الهروب .. رسالة من بريد الجمعة عام 2002
ليس اليتيم هو فقط من رحل أبواه عن الحياة وخلفاه وحيدا. إن اليتيم أيضا هو من تخلي عنه أبوه ونكص عن تحمل مسئوليته ولو كان هذا الأب حيا.. أو يعتبره البعض خطأ من الأحياء!
عبد الوهاب مطاوع
أكتب هذه الرسالة وقلبي حزين مما يدور حولي وأتمنى
من الله أن أجد عندك أنا وأختي ما لم نجده من رحمة وعطف من والدي سامحه الله.
أنا تلميذة في الصف الثالث الإعدادي وأختي في الصف الأول الإعدادي. منذ نحو16
سنة تزوج أبي من أمي وكانت ظروف أبي المالية صعبة جدا, وكانت أمي تهون عليه وفي
كل ضائقة يمر بها تخلع له قطعة من مصاغها وتعطيها له. ومضت أربع سنوات جئت
خلالها أنا وأختي للحياة وبعد عامين آخرين جاء الفرج وسافر والدي إلى بلد عربي
بعقد عمل وغاب عنا, ولكنه كان يبعث لأمي بالمصروفات وكأنه مازال في هذه الضائقة
المادية اللي كان فيها قبل أن يسافر, فطلبت منه أن يزيد المصروف فاتهمها
بالتبذير. وأنا أحلف بالله العظيم إنها لم تكن مبذرة ولكنه كان بخيلا ولم يفكر
أبدا في هذا الأمر من نفسه وكلما مرت السنوات يزداد بخله. ومرت8 سنوات وأمي
تدبر حالها بما يمن عليها به وهي فترة غربة أبي كلها, تم طرد أبي من هذا البلد
لا أعرف لماذا, ولكني شعرت أنه فعل شيئا خاطئا في هذا البلد وتأكدت من ذلك لأنه
قام بعملية نصب هنا في مصر وجاء أصحاب المال إلى بيتنا وأهانوا والدي وقالوا له
أين ابنتك المريضة التي بكيت أمامنا وقلت إنها تعالج في المستشفى من الشلل لكي
تأخذ نقودنا وقد رأوني أنا وأختي مثل الوردتين في الجمال والتعليم والحمد لله ولم
يجدوا بيننا أحدا مريضا فانهالوا عليه بالتجريح, ثم أخذوا عليه شيكات بالمبالغ التي نصب عليهم بها
ثم خرجوا فإذا بأبي الذي كان يستجدي عطف أصحاب النقود ينهال على أمي بالسب
والشتائم, وعلى فكرة أمي جميلة جدا لكن الهم وضيق الحال غيرا
منها كثيرا.
وكان هذا جزاء أمي بعد تحمل
الغربة وحدها وتربيتي أنا وأختي جعلت منا متفوقتين ونحترم أنفسنا, ثم جاء يوم في
صباحه طلبت أمي من أبي نقودا لكي تشتري الإفطار فقال لها نصف ساعة أذهب إلى البنك
وأرجع علي طول, حدث هذا من نحو شهرين ومنذ ذلك الحين لم يسأل أبي عنا وهو يعرف
أن أمي لا تعرف شيئا في الدنيا غير تربية بناتها ويعرف أيضا أنه تركها دون نقود
وليس معها شهادة ولا مهنة. إذن ماذا نفعل أنا وأختي والمدارس على الأبواب وأمي
ستجن وأبي نسينا والشقة التي نحن فيها العقد قرب ينتهي, يعني انه يعرف أن لحمه
وعرضه قريبا سيكون في الشارع ولا يخاف علينا. إنني أسمع بكاء أمي في نصف الليل
وهي تكاد لا تنام من الفكر والحزن والهم فالحمل ثقيل عليها والرجل الذي عاشت معه
تركنا نحن الثلاثة للمجهول وهرب. ماذا تفعل أمي, فحياتنا صعبة ونحن الآن نعيش
وحدنا وكل من يعرف أن أبي تركنا وتخلى عن مسئوليتنا يولي لنا ظهره ويتهرب من
معرفتنا إلا القليل. إنني حزينة على ما نحن فيه وأمي ستجن, لأن المدارس على
الأبواب. نحن لسنا أيتاما لكي نستحق المساعدة أو الزكاة وإنما تركنا للمجهول
وهرب, إنني حزينة لأن أبي لم يتذكر مجهود أمي معه ومصاغها الذي أعطته له ولم يعوضها عنه. ولا تسأل عن
أهل أمي أو أهل أبي لأنهم تخلوا عنا وعندما لجأنا إليهم لم يساعدونا وتركونا
لهمومنا ولا يسألون عنا بالرغم من أنهم يعرفون كل ظروفنا.
ولكاتبة
هذه الرسالة أقول:
ليس اليتيم هو فقط من رحل
أبواه عن الحياة وخلفاه وحيدا. إن اليتيم أيضا هو من تخلي عنه أبوه ونكص عن تحمل
مسئوليته ولو كان هذا الأب حيا.. أو يعتبره البعض خطأ من الأحياء!
إن معظم الأنظمة العسكرية
تبيح للقائد أن يأمر بقتل الجندي الهارب من المعركة خلال احتدامها بغير محاكمة..
لأن مجرد هروبه من الميدان خلال اشتعال أوارها قد أهدر دمه وإدراجه في قائمة
الخونة والأعداء, وهروب أب من مسئولية رعاية وحماية ابنتين صغيرتين مثلكما تاركا
إياهما للمجهول أمر لا يقل خسة ودناءة عن فرار الجندي من ميدان المعركة.. بل
لعله يفوقهما خسة.. إذ لا يمكن تفسيره بالخوف القاهر الذي قد يفقد المرء ثباته
واتزانه., وإنما يمكن تفسيره فقط بنقص المروءة وانعدام الإحساس بالواجب الإنساني
وغلبة الاستهتار والأنانية.
فاتصلي بي يا ابنتي مساء
الغد أو اكتبي لي رسالة أخرى تحمل اسمك وعنوانك.. أو تفضلي بالحضور مع والدتك
لمقابلتي مساء الاثنين المقبل .. عسى أن يجعل الله لك ولأختك من أمركما مخرجا إن
شاء الله.
نشرت في جريدة الأهرام سنة 2002
راجعها واعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر