الانتقام .. رسالة من بريد الجمعة عام 1990

 الانتقام .. رسالة من بريد الجمعة عام 1990

الانتقام .. رسالة من بريد الجمعة عام 1990

 
 إن العدل ألا يغفل الإنسان كل الاعتبارات التي تتعلق بالآخرين حين يفكر في أمر يخصه .. وألا يكون مشغولا سوى بنفسه فقط .. وينسى كل شئ آخر ! هذا هو العدل إن أردته حقا وصدقا.
عبد الوهاب مطاوع

أرجو أن أستنير برأيك فى مشكلتي .. فلقد نشأت في أسرة مرموقة اجتماعيا وأمضيت سنوات طفولتي وصباي سعيدة بين أبوين متحابين وإخوة متعاطفين .. وواصلت دراستي بتفوق إلى أن التحقت بكلية عملية .. هناك رآني مدرس بالكلية وتقدم لخطبتي .. ومضت أيام التعارف الأولى بسلام, رغم أني لاحظت عليه أنه كتوم يخفى أتفه الأمور ويراها ميزة من مميزاته .. ثم تمت الخطبة والزواج وعشت معه بكل الإخلاص والتفاني .. ورزقنا الله ببنتين وولد, ثم مضت السنوات وتوفي أبى, وكان زوجي يقدره ويعمل له ألف حساب, فبدأت ألاحظ على زوجي علامات مريبة أسأله عنها فيراوغ ويستخدم ذكاءه في إقناعي بأني ما أتصوره مجرد أوهام .. ثم بدأت أسفاره تكثر وبدأت الأعذار تتوالى للتأخر في السفر أسبوعا بعد أسبوع .. وواجهته أكثر من مرة بظنوني, فكان ينكرها ويتهمني بسوء الظن .. فأسكت وأنا أحترق .. إلى أن جاء يوم ترك فيه البيت ليصلي مرتديا الشبشب الجلدي, لأن المسجد قريب .. فمضت ساعة وإذا بسيدة تتصل بنا تليفونيا وتقول لنا أنه عندها في البيت وأنه مريض وتدعونا للحضور لاصطحابه إلى المستشفى .

 

وأسرعنا إلى العنوان الذي أعطته لنا .. وكان قريبا من بيتنا, ونقلناه للمستشفى وهو في حالة غيبوبة ويعانى من نزيف في المخ .. واكتشفنا أن السيدة التي اتصلت بنا هي زوجته عرفيا .. وأن زوجي أدى الصلاة ثم قاد سيارته بالشبشب إلى مسكنها القريب .. ورغم الكارثة التي كنا فيها فلقد تمنيت أن يفيق من غيبوبته ولو للحظة واحده لأسأله كيف سمح له ضميره بأن يفعل بى هذا .. وكيف أستطاع أن يعيش معي تحت سقف واحد وهو يخدعني .. ولماذا لم يتحمل من أجل أولاده الذين يحبهم ولا يطيق أن يمسهم شئ .. ولكنه لم يفق .. وانتقل إلى رحمة الله .. ولست أدرى هل كنت حزينة عليه أم على نفسي, وقد تفضلت "الأخرى" بالحضور للعزاء .. ومن حقها أن تفعل .. فلقد عاشت في الظل وآن لها أن تشهر زواجها ولو بعد فوات الأوان .. ولن تجد فرصة أفضل من هذا التجمع مع الأهل والأقارب والمعارف في أيام العزاء .. وفى وسط هذا الإحساس المتناقض الذي يتفاعل داخلي وأنا جالسة وسط المعزيات , قررت أن أتزوج! وبأسرع ما يمكن! وعلى أن تكون العصمة بيدي !

 

وتقدم لي أرمل من الأصدقاء توسمت فيه الطيبة والتدين ووافق على شرطي .. واستخرت الله وقبلت الخطبة, فإذا بأولادي الذين كبروا وأصبحوا في الجامعة وتزوجت منهم إبنتى منذ عامين, يرفضون زواجي ويثورون ثورة عارمة .. لماذا هل أنا مطالبة بالوفاء لذكرى من خدعني ولم يحترم وجودي وأنا حية أرزق إلى جواره؟

ثم رفض أبناء "الآخر" للأسف زواجه مني, وثاروا وهددوه بقتلي إن فعل رغم أنهم كلهم متزوجون ويعملون خارج مصر .. فهل هذا عدل؟ وهل من حق أحد أن يطالبني بالوفاء لمن لم يكن لى؟

 

ولكاتبة هذه الرسالة أقول :

ربما لا يكون من حق أحد أن يطالبك بالوفاء لمن لم يكن وفيا لك .. لكن من حق أبنائك بكل تأكيد أن يطالبوك بمراعاة الاعتبارات الاجتماعية والعائلية العديدة التي تفرض عليك أن تتريثي لفترة معتدلة قبل التفكير في الزواج بعد أبيهم, فليس هكذا تتصرف من تحرص على مشاعر أبنائها الكبار وعلى الشكل الاجتماعي والعائلي العام للأسرة .. وليس هكذا تفعل أشد الزوجات ضيقا بعشرة أزواجهن الراحلين.

إن من حقك الزواج بعد رحيل زوجك سواء كان وفيا لك أم لم يكن .. ورأيي دائما هو أن المرأة إذ آنست في نفسها الرغبة في الزواج بعد رحيل زوجها, ولم يتعارض ذلك مع واجباتها والتزاماتها تجاه أبنائها .. فإن الزواج يكون دائما أكرم لها وأصون لحرماتها.

 

لكن ذلك لا يعطيها أبدا الحق في أن"تُضفى" على زواجك هذا الشكل الإنتقامى الذي يسئ إلى ذكرى زوجك وإلى كرامة أبنائك وإليك أنت قبل الجميع .. ولا تفسير لهذه الرغبة المتعجلة عندي سوى أنه يخيل إلي أنه لم تربطك بزوجك الراحل علاقة حب من جانبك طوال رحلة زواجكما, لأن من أحبت زوجها ذات يوم وحتى ولو اكتشفت غدره فيما بعد, لا يكون كل ما تتمناه وهو بين الحياة والموت أن يفيق من غيبوبته لكي تحاسبه حساب الملكين عن زواجه سرا بأخرى, وإنما يكون دعاؤها وأمنيتها في هذه اللحظات العصيبة بأن يحفظه الله وأن يعيده سالماً إلى بيته وأبنائه وليكن بعد ذلك ما يكون كذلك فإن من أحبت زوجها ذات يوم لا تقرر أن تتزوج بعده وهى جالسة تتلقى العزاء فيه .. ولا تسارع إلى بحث الارتباط بآخر ولما تمض شهور على رحيل زوجها الذي عاشرته رحلة العمر.

 

تسألين عن العدل .. أقول لك أنه من العدل أيضا ألا يغفل الإنسان كل الاعتبارات التي تتعلق بالآخرين حين يفكر في أمر يخصه .. وأنه من العدل أيضا ألا يكون مشغولا سوى بنفسه فقط! وينسى كل شئ آخر ! هذا هو العدل إن أردته حقا وصدقا.

 ·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" مارس عام 1990

شارك في إعداد النص / بسنت محمود

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي

 


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات