كبير وعليه أن يعفي نفسه منه بالعدل معك أو يفصل الله بينكما بالحق.
ثم نأتي بعد ذلك إلى سؤالك الصعب وهو عن حقك في الحصول على الطلاق وهل أوافقك في طلبك ؟ وهل هو حل لمشكلتك ؟ وأجيبك بحذر بأن من حقك الحصول على الطلاق إذا رغبت فيه لأن الزواج الثاني بغير موافقة الزوجة الأولى يعطيها الحق في طلب الطلاق خلال عام من تاريخ علمها بالزواج بأخرى .. أما هل أوافقك عليه أم لا ؟ فإن هذا يتوقف على الإجابة على السؤال الثالث وهو هل الطلاق حل لمشكلتك أم لا ؟ وأنت وحدك تستطعين الإجابة عليها .. وأقصى ما أستطيع أن أقوله لك بهذا الشأن أنك إذا عجزت عن احتمال حياتك على هذا النحو , وزادت معاناتك عن حدود قدرتك على الصبر والاحتمال فإن الله لا يكلف نفسها إلا وسعها في النهاية لكنك من ناحية أخرى لابد أيضا أن تسألي نفسك عن البدائل المتاحة لك في حالة الطلاق .. وتقارني بينها وبين وضعك الحالي رغم آلامه , وعليك بعد ذلك أن تختاري لنفسك أفضل الأوضاع نسبيا لك ولأطفالك على ضوء هذه المقارنة التي لن يحسمها سواك .. وإن كان الواضح أن الطلاق لن يكون حلا لمشكلتك وأن وضعك بعده لن يكون أفضل من وضعك الحالي وهذه هي أقدارك التي لا مفر أمامك من احتمالها بنفس الشجاعة التي احتملت بها اختبار الحياة القاسي لك في صحتك .. شفاك الله وعافك من مرضك.
أما العلاج الطبيعي فإن بريد الجمعة يستطيع أن يوفره لك لدى أقرب مركز للعلاج من مدينتك , فاكتبي إلي بأقربها إليك لأرتب لك العلاج فيه بإذن الله .
وأما المقعد الجديد فلسوف يصل إليك قريبا في بيتك بأمر ربك , وأما التقارير الطبية فأرسليها إلي وسأعرضها على الأطباء المتخصصين وسأوافيك بآرائهم في حالتك وآمل أن تكون مشجعة ومبشرة إن شاء الله.
نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" فبراير 1994
كتابة النص من مصدره / بسنت محمود
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر