السر البغـيض .. رسالة من بريد الجمعة سنة 1996

السر البغـيض .. رسالة من بريد الجمعة عام 1996

السر البغـيض .. رسالة من بريد الجمعة عام 1996

أرجو ألا تندهش لما سوف تقرأه في رسالتي فالدنيا كما تقول أنت دائماً فى ردودك مليئة بالعجائب ولقد سبقتك إلى الاندهاش لما سوف أرويه لك فدفعت الثمن غالياً من صحتي ومازلت..فأنا يا سيدي شاب أقترب من الثلاثين من عمري جمعتني الصداقة منذ حوالي عشر سنوات بعدد من طلبة الكلية التى كنت أدرس بها فربط بيننا الاستهتار بالدراسة والمبالغة في الاهتمام بالمظهر .. والحياة التافهة التي نحياها جميعاً اعتمادا على أبنائنا الذين يكافحون لإسعادنا’فهذا والده مهندس وذاك والده طبيب يعمل خارج مصر وهذا والده رجل أعمال عصامي, وكل منا يرتدى أغلى الملابس الشبابية ويملك سيارته الخاصة التي يجئ بها إلى الكلية فلا يكون لنا حديث إلا عن المغامرات العاطفية .. والتنزهات المبتكرة وأخبار النادي وما في ذلك من الشئون التافهة، فكان منا من حالفه الحظ رغم ذلك واستطاع مواصلة الدراسة بالكلية والتخرج فيها بتقدير مقبول, وكان منا من بالغ فى استهتاره ولا مبالاته بكل شئ فرسب واستنفد مرات الرسوب وأضطر إلى تحويل أوراقه إلى أحد المعاهد فوق المتوسطة وكنت للأسف أنا وصديق مقرب لى من هذه الفئة الثانية الأشد خيبة فالتحقنا معاً بمعهد فوق المتوسط وتوطدت صداقتنا وعقدنا العزم على أن ننجح فى دراستنا الجديدة بما يسمح لنا بعد ذلك بالانتساب لكلية جامعية لكي نحسن من صورتنا أمام أسرتينا, وكان مما شجع صديقي على التعلق بهذا الأمل فتاه جامعية من أسرة طيبة تعرف عليها وراحت تحثه على نبذ حياته المستهترة واستكمال دراسته الجامعية لكي تستطيع إقناع أبيها بقبوله كخطيب لها.وتحققت المعجزة بالفعل وأنهينا دراستنا بالمعهد والتحقنا بالكلية الجامعية معاً.ونجحنا أيضاً فى عامنا الأول بها, ثم نجحت وحدي فى عامي الثاني وانتقلت للصف الثالث فى حين تعثر صديقي فجأة ورسب لأنه أهمل ذلك العام دراسته مرة أخرى وعرفت منه أنه قد تعرف بسيدة متزوجة وانشغل بها عن كل شئ .. وتعجبت لذلك وسٍألته وماذا عن الفتاة الطيبة التي وقفت بجواره وشجعته على النجاح لكي يتحقق لهما أمل الارتباط .. فلم أجد لديه جواباً سوى أن هذه السيدة المتزوجة تمنحه ما لا تستطيع فتاته أن تمنحه له!

أعترف لك يا سيدي أن موقفي منه في هذا الأمر كله كان سلبياً للأسف وأنني لم ألح عليه فى قطع علاقته بها وإنما اكتفيت بتحذيره فقط من أن يكتشف زوجها هذه العلاقة المشينة فيتعرض لمتاعب لا قبل له بها, وعرفت منه أنه تعرف عليها خلال معاكسه تليفونية من جانبها وفوجئ بأنها تعرف عنه كل شئ .. ثم تواصلت الاتصالات بينهما إلى أن التقيا وعرف كل منهما الآخر.

وتكررت اللقاءات بينهما وتطورت تطوراً خطيراً حين بدأ يلتقيان فى شقة خالية مغلقة اشتراها زوج هذه السيدة لابنته الوحيدة لتكون سنداً لها عند زواجها, وسألت صديقي ذات يوم عن مصير هذه العلاقة ومستقبلها فأجابني بأن كلا منهما يستيقظ ضميره من حين لآخر فيقرر قطعها فلا يلبثان طويلاً حتى يرجعا للقاء من جديد, خاصة أن هذه السيدة تصغر زوجها بعشرين سنه.وأن صديقي هذا وسيم وخفيف الظل ويملك سيارة !

وقد بلغ بهما الحب مبلغه حتى روى لى صديقي بأن هذه السيدة قد عرضت عليه جدياً أن يتقدم لخطبة ابنتها الوحيدة طالبة المرحلة الثانوية, لكي يكون أمامها وتحت أنظارها فى كل وقت وبلا حرج !

ومن خلال أحاديث صديقي عن هذه السيدة المتزوجة وما يَزل به لسانه أحياناً من معلومات عنها وعن زوجها وابنتها بدأ الشك يساورني فى أن تكون هذه السيدة إحدى قريباتي ومن دائرة المحارم على وجه التحديد, وأفزعني هذا الخاطر المزعج فبدأت أحاول استدراجه لمعرفه اسمها فرفض أن يبوح لى وسألته عن رقم تليفونها فغضب منى واتهمني بالرغبة فى اختطافها منه فزاد ذلك من شكوكي وبدأت أترقب مواعيد لقاءات صديقي بهذه السيدة لأتأكد مما أصبحت أشك فيه ويؤرقني، فإذا عرفت أو فهمت دون تصريح من جانبه أنه على موعد معها فى ساعة معينه تعمدت أن أزور بيت قريبتي هذه فى نفس الموعد لأرى إذا كانت موجودة فى بيتها فى موعد اللقاء ..وتحولت شكوكي إلى ما يشبه اليقين وضاعف من ظنوني ومعاناتي ما سمعته فجأة من أسرتي من أن ابنة هذه السيدة على وشك أن تخطب إلى شاب وسيم يملك سيارة ومازال طالباً بالجامعة .. وجن جنوني حين قال لى أحد أقاربي ألم تكن أنت الأولى بهذه الفتاة الجميلة ابنة هذه السيدة الفاضلة والرجل الطيب .. ولم يعد لدي أي شك فى أن قريبتي هذه هى الطرف الآخر فى هذه العلاقة الشائنة, ولم يعد لي أيضاً أي شك فى أنه يعرف بقرابتها لى وإلا فكيف سيتقدم لخطبة ابنتها بغير أن يعرف تكوينها الأسرى وأقاربها الأقربين؟..وحرت ماذا أفعل .. وفكرت فى البداية فى أن أواجه صديقي بكل ما عرفت وأهدده بالقتل إن لم يبتعد عن هذه الأسرة كلها وقريبتي على رأسها .لأنه قد خان صداقتي ولم يرع حرمتها, وفكرت جدياً أيضاً فى أن احذر زوج هذه السيدة مما يجرئ وراء ظهره ولو باتصال تليفوني من مجهول .. وزاد من سوء حالتي أن صديقي هذا نفسه قد غاب عنى فجأة واختفى من كل أماكنه فلم أعد أعرف أن يقيم ولا ماذا يفعل, وعلمت أن والده قد ضاق باستهتاره ولا مبالاته بدراسته فطرده من بيته قبل أيام وخطر لى فجأة وأنا أبحث عنه ذات يوم أنه ربما يكون مع صديقته فى هذه اللحظة فى الشقة الخالية البعيدة خاصة وأنني لم أجد قريبتي فى بيتها وكان زوجها على سفر, فركبت سيارتي واتجهت مسرعاً إلى هذه الشقة التي أعرف عنوانها بحكم الصلة العائلية, والأفكار تتضارب فى رأسي وأفكر فيم سوف أفعل إذا لمحتهما يغادرانها أو يدخلانها .. ولحسن الحظ فأنى لم أجدهما ووقفت بسيارتي فترة طويلة أمام العمارة دون أن يدخل أو يخرج منها أحد ورجعت مضطرباً إلى بيت قريبتي عسى أن أراها عائدة .. فإذا بى أراها تهم بركوب سيارة فى شارع جانبي قريب من بيتها, ثم تنطلق السيارة وهما يتحادثان ويتضاحكان وبلا إرادة وجدتني أتابعهما فتوقفا فى ميدان كبير بضاحية  مصر الجديدة وركن صديقي السيارة .. ثم دخل مع السيدة المتزوجة إلى كافيتريا تقع بالدور الأول من عمارة حديثة بالميدان .. فتوقفت بسيارتي على الرصيف المقابل .. ونزلت منها ووقفت أرقب الموقف والدم يتصاعد إلى وجهي وأنا أفكر هل أدخل عليهما الكافيتريا الآن وأواجههما بما يفعلان .. وأضرب صديقي الخائن وأهدد هذه السيدة بفضحها أمام زوجها والأسرة كلها .. أم أنتظر خروجهما إلى الطريق وأفاجئهما باعتراضي لطريقهما وأنظر إلى كل منهما باحتقار وأهدده وأتوعده ثم أنصرف تاركا أياهما يرتجفان من الرعب والخوف من الفضيحة .. وبينما أنا غارق فى هذه الأفكار المتضاربة إذا بى أشعر فجأة بدوار شديد فظننت أنني سأتعرض للإغماء بسبب شدة ضيقي وانفعالاتي .. فوجدت الجميع من حولي يصرخون ويفزعون والأرض تهتز بشدة بى وبهم.وإذا بى أرى العمارة التى دخلها صديقي وقريبتي منذ دقائق تنهار فجأة فى لحظات كما يحدث فى الأفلام وتتحول فى لمح البرق إلى كومة عالية من التراب .. وسحابات الغبار تملأ الجو والصرخات تتردد فى أذني, وأصوات الصياح والاستغاثة فى كل مكان .. فلم أشعر بشئ بعد ذلك مما يجري أمامي أو حولي ولم أدر بنفسي إلا حين أفقت لا أدري بعد كم من الوقت فإذا بي راقد فى فراش بأحد المستشفيات ومن حولي أسرتي وأنا فى حالة ذهول صامت ولساني عاجز عن الكلام .. لا أجيب عن أي سؤال ولا أكاد أميز وجوه أفراد عائلتي..

فهل عرفت الآن يا سيدي ماذا كان تاريخ ذلك اليوم اللعين .. وماذا كانت تلك الكافيتريا التى دخلها صديقي وقريبتي فى هذا اليوم المشئوم ؟ .. لقد كان اليوم يوم 12أكتوبر عام92 .. والوقت فى الثالثة والنصف تقريباً بعد الظهر وكانت الكافيتريا التى دخلاها هى كافيتريا "الأرنب الضاحك" بعمارة الموت التي إنهارت من أساسها فوق عشرات الضحايا بميدان سانت فاتيما بمصر الجديدة.

وقد ظللت على ذهولي وغياب ذهني وعجزي عن الكلام بعد هذا الحادث الأليم لأيام طويلة وخرجت من حاله الذهول .. إلى حالة من الاكتئاب النفسي ألزمتني الفراش أكثر من عام .. وما زلت حتى الآن ورغم مرور ثلاث سنوات على هذه الكارثة أتلقى علاجاً نفسياً لدى أحد الأطباء النفسيين .

أما لماذا أكتب لك الآن وبعد أكثر من ثلاث سنوات عما جرى فلكى أستعين برأيك فيما يواجهني من حيرة تزيد من اكتئابي .. إذ لعلك تذكر أن قوات الإنقاذ لم تتمكن وقتها من استخراج جثث كل من كانوا بالدورين الأرضي والأول بعمارة الموت .. والمشكلة التي تؤرقني هى أن أسرة قريبتي هذه مازالت تعتقد أن الأم المفقودة قد تكون فى مكان ما فاقدة للعقل ولا تستطيع الاهتداء لهويتها وبيتها وأسرتها, وإنما يمكن أن ترجع إليها فى أيه لحظة, أما والد صديقي فما زال يتعذب ويلوم نفسه على أنه قد تسبب فى مغادرة ابنه للبيت قبل الكارثة بأيام ويعتبر نفسه مسئولاً عن فقد هذا الابن ويتعلق بالأمل فى عودته ولا أحد يعرف مصيرهما على وجه اليقين سوى الله سبحانه وتعالى وأنا والطبيب النفسي الذي طلب مني أن أفضي بكل أسرار حياتي وبما لا أستطيع أن أحكيه لأحد غيره لكي أتخفف من ضغط الكتمان على نفسي .. ورؤيتي لابنة قريبتي التي ما زالت تتعلق بالأمل الضعيف فى عودة أمها تؤرقني وتثقل ضميري ... وما اسمعه عن معاناة والد صديقي يزيد من معاناتي نظرأ لمرضه وشيخوخته , فهل أبوح لزوج قريبتي بما أكتمه فى صدري من سر يقين .. وأصارح والد صديقي بما حدث ليرحم نفسه من تأنيب الضمير ..أم أكتم شيئاً لم يشأ له الله أن ينفضح وأظل طاوياً صدري عليه إلى النهاية .. ومن ناحية أخرى فإني أسألك هل سألقى مصير زوج قريبتي هذه ذات يوم إذا فكرت فى الارتباط بابنته التي أشعر برغبة شديدة فى الارتباط بها؟

 

ولـــكــاتــب هــذه الـرسالة أقــول: 

أما عن الدهشة يا صديقي فبعد تعاملي لأكثر من ثلاثة عشر عاماً مع هموم البشر فى رسائلهم ولقاءاتي بهم, فلم أعد أندهش لشئ ولا أتعجب لشئ تكشف لى عنه خطرات النفس البشرية عن غرائب وعجائب, حتى ولو بدا للآخرين من قبيل المغالاة .. أو مقتضيات الحبكة الدرامية, فلقد سلمت منذ زمن طويل مع الفيلسوف الإنجليزى فرنسيس بيكوت بأن الزمن هو أعظم المؤلفين حقاً .. ولهذا فلست مندهشاً لما قرأت فى رسالتك من فواجع لكنى " أتأمل " فقط وأرجو الله ألا أفقد مع الزمن وكثرة عجائبه حتى هذه الفترة على تأمل الغرائب ومحاولة استخلاص حكمتها ودروسها.. وحكمة هذه القصة المؤلمة التي تحكيها لى هى نفسها الحكمة الصينية القديمة التى تقول إن الفضلاء قليلاً ما يدخلون التاريخ! بمعنى أنهم يعيشون فى الأغلب الأعم حياة فاضلة هادئة .. ملتزمين فيها بالقيم الأخلاقية والدينية فلا يكاد يشعر بوجودهم أحد ولا يرتكبون من الرذائل ما تدور به الألسنة وتتناقلها الأجيال , فى حين يدخل الآخرون التاريخ من أوسع أبوابه ويتحدث غيرهم بما فعلوا وما ارتكبوا من أخطاء وخطايا..وتشهد حياتهم غالباً أحداثاً "دراماتيكية" فاجعة تجعل منهم مادة إخبارية دائمة على ألسنة الرواة والمنتقدين...

ولو طبقنا هذه الحكمة الصينية القديمة على قريبتك المقربة وصديقك الشاب, وتذكرنا أيضاً كلمة القطب الصوفي بن عطاء الله السكندري: إذا أشرقت البدايات..أشرقت النهايات. لأدركنا أن أحد أهم أسباب هذه النهاية المفجعة لهما هو أنهما لم يعيشا حياة فاضلة يلتزم فيها كل منهما بالقيم الدينية والأخلاقية "فدخلا التاريخ" للأسف..وخلفا وراءهما هذه الآلام وهذه الحيرة التى مازالت تعانى عنها أسرتاهما..وهذه المعاناة النفسية التى مازلت أنت تدفع ثمنها حتى الآن, ولو كان كل منهما مستقيماً فى حياته الشخصية ثم قادته أقداره إلى هذه الكافيتريا يوم الهول العظيم..ولشأن عادى من شئون الحياة..لما غمض مصيره عن أهله حتى الآن ولعرف ذووه فى حينه أنه كان من بين ضحايا هذه العمارة المشئومة, لأنها من مظانة المعروفة لدى أهله , ولأن كلا منهما لا يحتاج إلى الغموض والتخفي والذهاب إلى مكان غير مطروق ولا معروف بالنسبة لأهله ومعارفه وأصدقائه ليختبئ داخله عن الأنظار ولدفع ذلك ذووه للبحث عنه بين الأنقاض كما فعل غيرهم من أسر الضحايا وعرفوا بمصيره الأليم منذ الأيام الأولى وإذا كنت تقول أن قوات الإنقاذ لم تستطع إخراج كل الضحايا وقتها فليس من المعقول أن يكون هناك الآن وبعد أكثر من ثلاث سنوات من الفاجعة من لم يتم إخراجه بعد من تحت الأنقاض, وإنما الأقرب للعقل هو أن قوات الإنقاذ قد أخرجت الجميع ’فكان من بينهم من تعرف عليه ذووه وتسلموه وكان من بينهم من لم يتقدم أحد للتعرف عليه فانتهى مثواه إلى مقابر الصدقة ومجهولي الهوية, ولابد أن بطلي هذه القصة المؤسفة من بين هؤلاء.

ولقد كنت تستطيع يا صديقي أن تتخفف من كثير مما عانيته طوال الفترة الماضية لو كانت حالتك النفسية عقب الكارثة قد سمحت لك بشئ من صفاء التفكير الذي أعانك على تنبيه الأسرتين إلى المصير المؤلم لكل من الطرفين المفقودين بغير أن تضاعف من الجراح والآلام وتهتك السر المستور , فلقد كنت تستطيع أن تبرر لذويك ما أصابك وما عانيته من اكتئاب نفسي مضى , بأنك قد شاهدت "مصادفه" وقبيل لحظات من انهيار العمارة قريبتك وصديقك هذا دخل كل منهما منفرداً هذه العمارة لشأن من شئونه العادية , فلم يسعفك الوقت للحديث إليه فإذا بالعمارة تنهار أمامك فى لحظات.. وينعقد لسانك هولا وتأثراً بالكارثتين العامة والخاصة معاً.

لكني ألتمس لك كل هذا العذر فى عجزك عن التفكير فى مثل هذا التصرف الملائم وقتها مع ما عانيت منه من ذهول واضطراب واكتئاب نفسي, ولقد عرفت شخصية زميلاً فاضلاً شاءت له أقداره أن يكون فى محطة الوقود المقابلة لهذه العمارة لحظة الزلزال وشاهد انهيار العمارة الشاهقة فوق رؤوس سكانها وتحولها فى لحظات إلى كومة من الأنقاض فشلت قدرته على الحركة والكلام وانفجر باكياً وعانى لفترة طويلة بعدها من نوبات البكاء اللاإرادي تأثراً بهذه المأساة, فلك عذرك إذن فى عجزك عن التصرف السليم فى هذا الموقف العصيب لكني لا أرى لك الآن أن تكشف لأسرة قريبتك ووالد صديقك حقيقة هذا السر البغيض الذى عانيت من كتمانه حتى الآن الكثير, إذ لا مبرر لأن تزيد من أحزان المحزونين ونضيف إلى معاناتهم السابقة ما هو أشد إيلاماً.

وديننا الحنيف ينهانا على أية حال عن التهلل لهتك ما ستره الله من أسرار عباده ولو كانوا من الخاطئين .. ولقد جاء إلى العظيم عمر بن الخطاب أب يقول له أن ابنته قد أخطأت ثم ندمت على خطئها ندماً شديداً وتابت إلى ربها وصدقت توبتها حتى سمع بتقواها وصلاحها رجل من أشراف العرب فجاء يخطبها ..فهل يصارحه بما كان من أمرها قبل التوبة أم يكتمه عنهَ! فتوعده عمر إن أفشى سرها ليضربنه بدرته هذه وزار فى وجهه مغضباً: أتريد أن تفضح ما ستره الله عليها .. بل زوجها كما تتزوج الحرة ..وأكرم وفادتها.

وفى تقدير أن هذا أيضاً هو الموقف الكريم الذى ينبغي أن تلتزم به أنت الآن إزاء هذا السر البغيض لا لأن كل منهما ندم وصدق ندمه على ما فعل, وإنما لأن الله سبحانه وتعالى قد طوى معهما سرهما ولا يفيد أحداً الآن هتكه, ولا عائد لذلك إلا إيلام مشاعر زوج ضحية وابنه بريئة وأب مكلوم.

ولست أصدق فى الحقيقة أن كلتا الأسرتين مازالت تتعلق بالأمل فى عودة كل منهما لكنهما فقط لم تعرفا على وجه اليقين ما انتهى إليه مصير كل منهما, فلقد توافق غياب كل منهما مع أحداث الزلزال المروعة.. ولابد أن الأسرتين قد سلمتا منذ وقت طويل بأنهما كانا من ضحاياه ..وأن كان مثوى كل منهما مازال مجهولاً لأسرته فلا تُحمل ضميرك إذن ما لإ طاقة له به..وتستطيع بالإضافة إلى ذلك أن تتدارك بعض ما غابك بأن تصرح لأسرة قريبتك ولوالدك صديقك بأنه قد تصادف لك يوم الفزع الأكبر أنك قد شككت فى أنك قد رأيت مفقود كل أسرة يدخل هذه العمارة المشئومة لشأن من شئونه قبيل الزلزال بلحظات, لكنك لم تشأ أن تقطع بذلك وقتها على أمل أن تخيب الأيام الظنون , أما وقد مضت كل هذه الفترة ولم يظهر لأحدهما أثر فلم يعد لديك بعد ذلك أدنى شك فى أن من رأيت كانا هما بكل تأكيد,قريبتك بعينها..وصديقك بعينه.وقد زاد ذلك من شدة تأثرك النفسي بما رأيت وأسلمك للاكتئاب فترة طويلة.

أما مخاوفك من الارتباط بابنة هذه السيدة استنادا إلى"تاريخ"أمها الذى عرفته فالتفصيل ففى ذلك يا سيدى هو أخلاقيات هذه الفتاه نفسها ومدى التزامها الديني والأخلاقي ومدى معرفتك الشخصية بها وحكمك عليها من خلال سلوكيات ورؤيتها للحياة وليس من خلال أى شئ آخر, فإذا كان لهواجسك تجاهها بعض ما يبرر استنادا إلى سيرة أمها فى الحياة فالحق أنه على الناحية الأخرى أيضاً كثيراً ما قد ينشأ أبناء فاسقون من بيئة عائلية فاضلة لم تكن لترشحهم أبداً لسوء المصير وكثيراً أيضاً ما يحمى الله سبحانه وتعالى أبناء لم تتوافر لحياتهم العائلية من الظروف ما يرشحهم للنجاح والفلاح والاستقامة الشخصية, وقيمنا الدينية تنهانا على أية حال على أن تزر وازرة وزر أخرى وإذا كانت الحكمة تطالبنا بتوخي المنبت الحسن فذلك مرهون كذلك بأن تتأكد من القيم الأخلاقية السائدة فى الوسط العائلي لمن ترغب فى الارتباط بهم .. وبمدى حكمنا على صلابة القيم .. وبدراستنا لشخصية من نرغب فى الارتباط به نستطيع الحكم له أو عليه,أما أن نأخذه منذ البداية بجريرة أحد أبويه دون اعتبار لأية عوامل أخرى ولا دراسة للشخصية أو اختبار للقيم الأخلاقية فليس من العدل ولا من الرحمة .والإنسان عموما تتشكل شخصيته وقيمه وأفكاره بعوامل كثيرة إلى جانب النشأة العائلية والقيم السائدة فيها, والفيلسوف الفرنسي هنري بيرجسون يقول لنا أنه ليس المستقبل نتيجة آلية للماضي فى كل الظروف والأحوال ويفسر ذلك بقوله أن الواعظ حين يؤبن راحلاً فإنه يعدد مناقبه ومزاياه وخطاياه, فيقول أن هذا الأمر أو ذاك من سماته قد انتقل إليه من أثر البيئة الاجتماعية التي أحاطت به, وذاك قد اكتسبه عن أبيه أو أمه وذاك قد اكتسبه بالتعليم وذاك من خبرة الحياة والتجارب الشخصية..إلخ

لهذا فإنه لا يحق لأحد لم يدرس أخلاقيات هذه الفتاة عن قرب أن يحكم عليها بأنها ستكرر صورة أمها فى الحياة لمجرد ما سلف من أمرها وإنما يحق له ذلك فقط إذا بنى حكمه هذا على دراسة متأنية لأخلاقياتها وقيمتها الدينية وسلوكها النفسي والاجتماعي إزاء الحياة.

فادرس شخصية فتاتك جيداً قبل أن تحكم لها أو عليها ولا تظلمها في كل الأحوال, يدمغها بما فعلت أمها التي إن كنت قد عجبت حقاً لشئ فى قصتها فليس لخطيئتها فى حد ذاتها وإنما لما تمتعت به أيضاً من أنانية بغيضة وتجرد رهيب من مشاعر الأمومة إلى الحد الذى ترتب فيه مع فتاها أن يتقدم لخطبة ابنتها لكي تجده أمامها وتحت أنظارها كل حين بلا حرجَ!

فأي أم كانت هذه التي بلغ بها عمى القلب إلى هذا الحد الذى همت معه بأن تؤذى ابنتها وثمرة قلبها بعد ما أذت من قبل كرامة زوجها وشرفه..وشرفها!

وماذا عن مشاعر ابنتها التى رضيت لها بأن يخدعها هذا الشاب ويتوسل بخطبته لها للاستمرار فى علاقته الآثمة بأمهاَ!

وماذا عنها أيضا لو كانت قد أحبت هذا الشاب ببراءة ثم انفرط عقد هذه الخطبة وكان لابد أن تنفرط بعد حين..بل ماذا لو كان هذا الشاب نفسه قد تاب إلى رشده ووقع فى هوى هذه الفتاه البريئة وأراد إتمام زواجه منها؟

وإلى أين يمكن أن تقودنا نوازع النفس البشرية حين نسلم قيادنا طائعين لجواد الهوى والنزوة والرغبة الجامحة؟

ألا تشاركني الرأي إذن بأن الفضلاء فعلا كما تقول ذلك الحكمة الصينية القديمة "قليلاً ما يدخلون التاريخ".. لأن حياتهم تخلو من مثل هذه الفواجع التي تدير الرأس ..وتضيق بها الصدور حين تتأملها؟

وهل يكون غريباً أن تدفع أنت مثل هذا الثمن الباهظ من صحتك النفسية ومن معاناتك لكتمان هذا السر البغيض وهواجسك المؤرقة تجاه هذه الفتاة وذلك كله من ثمرة صحبتك لشاب لم يكن من الملتزمين أخلاقياً ودينياً ولم ترده عن الخطأ فى البداية ولم تنقطع عنه بعده؟

نعم إننا لا نستطيع حقاً أن نجبر أحداً على أن يرجع عن خطأ أو خطيئة .. لكننا نستطيع على الناحية الأخرى أن نتخير أصدقاءنا من بين من يسمعون القول فيتبعون أحسنه, ويلتزمون بالاستقامة الشخصية والفضائل فى حياتهم, فلا ينالنا من آثار حياتهم المستهترة رذاذ يشوه سمعتنا أو يورطنا فيما لا تحتمله ضمائرنا وإذا كنا لا نملك للآخرين أكثر من النصيحة .. فإننا نملك أنفسنا ونقدر عليها ونستطيع إذا أردنا أن ننزه أنفسنا وضمائرنا وأسماعنا عن صحبة من لا يتقيدون فى حياتهم الخاصة بأية قيود دينية أو خلقية..وهذا هو الدرس القديم الذى فاتك فى حينه فدفعت ثمنه غالياً من صحتك النفسية وأعصابك وهذا أيضاً هو الدرس الذى ينبغي ألا يغيب عنك بعد ذلك في قادم الأيام بإذن الله.

                                                      مقال القاهرة الساعة 3

 *نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" بتاريخ 19 يناير 1996

                                        كتبها من مصدرها / بسنت محمود
                                         راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات