السر القديم .. رسالة من بريد الجمعة عام 1986
لو لم أستشعر الصدق في كلمات هذه الرسالة لظننت أن كاتبها من هواة مشاهدة الأفلام المصرية القديمة، وأنه استوحى رسالته من إحدى هذه المليودرامات الشعبية التي قدمتها السينما منذ عشرات السنين .. فماذا تقول رسالته؟
يقول كاتب الرسالة:
اعذرني يا سيدي في أنني لن أروي لك تفاصيل كثيرة عن حياتنا، لكي لا أحرج بعض الأعزاء الذين ستعرف مكانهم من خلال قراءة هذه الرسالة.. لذلك فقد تبدو بعض أجزائها مبهمة، وغير منطقية لكنها صادقة بالرغم من ذلك، أنا طالب في الثانوية العامة انتظر إعلان النتيجة بين لحظة وأخرى، وأبي موظف كبير وأمي سيدة طيبة متفرغة لبيتها وأنا ابنها الوحيد، منذ طفولتي نشأت في جو أسري هادىء خال من المشاكل تحترم فيه أمي أبي ويحرص أبي على مشاعر أمي.. وتتركز اهتماماتهما معا حولي أنا، فهما يوفران لي ما أحتاجه في حدود إمكاناتهما ويحرصان دائما على تنشئتي تنشئة خلقية كريمة.. ومنذ بدأت أعي الأشياء أدركت أن أبي من هؤلاء الآباء الذين يحرصون على قضاء معظم أوقات فراغهم في البيت مع أسرهم وأنه لا يكاد يغادره إلا للعمل.. وأن سعادته وراحته في الجلوس بيننا ومتابعة ألعابي ولهوي عن قرب.. وطوال سنوات التعليم لم ألحظ في حياتنا شيئا غير عادي .. وإن كان هناك شيء قد شكوت منه فلربما كان أني كثيرا ما تمنيت لو كان لي شقيق أو شقيقة أو كلاهما معا لألعب معهما وأتبادل معهما الحب والعطف.
فلقد كنت أنظر بشيء من غيرة الأطفال لجيراني الصغار الذين يحكون لي الحكايات عن إخوتهم.. حتى ولو كانت من قبيل المشاجرات بينهم.. لكن الدنيا مع ذلك كانت جميلة بالنسبة لي.. وافتقاد الشقيق أو الشقيقة كنت أعوضه بصداقة الأطفال الذين يسكنون معي في العمارة نفسها.
ومضت سنوات الدراسة إلى أن وصلت إلى الثانوية العامة، أو إلى الشبح المخيف الذي يرهب الآباء والأمهات.. فاستعدت أسرتي لمواجهته بتجديد غرفتي وتزويدها بمکتب جدید و مائدة صغيرة عليها أدوات إعداد الشاي والقهوة، لكي أتفرغ تماما للاستذکار ولا أحتاج إلى الذهاب إلى المطبخ، لطلب الشاي.
ورأى والدي في بداية السنة أن ألتحق بأحد فصول التقوية فالتحقت بفصل ملحق بأحد المساجد لمضاعفة الاستعداد للامتحان، وكان هذا المسجد بعيدا عن حينا، وأحتاج إلى ركوب الأتوبيس للوصول إليه، وقد دلني عليه أحد زملائي فأخبرت أبي عنه فوافق وأعطاني الرسوم لأدفعها، وذهبت لتسجيل اسمي ودفع الرسوم، فلاحظت في الكشف المعلق الذي يضم أسماء الطلبة والطالبات الملتحقين بالفصل، أن هناك اسما مشابها لاسمي.. بل مماثلا لاسمي مع اختلاف الاسم الأول فقط وهو اسم فتاة، فعجبت لهذا التشابه العجيب، واعتزمت أن أتعرف على هذه الفتاة لكي أداعبها بأن اسمينا متماثلان، وسعيت للتعرف إليها فعلا، فما إن رأيتها حتى أحسست تجاهها إحساسا عجيبا لم أستطع حتى الآن أن أفسره.
فلقد أحسست بأني أعرفها منذ زمن طويل، وأني لست غريبا عنها ولا هي غريبة عني، فتحدثت معها بألفة وتلقائية عجيبة كأنها صديقة قديمة وحين صارحتها بذلك وبأني خجول ولا أستطيع أن أحادث فتاة بسهولة وأني أعجب من انطلاق لساني معها.. فاجأتني بأنها تحس هذا الإحساس العجيب نفسه وأنها وجدت نفسها مرحبة بالحديث معي مع أنها تنفر من الغرباء ولا تتحدث مع من لا تعرفه، فسألتها عن اسمها بالكامل فردت علي بما عرفته من قراءة أسمها في الكشف، فسألتها عن أبيها ووظيفته فأجابت بما زلزل كياني فلقد نطقت باسم ووظيفة أبي.
نعم أبي هو بلحمه وشحمه ووظيفته و اسم بلدته وأسماء أقاربه أي أقاربي.. إذن فأنا أمام أختي التي لا أعرفها ولم أتصور وجودها.. بل أنا أمام سر عائلي رهيب استمر عشرين سنة في طي الكتمان، ولا تتصور ما حدث لي ساعتها.. فلقد صرخت من الفرحة، نعم من الفرحة والسعادة .. فلقد أصبحت لي أخت.. وإن كنت لا أعرف كيف حدث ذلك.. وبين الضحكات والدموع والانفعالات تعارفنا وحكيت لها كل شيء عن حياتنا وحكت لي قصتها.. وعرفت منها أنها تكبرني بسنة .. وأن أبي انفصل عن أمها بعد زواج لم يستمر عامين ولم يوفقا فيه، وأنه تزوج بعدها من أمي وإن كانت صلته بها لم تنقطع، فهو يؤدي حقوقها كاملة ويزورها في مواعيد ثاتبة، وأن أمها لم تتزوج بعده وتفرغت لتربيتها.. ولم تزعجه بعد الانفصال بأي مشكلة، وعجبت لأبي هذا الهادئ الرزين الذي لا يكاد يغادر بيته، لماذا أخفى عني هذا السر ولماذا حرمني من أختي وهو يرى لهفتي على الأطفال الآخرين؟ لكني لم أغضب منه بل لعلي أحببته أكثر لأنه أنجب لي أختا عوضتني عن وحدتي.. وزادت سعادتي وأصبحت ألتقي بأختي وأخرج معها بعد الفصل، وأوصلها إلى قرب منزلها وأعود سعيدا لكن سعادتي للأسف لم تستمر طويلا.. لأن أختي الحبيبة صارت كلما التقينا في الفصل تثير هذه المشكلة معي، أي مشكلة انفصال أمها عن أبي وتطالبني بمساعدتها في إيجاد حل لها.. وهي تتهمني بأني متبلد الشعور لأني لا أشاركها في إيجاد هذا الحل.. فكيف أجد هذا الحل؟ بل كيف أجد سبيلا لرؤيتها بعد أن انتهت الدراسة وتوقف فصل التقوية ولم يعد هناك مبرر للالتقاء بها.. إلا لو تقابلنا في كازينو أو على شاطئ النيل كما يفعل المحبون فأسيء بذلك إلى سمعتها وهو ما لا أريده.
إنني أرجوك أن تدلني على حل لهذه المشكلة يرضي الطرفين أي أنا وأختي فهل تستطيع؟
ولكاتب هذه الرسالة أقول:
إن الحل العاجل المطلوب الآن هو أن تصارح أباك باطلاعك على هذا السر القديم، وأن تعتب عليه في رفق أن حرمك من أختك الوحيدة في الحياة، وأن تصف له فرحتك الغامرة باكتشافها.. وأن تطلب منه أن يعلن هذا السر القديم لأنه ليس فيه ما يشين.. فما أكثر من تعثرت حياتهم الزوجية الأولى ثم وفقوا في زواجهم الثاني، وكان من زواجهم الأول أبناء وبنات، ثم أنه لا مجال الآن للحساب فلقد أهال الزمن تراب النسيان على ما جرى منذ عشرين سنة .. ولم يعد مهما الآن أن نعرف من كان المخطىء ومن المصيب.. وإنما المهم هو أن نتعامل مع الواقع كما هو الآن.. وألا يحرمك من هذه الصلة الإنسانية الحميمة.. فمن له أخت يا سيدي حظه أفضل في الحياة ممن ليست له أخت.. ومن له أخت محبة ترعى حقوقه وتهتم بأمره، حظه في الحياة أفضل ممن ليست له مثل هذه الأخت، والشيء نفسه بل ويزيد بالنسبة لأختك، وهي ابنته فوجود أخ لها مثلك هو سند لها في الحياة تستند إليه وتعتمد عليه وليس من العدل أن يحرمها من هذه الميزة، وهو مطالب الآن وبصفة عاجلة بأن يقدمك لأمها، وأن يجمع بينكما وأن يسمح لك بالتردد عليها ولها بالتردد عليك، وأن يفخر بكما معا وأن يقر بكما علنا.. بعد أن أجرم في حقكما معا بالفصل بينكما وإخفاء أمر كل منكما عن الآخر كأنه جريمة .. وليس هبة من السماء يسعد بها ويفخر بها.
أما حل المشكلة الكبيرة الذي تطالبك به أختك، فهو ليس في يدك ولا حيلة لك فيه ولا تملكه.. وإنما يملكه أبوك الذي أشفق عليه في موقفه الصعب هذا، فليس من السهل أن يعرض حياته العائلية الهادئة منذ عشرين سنة لمثل هذا الزلزال، وليس من السهل لوالدتك أن تقبل مثل هذا الذي تطالب به أختك، حتى لو كان الحل الوحيد الذي يحقق العدل في مثل هذه الظروف، لكن أختك لها بعض العذر في نظرتها إلى الأمر هكذا، لأنها تعيش المشكلة منذ طفولتها ولا يعرف مرارة التجربة إلا من اكتوى بها، كما أن ظهورك في حياتها وإن كان بالنسبة لك مجرد حدث سعيد حقق أحلامك، فإنه بالنسبة لها قد جدد أحزانها وإحساسها بالمشكلة التي تعيشها وأملها في إمكان الجمع بين أبيها وأمها، وهو حلم مشروع من جانبها لكنه صعب التحقيق، ولو أنصفت أختك لتجنبت إثارة هذه المشكلة الراكدة لأن إثارتها تنذر بالمتاعب ولا تقدم حلا لها، ولاستسلمت لأقدارها التي اختارت لها هذه الحياة، وكفت عن محاولة تغييرها.. ولسعدت.. سعادة خالصة باکتشافك ولنعمت بهذه السعادة، وأملت في أن تجد فيك عوضا لها عما حرمت منه، وعونا لها في الحياة يهتم بأمرها ويعني بها.. ولا يبقى بعد ذلك سوى أن تضغط أنت على أبيك لكي يزيد من رعايته لها ومن عطفه عليها ومن اهتمامه بها، فلعل في ذلك ما يخفف عنها بعض ما تعانيه.. ولعل حظكما في الحياة والزواج يكون أكثر توفيقا من حظ أبيكما العاثر، لكي لا تعترضا أبناءکما بإذن الله لمثل هذه المفاجأة الغريبة التي هزت كيانكما وأنتما في سن الشباب.
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر