نقطة الصفر .. رسالة من بريد الجمعة عام 1994

نقطة الصفر .. رسالة من بريد الجمعة عام 1994

نقطة الصفر .. رسالة من بريد الجمعة عام 1994

 

أنا يا سيدي أرملة توفي عني زوجي وأنا في الخامسة والعشرين وترك لي ثلاثة أبناء أكبرهم في الخامسة من عمره وأصغرهم لم يكمل عامه الأول وكان معاش زوجي حين رحل عنا لا يزيد وقتها عن عشرة جنيهات لكني كنت قد ورثت عن أبي بعض الأشياء البسيطة فأعانتني على مواجهة الحياة وتربية أولادي وكان الله معي في كل خطواتي فتعلموا وتخرجوا وتزوجوا أيضا والحمد لله , وذهب كل منهم إلى حال سبيله إذن .. فما هي المشكلة ؟

 المشكلة أنني بعد وفاة زوجي شعرت بالوحدة القاتلة والفراغ الرهيب في حياتي ففكرت في أن أكمل تعليمي .. وبدأت الرحلة الطويلة من نقطة الصفر فدخلت امتحان الابتدائية ونجحت فيه ثم بدأت مشوار الاعدادية عاما بعد عام حتى حصلت عليها ثم بدأت رحلة الثانوية وكان الأبناء كلهم في مراحل التعليم ونفقاتهم ترهقني ومشاكلهم تشغلني وتستنفد طاقتي فتعثرت طويلا في المرحلة الثانوية حتى كنت أجتاز السنة في ثلاثة أعوام كاملة لكني رغم ذلك حصلت على الثانوية العامة بمجموع ضعيف والتحقت بمعهد فني تجاري وحصلت على شهادته فى النهاية ونظرت إلى نفسي فوجدت أولادي قد تخرجوا وتزوجوا وأنا أعيش وحدي في فراغ مخيف  فقررت البحث عن عمل وأنا فخورة بشهادتي التي حصلت عليها بما يشبه المعجزة .. ففوجئت بأن كل الأعمال التي قرأت اعلاناتها وتقدمت لها ترفضني لأن أصحابها يريدون فتيات صغيرات حسناوات .. وأنا سيدة متوسطة العمر ومحجبة.

 لقد حاولت أن أتعلم الكمبيوتر لكي أزيد من قدراتي لكني وجدت تعليمه يحتاج إلى نفقات لا احتملها بعد أن أنفقت ما ورثته عن أبي على تعليم الأبناء والفراغ يقتلني يا سيدي حتى اضطرني إلى تناول المهدئات والمنومات ونصحني الأطباء بالعمل لكي أتوقف عنها .. وأصحاب الأعمال لا يريدون إلا الصغيرات الجميلات .. فلماذا أفعل ؟

 

جميع الحقوق محفوظة لمدونة "من الأدب الإنساني لعبد الوهاب مطاوع"

abdelwahabmetawe.blogspot.com

 

ولـــكـــاتــــبة هــــذه الــــرســــالـــة أقـــــول:

 

أنت سيدة تستحق كل الاعجاب والاحترام .. ليس فقط لجهادك في تربية أبناءك وتعليمهم حتى بلغت بهم جميعا شاطئ الأمان .. وإنما أيضا لكفاحك البطولي لتعليم نفسك من نقطة الصفر بهدف الارتقاء بها عن المستوى الذي لم ترضيه لنفسك والتشاغل عن وحدتك بعد رحيل زوجك بشئ مفيد لك وللحياة فثابرت على عناء الدراسة الطويلة رغم الأعباء العائلية بإرادة حديدية حتى حققت هدفك .. بل وفكرت أيضا تفكيرا راقيا في زيادة قدراتك بتعليمك الكمبيوتر لولا أن أعاقك عن تنفيذه ضعف الإمكانيات.

إنك تستحقين بكل تأكيد عملا ملائما يستثمر هذه الإرادة القوية وهذه الجدية التي تعاملت بها مع مسئولياتك ومع نفسك ولابد أن هناك من أصحاب الأعمال من لا يطلبون فقط الصغيرات الحسناوات ويرحبون بمثيلاتك من المكافحات .. فتفضلي بزيارتي مساء الاثنين القادم .. ولنأمل خيرا بإذن الله.

نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" مارس 1994

كتابة النص من مصدره / بسنت محمود

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي

 

 

Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات