القاهرة الساعة 3 .. بقلم عبد الوهاب مطاوع
هل مازال لدى أحد شك الآن
في أن "
الزمن هو أعظم المؤلفين " كما قال صادقًا ذات يزم الفيلسوف الإنجليزي فرنسيس بيكون ؟
إذا كان لدى أحد شك فليراجع
مرة أخرى تلك الرسالة العجيبة التي نشرتها منذ فترة في بريد الجمعة بالأهرام ، لقد
حكت الرسالة التي كتبها إليّ شاب في الثلاثين من عمره من الأحداث الدرامية ما يعجز
عنه خيال أكثر المؤلفين ، وصدقتها بالرغم من ذلك لأن نبرة الصدق الإنساني فيها
كانت أعلى من أن أستطيع الشك فيها أو في نية كاتبها .
أما القصة باختصار شديد فهي
أن كاتب الرسالة كان طالبًا جامعيًا مستهترًا لا يشغله من الحياة هو وعدد من
أصدقائه سوى ما يشغل بعض الشباب اللاهي من قصص المغامرات الغرامية .. وارتداء أشيك
الملابس وركوب أحدث السيارات ، فكانت النتيجة أن تعثروا في الدراسة واستنفذوا مرات
الرسوب وفصلوا من الكلية فالتحق هو وأقرب أصدقائه بمعهد متوسط على أمل الحصول على
شهادته والانتساب لإحدى الكليات الجامعية ، سعيا وراء تحسين صورتيهما السيئتين
أمام أسرتيهما ، ونجحا بالفعل في ذلك والتحقا بالكلية ونجحا في السنة الأولى ، ثم
نجح كاتب الرسالة في السنة الثانية أما صديقه فقد تعثر مرة أخرى في دراسته لأنه
انصرف عنها إلى علاقة محرمة نشأت بينه وبين سيدة متزوجة لم يصرح لكاتب الرسالة
باسمها واكتفى هو بأن يحذره من أن يكتشف زوجها أمره
ومن خلال أحاديث صديقه
المستمرة عن هذه السيدة المتزوجة بدأ الشك يساور كاتب الرسالة في أنها إحدى
قريباته المقربات بل إحدى محارمه ، وألح على صديقه في أن يكشف له شخصيتها لكنه رفض
بإصرار فبدأ كاتب الرسالة يراقب صديقه خفية ليتأكد من صدق ظنونه .. إلى أن جاء يوم
ورأى سيارة صديقه تقف على مقربة من بيت قريبته ، ثم رآها تأتي إليه وتركب بجواره
ويمضيان معًا فتبعهما بسيارته فإذا بهما يتوقفان أمام عمارة حديثة في أحد ميادين
ضاحية مصر الجديدة .. وينزلان من السيارة ويدخلان " كافيتريا " بالدور
الأرضي من العمارة .. ووقف هو ثائرًا ماذا يفعل هل يفاجئهما داخل الكافيتريا ويفجر
فضيحة مدوية فيصفع قريبته ويضرب صديقه الذي خان صداقته ؟ أم ينتظر خروجهما
ويفاجئهما بظهوره أمامها .. فلا يدع لأحدهما مجالاً للإنكار ؟ ولم يطل به التفكير
كثيرًا .. فلقد أحس فجأة بالأرض تميد تحت قدميه ثم رأى العمارة التي تقع
الكافيتريا أسفلها تنهار كلها في لحظة مأساوية نادرة وتتحول في لمح البصر إلى جبل
عالٍ من الركام والأنقاض والتراب فوق كل من كانوا داخلها ، أصابه الذهول وفقد
القدرة على الكلام والحركة والتصرف ، ولم يدر بنفسه بعد ذلك إلا مريضًا بالاكتئاب
النفسي وملازمًا لفراش لأكثر من عام عولج خلاله من الاكتئاب ومازال يتردد على
طبيبه النفسي ليعالج ما بقي من آثاره حتى الآن .
ولا عجب في ذلك فلقد شهد
لحظة قدرية فاجعة هي لحظة زلزال 12 أكتوبر عام 1992 في الساعة الثالثة و 35 دقيقة
بعد الظهر ، وشهد انهيار عمارة الموت الشهيرة بمصر الجديدة .. وشهد دفن عدد كبير
من رواد تلك الكافيتريا المشئومة " الأرنب الضاحك " تحت الأنقاض .. ،
ولقد قامت قوات الإنقاذ وقتها بانتشال عدد كبير من السكان أحياء ، وانتشلت جثث عدد
كبير من الضحايا ، وخرج من هذه العمارة حيًا بعد ثلاثة أيام الشاب أكثم الذي تحققت
له معجزة البقاء على قيد الحياة بعد وفاة زوجته وطفلته وأبويه إلى جواره .. ، ولم
يتم التعرف على شخصيات بعض الضحايا الذين كانوا بكافيتريا الدور الأرضي من هذه
العمارة فدفنوا بمقابر الصدقة ومجهولي الهوية .
أما لماذا قرر كاتب الرسالة
أن يروي لي هذه القصة المفجعة بعد أكثر من ثلاث سنوات من وقوعها ، فلأن أسرة
قريبته لم تعرف حتى الآن شيئا مؤكدًا عن مصيرها الدامي وما زال زوجها وابنتها
يعتبرانها مفقودة ، ومازالت ابنتها الشابة تأمل في أن تكون فاقدة الذاكرة أو العقل
في مكان ما ، أما والد صديقه فما زال يعذب نفسه بالإحساس بالذنب عن أنه مسئول عن
مصير ابنه " المفقود " لأنه كان قد ضاق قبل 5 أيام فقط من الفاجعة
باستهتاره فطرده من بيته ، ولم يره من بعدها وما زال يتعذب بإحساسه بأنه قد أعان
أقداره المجهولة عليه .
وسألني كاتب الرسالة الشاب
بعد ذلك ، هل يصارح أسرة قريبته ووالد صديقه بما جرى لهما وكان شاهد عيان عليه في
لحظة درامية نادرة ؟ وهل يكشف لهما ما كان من أمرهما معًا مما جمع بينهما ورشحهما
لهذا المصير المؤسف ؟
فأشرتُ عليه بأن يكتم ما
ستره الله عليهما ، بعد أن مضى كل منهما إلى مصيره وأصبح بين يدي خالقه ولن يكون
لفضح ما كان من أمرهما من عائد الآن سوى إيلام مشاعر الأبرياء كالزوج والابنة
والأب ، وكلهم ضحايا وليسوا جناة ولا ذنب لهم فيا جرى ، أما مصير الزوجة والصديق
فيستطيع أن يخرج أسرتيهما من الحيرة بشأنه بأن يؤكد لأسرة قريبته ووالد صديقه بأن
أقداره هو قد ساقته يوم الهول العظيم إلى موقع عمارة الموت فرأى بالصدفة كلاً من
قريبته وصديقه يدخل العمارة منفردًا لشأن من شئونه .. فلم يكد يلمحهما حتى انهارت
العمارة فوق من كانوا فيها ، وأصيب هو بالذهول ثم بالاكتئاب النفسي حتى ساوره الشك
في أن يكون من رآهما هما قريبته وصديقه حقًا . ثم كتب الله له الشفاء ولم يعد لديه
الآن أدنى شك في مصير كل منهما .
هذه هي القصة التي لم
يكتبها مؤلف درامي وهيهات أن يستطيع أحد أن يكتب مثلها .. ولو فعل لرشحت له
عنوانًا ملائمًا هو " القاهرة الساعة 3 " إشارة إلى لحظة الزلزال المروع الذي لم
تنكشف حتى الآن كل أسراره وخباياه وآثاره .
ومن عجب أن زلزال القاهرة
العجيب في أكتوبر 92 لم يحرك إلى الآن خيال المؤلفين فيكتبوا لنا أعمالاً درامية
تكون لحظة هذا الهول الأعظم محورها و قاسمًا مشتركًا فيها ، في حين أن حادثًا
صغيرًا وقع في روما عام 1951 دفع السينما الإيطالية إلى تقديم فيلمين جميلين
وناجحين عنه . ففي يناير من ذلك العام ظهر في الصحف الإيطالية إعلان صغير يطلب
موظفة شابة للآلة الكاتبة بمكتب محاسب فتقدمت للمكتب مائتا فتاة تجمعن في انتظار
دور كل منهن للمثول أمام صاحبه فوق سلم البيت الذي يقع به المكتب ، فوقعت الكارثة
وانهار السلم .. وتحطمت ضلوع عدد كبير من الفتيات وسيقانهن ولم تلق إحداهن مصرعها
، ومع ذلك فلقد أثار الحادث اهتمام الرأي العام الإيطالي بشدة ولم يمض أكثر من عام
حتى كانت السينما الإيطالية التي اشتهرت بواقعيتها قد قدمت عنه فيلمين : الأول
اسمه "
روما الساعة 11" إشارة إلى لحظة الكارثة والثاني اسمه "ثلاث قصص ممنوعة"
.
وقد اعتبر النقاد وقتها
فيلم "روما الساعة 11" هو أكثرهما عمقًا وتعبيرًا عن المأساة التي دفعت
مائتي فتاة للتزاحم على وظيفة واحدة للآلة الكاتبة .. وتبدأ قصته منذ الصباح
الباكر ليوم الحادث فنرى الفتيات قادمات وفي يد كل منهن الصحيفة التي نشرت الإعلان
وهي تبحث عن عنوان المكتب .. ونشاهد نماذج إنسانية متباينة بينهن فنرى إحداهن
ترتسم على وجهها معالم الطيبة والسذاجة والخوف لكن أمها تشجعها وتبث فيها الثقة
والشجاعة لمواجهة الموقف ، ونرى فتاة أخرى يعكس وجهها آثار تجربة حزينة ، فنفهم أن
صاحب العمل المتزوج الذي تعمل معه قد غرر بها على وعد منه بطلاق زوجته والزواج
منها ثم نكث بوعده وعجزت عن ترك العمل ومغالية مشاعرها لفترة طويلة وأخيرًا حسمت
أمرها وقررت ترك العمل والالتحاق بمكتب هذا المحاسب ، ونرى فتاة جميلة ثالثة تتقدم
إلى العنوان في حياء وتردد ، وتنظر من حين لآخر إلى جوربها وتراقب العيون من حولها
في حذر خشية أن تكتشف خروقه الكثيرة وما إن تتستر في الطابور حتى تتقدم منها فتاة
أخرى ، وتهمس في أذنها ببضع كلمات فتستبدل معها خفية حذاءها .. ونفهم أيضًا أنها
قد استعارت حذاء أختها لكن أختها في حاجة الآن للحذاء لكي تلحق بعملها ، ورغم
علامات البؤس الواضحة عليها فإنها تستلفت نظر بحار شاب يقف أمام البيت وتحدث إليها
بإعجاب فتستجيب له وتتبادل معه العنوان .. ويعدها البحار بأن يكتب إليها من وراء
البحار فتتجدد آمالها مرة أخرى في الحياة .
ويتضاعف عدد الفتيات لحظة
وراء أخرى أمام الباب المغلق للعمارة ، فهذه تحمل أحزان الحياة كلها في أعماقها
لأنها وزوجها لم يجدا أي عمل طوال الشهور الستة الماضية ، وهذه حرمتها الأقدار من
الجمال فحرمها الناس من فرصة عمل تتكسب به .. وتلك اضطرتها ظروف الحياة القاسية إلى
امتهان كرامتها في طريق الخطيئة لكنها تحلم الآن بحياة نظيفة وتأمل أن تكون هذه
الوظيفة هي خطوتها الأولى إليها ، وهذه فتاة ثرية أحبت فنانًا مفلسًا فغضب عليها
أبوها وحرمها من رحمته وثروته .. ويسقط المطر بغزارة فوق الفتيات المتجمعات أمام
باب البيت المغلق فيطلبن من حارسة العمارة أن تسمح لهن بدخولها ليحتمين بالبهو من
المطر ، لكن حارسة العمارة القاسية ترفض ذلك بإصرار لكيلا يزعجن السكان من أكابر
القوم .. فلا تلبث أن تخلق الظروف المشتركة بينهم نوعًا حميمًا من التعاطف والتآزر
بالرغم من أن فوز إحداهن بالوظيفة يعني حرمان الأخريات منها ، فيتكاثرن على
الحارسة القاسية ويدفعن الباب بأجسادهن ويقتحمنه ويتبادلن العطف وتقدير الظروف حين
تتحدث كل منهن عن حياتها حتى لتعرض إحداهن على أخرى مساعدتها في امتحان الآلة
الكاتبة لتفوز بالوظيفة لأن ظروفها أقسى .. ثم في لحظة قدرية فاجعة ينهار السلم
بهن جميعًا وتتطاير الأجسام وسط صيحات الفزع الرهيبة وتتطاير معها أحلام الوظيفة
والأمان !
وينتهي الفيلم نهاية أشدّ
تعبيرًا عن الظلم الاجتماعي حين تنظر قضية انهيار السلم أمام القضاء .. وتأمل
المصابات في الحادث في الحصول على تعويض عادل من مالك العمارة فإذا بألاعيب
المحامين وسطوة المال والنفوذ يقلبان الحقائق فوق رءوس الضحايا وينتهي الأمر
بإقرار سلامة السلم والعمارة وبراءة المهندس الإنشائي .. أما لماذا انهار السلم
إذًا رغم ذلك فلأن الفتيات قد استبدّ بهن القلق فحاولت كل منهن أن تسبق الأخريات
للدخول إلى مكتب المحاسب ، مما أدى إلى تعريض السلم للخطر وانهياره ، وبالتالي " فالمرحوم غلطان
" دائمًا
وأبدًا وكما هو الحال في كل مجتمع تضيع فيه حقوق الإنسان العادلة في الكرامة
والمساواة وتكافؤ الفرص .
أما فيلم " ثلاث قصص ممنوعة
" فقد
تناول الحادث من زاوية أخرى مخملية ولا أثر فيها لأي فكر اجتماعي ، فقدم ثلاث
فتيات من بين ضحايا هذا الحادث وروى قصة حياة كل منهن ، فكانت الأولى صبية لم
تتجاوز الخامسة عشرة من عمرها اعتدى عليها كهل في الخمسين من عمره فغادرت قريتها
الصغيرة وقادتها أقدارها إلى روما لتبحث عن عمل ووقفت في طابور الفتيات فوق السلم
المشئوم وأما الثانية فكانت زوجة شابة جميلة لشاب ثري يميل للوحدة وينشغل بهواية
اللاسلكي عن كل شيء آخر ويرفض الإنجاب حتى لا يشغله شاغل عن هوايته فتضيق بسأم
الحياة معه وتقرر العمل ويقودها ذلك إلى مكتب المحاسب ، وأما الثالثة فلم تكن طالبة
وظيفة وإنما فتاة على وشك الزواج وتربطها علاقة آثمة بشاب عاث ، فتحاول قطع
علاقتها به والمضي في مشروع الزواج فيطاردها الشاب ولا يدع لها مجالاً للانسحاب ،
ثم أخيرًا تحسم أمرها فتقرر أن تقضي معه آخر ليلة لها قبل الزواج وتذهب إليه في
الليلة السابقة ليوم زفافها وتقضي معه الليل في شقته بنفس العمارة التي يقع بها
مكتب المحاسب ، وتغادرها في الصباح لتستعد لزفافها في نفس اليوم فتجد السلم
مشغولاً بزحام هؤلاء الفتيات وتحاول أن تشق لنفسها طريقًا وسطهن فتقع الكارثة
وتصبح إحدى الضحايا .
هذا هما الفيلمان اللذان
قدمتهما السينما الإيطالية عن هذا الحادث الصغير نسبيًا منذ حوالي 40 عامًا ولست
في حاجة لأن أقول لك إنني قد فُتنت بالفيلم الأول وما زلت أسترجع بعض أحداثه حتى
الآن .
متى تقدم السينما العربية
فيلمًا أو مسلسلاً تليفزيونيًا عن أهوال زلزال أكتوبر الشهير وما تلاه من
"توابع" مازالت تترى حتى الآن ؟ وألا تصلح قصة تلك المرأة المتزوجة
وصديقها الشاب العابث اللذين اختارت لهما الأقدار هذه النهاية الفاجعة تحت أنقاض
كافيتريا " الأرنب الضاحك " لتكون بداية لأعمال درامية جديدة تتبُّع قصص
ومصائر بعض سكان هذه العمارة المشئومة وغيرها من البيوت المنهارة ؟
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر