ثمار الشوك .. رسالة من بريد الجمعة سنة 2002

 ثمار الشوك .. رسالة من بريد الجمعة سنة 2002

ثمار الشوك .. رسالة من بريد الجمعة سنة 2002

إن بعض الآباء يتصورون حق أبنائهم عليهم أمرا يتعلق بالمسئولية المادية وحدها ويمكن التنازع حول حدوده ومداه في ساحات القضاء عند الضرورة‏ ..‏ ولا يعرفون أنه حق إلهي تفرضه تعاليم السماء ولا تقبل فيه دعوى ويؤجر عنه من يقوم به حق قيامه في السماء قبل أن يشهد له بذلك في الأرض‏.‏
عبد الوهاب مطاوع

اكتب رسالتي هذه ردا على رسالة "النار المتأججة" للفتاة التي انفصل والدها عن أمها وهي طفلة صغيرة ولم يقم بحقها عليه ‏..‏ وتكفلت أمها برعايتها وكتبت إليك لتقول لك أنها تكن كراهية شديدة له ‏..‏ وترفض أن تسمح له بأن يقوم بدور الأب معها بعد أن كبرت في غيبته وتكفلت بها أمها وحدها‏..‏ وليس من حق من لم يزرع البذور أن يحصد ثمارها‏..‏ إلخ‏


فأنا سيدة أبلغ من العمر 29 عاما .. وقد تجرعت من نفس الكأس وتذوقت مرارتها ولم أستطع اعتيادها واستساغتها برغم طول السنين‏,‏ إذ أنني ضحية لما يسمى الطلاق المبكر.‏.‏ فلقد تزوجت أمي من أبي وهي طفلة في الثالثة عشرة من عمرها لترعي أطفاله الثلاثة بعد وفاة زوجته ابنة خالة والدتي‏,‏ ولم تستطع الطفلة بالطبع رعاية أطفال مثلها‏,‏ فطلقت من أبي وهي تحمل في أحشائها طفلة هي ثمرة هذا الزواج القصير جدا هي أنا‏,‏ وولدت في بيت أخوالي وجدتي وجدي وتربيت معهم وسط نظرات الإشفاق على أمي ومصمصة الشفايف كلما نظر أحد إلي‏,‏ ولم أعرف حتى بلغت الثامنة سوى أن جدي وجدتي هما أمي وأبي‏,‏ أما أخوالي وأمي الحقيقية فهم أخوتي‏,‏ وذلك حتى يتسنى لأمي الزواج مرة أخرى بسهولة‏,‏ غير أن الكراهية الدفينة في قلوب الجميع تجاه أبي وخاصة جدتي كانت تبيح لهم ولها أن تظهر بعضا منها من آن لآخر‏,‏ وأن تسبني بأبي كلما أخطأت مع عدم استطاعتها أن تسب أحد أخوالي بأبيه‏,‏ رغم كثرة أخطائهم‏,‏ فقد كان أصغرهم يكبرني بخمسة أعوام‏,‏ وكان معظمهم توائم مما قد يزيد من الأخطاء وقلة السيطرة‏,‏ وفي ظل هذه المعاملة غير المتساوية انطلق خيالي في كل الاتجاهات بما يتناسب مع عمري‏,‏ وحين بلغت الخامسة واستطعت أن أكتب اسمي كاملا قارنت بينه وبين اسم خالي أو من كنت أظنه أخي وخرجت بنتيجة تتناسب مع سوء المعاملة ونظرات الإشفاق من الجيران وهي أنني لست ابنة أسرتي وإنما أحضروني من أمام المسجد.

 

وتعايشت مع هذا الاعتقاد‏,‏ أسر به أحيانا إلى إحدى صديقاتي في المدرسة ولا أجرؤ على البوح به لأحد في البيت‏,‏ حتى إذا بلغت الثامنة كان أبي قد عاد من إحدى الدول العربية وتذكر أن له ابنة وأرسل في طلب رؤيتي‏,‏ وهنا قامت الدنيا ولم تقعد‏,‏ ماذا يقولون لي‏,‏ وتفتق ذهنهم عن إقناعي بأن جدي كان مسافرا ذات مرة فتزوجت جدتي من أبي وأنجبتني منه‏,‏ ثم عندما عاد جدي رجعت له جدتي وأنا معها‏,‏ والآن فإن أبي يريد رؤيتي‏,‏ ولم ينسوا بالطبع إبلاغي بأنه أسوأ إنسان على وجه الأرض وأنه لا يهتم بأمري وإنما يريد أن يأخذني من أحضانهم ويلقي بي وسط إخوة غير أشقاء وزوجة أب لا أعرفهم ليذيقوني جميعا ألوانا من العذاب‏,‏ ونجحت مساعيهم‏,‏ وعلى الرغم من فرحتي بظهور إنسان يهتم بوجودي في هذه الدنيا ويطلب رؤيتي‏,‏ فلقد دب الرعب في قلبي وأحال شوقي للقاء هذا الإنسان إلى تحفز وترقب‏,‏ وجاء يوم اللقاء فاشتروا لي أفخم الثياب وخلعت علي أمي وكذلك خالاتي كل ما كن يرتدين من ذهب حتى يظهرن مدى استغنائي عن أبي وعن نفقة حكمت بها المحكمة قيمتها ستة جنيهات لإعاشة كاملة ومدارس وغيره‏,‏ وذلك بعد تحايله وإدخال والدته في النفقة وهي التي لا تعيش معه ولديها أرض ومال‏..‏ إلخ‏.

 

 وذهبت إليه مع جدتي فلم تنس طوال الطريق أن تذكرني بما فعله معها وبطريقة معاملته السيئة وتمنيني تارة وتهددني تارة أخرى إن أنا ملت بمشاعري إليه‏,‏ مؤكدة أنها لن تتردد في أن تلقي بي إليه ولن يسأل أحد عني بعدها‏,‏ إلى أن وصلنا إليه وراعيت عدم إغضابها فوجدت نفسي كتلة من الخشب ليس لدي أحاسيس ولا كلام‏,‏ وشعرت بالخوف منه وجلست صامتة‏,‏ والتف حولي إخوتي غير الأشقاء يتفحصونني وأنا أجول ببصري في أنحاء المكان فأجد صورا معلقة على الحائط تسجل ذكرياتهم معا وبطولاتهم في النادي‏,‏ ونظرت إلى ملابسهم فوجدتها أفضل من ملابسي‏,‏ وإلى الحلي الذهبية التي تملأ معاصمهن وصدورهن‏,‏ ورحت أنظر حولي وكأني أبحث عن أي أثر لوجودي في هذه العائلة ولم أجده حتى في وجوههم‏,‏ وعرف الحزن لأول مرة في هذه السن الصغيرة طريقه إلى قلبي وشعرت أنهم ليسوا إخوتي‏,‏ وأن هذا الرجل الجالس أمامي ليس أبي وكيف يكون كذلك ولا يشعر بما يعتمل في صدري الصغير‏
,‏ وكيف يتركني أعاني مرارة الشعور باليتم والتبني وهو على قيد الحياة‏.‏


وفي هذا اليوم أخبرتني أختي الصغرى غير الشقيقة بأن جدتي هذه ليست أمي وأن أمي الحقيقية من كنت أظنها أختي وأناديها باسمها ولم تحتمل أعصابي كل هذا في يوم واحد فبكيت‏,‏ وهمت جدتي بأن تأخذني وتنصرف فطلب أبي أن يخيرني بينه وبين أمي‏,‏ على ألا أطلب رؤيتها مرة أخرى فالتزمت برد واحد وهو أنني أريد العودة إلى البيت‏,‏ وانصرفنا ولم يطلب أبي رؤيتي بعد ذلك أبدا‏.‏

وعدت إلى بيت جدتي وصارحتهم بما قالت لي أختي غير الشقيقة فاعترفوا بأنها الحقيقة وطلبوا مني الاستمرار في مناداة أمي باسمها وليس بكلمة ماما كما كنت أفعل‏.‏
ومضت السنوات وعندما بلغت السابعة عشرة من عمري كان الجميع قد انفضوا من حولي تقريبا‏,‏ وشغلت خالاتي بخطابهن وأزواجهن وأخوالي بجامعاتهم وأمي عقد قرانها على مهندس شاب يصغرها بعام ولم يسبق له الزواج ومريض بالفصام‏,‏ وقد اشترط هو ووالده قبل عقد القران ألا يكون لي وجودا في حياتهم وقبل الجميع بذلك وشعرت بالوحدة والخوف وتساءلت لماذا لا أتصل بأبي وأسمع منه الآن بعد أن كبرت‏,‏ وأصبحت أستطيع أن أميز الحقائق ولماذا أترك الكراهية تنهشني‏,‏ ولا أكون أكثر سماحة منه وأعطيه فرصة ليدافع عن نفسه أمامي؟‏!‏ إن الأمر يستحق وقد يكون ما بقي لي في العمر أكثر مما فات فلماذا أضيع على نفسي فرصة الهدوء النفسي في قادم الأيام؟‏!‏ واتصلت به دون علم أحد من أسرتي وخرجت من المدرسة لملاقاة أخي الأكبر ليوصلني إليه فوقفت ساعة ونصف الساعة بجوار أخي دون أن أعرفه ودون أن يجرؤ أحدنا على محادثة الآخر إلى أن حضر أبي واصطحبني وعرفني أبي من الزي المدرسي وتكرر معي ما حدث في المرة الأولى ورحت أبحث من جديد في ملامحهم عن أي أثر لوجودي وفوجئت بأنني قد أصبت بالقيء المتكرر طوال ساعات وجودي معهم فأوصلوني إلى البيت في موعد عودة المدرسة منعا للمشاكل ودخلت إلى حجرتي وأنا أشعر بالاضطراب وعدم الاتزان ولا أعرف ما إذا كان ما فعلته صوابا أم خطأ .

 

وفي الصباح التالي أخبرتهم بما فعلت فكان جزائي صفعات من جدتي على وجهي وصراخا ومحاولة طردي من البيت لأذهب إليه مع عدم نسيان سبه وسبي‏,‏ والجميع يحاول تهدئتها ويعدها بألا يتكرر ذلك وأمي تبكي‏.‏ ووجدتني أقول لها بإصرار لا بل سيتكرر ويتكرر لأنه أبي مهما حدث ولن استمد كراهيتي له من كراهيتكم ومن حقي أن أعلم وأن أعيش كفتاة سوية ومن حقه أن أعطيه فرصة لأن يكفر عن ذنبه وبدأ الجميع يهدأون وقرروا أنه لا ضرر من أن أذهب إليه في زيارات خلال الإجازات مثلا واعتذرت لجدتي وأمي وصارحتهما بكل ما في صدري من آلام وآمال فوافقتا على مضض وبدأت زياراتي لأبي وكنت أحاول في كل مرة قبل أن أذهب إليه أن أغسل قلبي من كل حقد تجاهه وأمني نفسي بالسعادة معه وأحاول ألا أجتر الأحزان وقلت لنفسي إن لم تستطيعي الحب فتحابي وقررت أن أبدي له الحب لعله يأتي يوم وأشعر منه بالحب فعلا حتى أنني كنت عندما أصحو من نومي وأنا عنده أجري عليه لأقبله على غير عادة إخوتي وأعد له الإفطار ونجلس سويا حتى كان إخوتي يداعبونني قائلين إنني سأعوده على ذلك فكنت أطلب منهم أن يدعوني أعوض ما فاتني طوال السنين
السابقة غير أن هذا لم يكن له للأسف أي مردود لديه ففي أحيان كثيرة كان يعايرني بأن جدتي كادت تدخله السجن بشيك أخذته عليه لكي يطلق ابنتها وكان يرى أنني لابد قد شربت منها طبعها‏,‏ وبدلا من أن أقترب منه بزياراتي كنت أشعر إنها تبعدني عنه وتحزنني فقد كانت التفرقة هنا أيضا واضحة من أكبر أخ إلى أصغر أخت حيث كانت مثلا آخر العنقود تأخذ من المال لتشتري الحلوى والشيكولاتة أكثر مما أكسبه أنا في يوم عمل شاق بالمكتب الذي أعمل به سكرتيرة لأوفر مصروفاتي وكان عمرها في هذا الوقت حوالي‏12‏ سنة.

 

 وشيئا فشيئا كانت الهوة تزداد اتساعا فهم يعرفون معاناتي ومتاعب عملي ودراستي لكن لا يشعرون بها وأبي يتجنب الحديث في هذه الأمور حتى لا يطالبه أحد بالمصروفات‏.‏
وأنهيت المرحلة الثانوية بتفوق والتحقت بإحدى كليات القمة التي لا توجد إلا في جامعة القاهرة فكان ضروريا أن أنتقل إلى بيت أمي وزوجها القريب من الجامعة وبعد بكاء أمي لزوجها انتقلت للحياة معها وكنت أمكث في حجرتي وأسمع زوجها المريض بالفصام وهو يصرخ فيها طوال الوقت ويسب ويتوعد ويلقي بالأشياء مما أحال الحياة في البيت إلى جحيم وعمق بداخلي الشعور بعدم الأمان‏.‏ فكنت أقضي أطول وقت ممكن في الجامعة وأعمل ثلاثة أيام في مكتب إلى أن تقدم لي من هو أكبر مني بحوالي عشرين عاما طالبا يدي وفي ظل هذه الظروف فكرت أحيانا فيما قد يكون أنه الخلاص‏,‏ لكنني قررت ألا أبيع نفسي وما بقي من عمري ويكفي ما ضاع منه ورفضت قبوله وزاد من غضبي وحقدي أن أبي كان موافقا عليه وزادني قبوله إصرارا على الرفض‏,‏ فرصيد أبي معي لا يؤهله لاتخاذ قرار مصيري لي‏,‏ ولقد كنت أبحث عن الأمان أكثر من المال‏,‏ ثم تقدم لي زميل لي في الجامعة ورفضته في البداية لصغر سنه واضطراب حياتي ولأني أشفقت عليه من تحمل تبعات ما حدث لي في الماضي لكنه نتيجة لإصراره ومثابرته أحببته وقبلت به ورفض أبي حتى مقابلته ولم آبه لذلك وخطبت له رغم رفض أبي فازددنا تباعدا وبدأت أحلم مع خطيبي بالحياة التي لم تبدأ بعد بالنسبة لي وبدأنا نفكر كيف سندخر وكيف سنجهز شقتنا ونحن نعلم أنه لن يساعدنا أحد حتى والد زوجي‏.

 

وفي ظل هذه الظروف بدأ زوج أمي بالتحرش بي ومضايقتي طوال وجودي في البيت وعندما أخبرت أمي بذلك كان ردها أنه مريض وما يفعله من أعراض مرضه‏,‏ ولم أستطع تحمل هذه الأعراض ولم أستطع إخبار أبي الذي أصبح يحدثني وكأنه يتشفي في عندما يبدو علي الإرهاق والمعاناة وكان الحل الوحيد هو أن نتزوج في شقة مفروشة‏,‏ وتزوجت بلا أب وبلا معين‏,‏ وبعد عناء شديد انتقلت إلى شقة فوق السطح‏..‏ ثم إلى شقة بالإيجار وأصبح عندي أثاث وأدوات كهربائية لكني مكبلة بالأقساط التي تذكرني كل أول شهر بما فعله بي أبي خصوصا إذا قارنت زواج إخوتي من حفل زفاف إلى شقة تمليك إلى أثاث فاخر وغيره وقد ساهم أبي على الأقل لكل واحدة بنصف التكاليف‏,‏ وكنت أتذكر أبي وشعوري نحوه كلما حملت وتنتابني حالة نفسية وقيء لا يتوقف حتى تتأثر حالتي الصحية ولا أعود كما كنت إلى أن تجري لي عملية إجهاض‏,‏ وقد علل الأطباء ذلك بأنني ربما لا أريد أن أنجب لعدم شعوري بالأمان أو لأحداث جرت لي في الماضي‏.‏

 

كما كانت تقتحم ذاكرتي ذكريات مؤلمة من الماضي مثل حادثة محاولة تحرش ساع في الحضانة بي وخوفي من إخبار أحد بما حدث ثم بعدها رؤيتي طفلة صغيرة مثلي سمعتها تشير إليه وتقول هو ده يا بابا فينهال عليه الأب ومن معه ـ ضربا أو حادثة اختطافي وسرقة قرطي الذهبي خلال ذهابي إلى الحضانة البعيدة عن البيت في الصباح الباكر وحدي وأذكر كل هذا فأتذكر أيضا أن أبي لم يكن أبدا موجودا من أجلي‏.‏

وفجأة وبعد‏ 26 عاما رن جرس التليفون ووجدت أختي تخبرني بأن أبي قد مات‏.‏ وضاع الأمل في أن يوجد من لم يكن أبدا موجودا‏.‏ وذهبت إلى العزاء قبل الدفن لأجد إخوتي يلتفون حولي يطلبون مني جميعا الصفح عنه ويبكونه بحرقة فوجدت نفسي أبكي وأبكي ولكن لسبب مختلف هو أنه لم يعد لدي أمل‏..‏ وأبكي لأنه لم يترك لي شيئا أبكيه من أجله وأشعر بالغيرة حتى من أحزانهم‏.‏ وطلبت أن أختلي به في الحجرة وعندها رفعت عن وجهه الغطاء ووجدت نفسي أتخيله يحاسب في ظلمة القبر وحيدا وينتظر صفحي فوجدت الدنيا كلها تهون في هذه اللحظة‏..‏ وسامحته من كل قلبي‏.‏
نعم الآن فقط يا أبي أستطيع أن أسامحك‏,‏ سامحك الله‏.‏

ولم تفلح كل كلمات زوجي قبل وفاة أبي في أن أسامحه بل لعلها كانت تشعرني ببعض الحقد على زوجي لعدم شعوره بإحساسي تجاه أبي لكنني الآن سامحته‏..‏ وبلا عتاب‏,‏ وبعد وفاة أبي رزقت بطفلتي الأولى بعد تسع عمليات إجهاض جرت لي في أثناء حياته‏.‏

والآن مازلت أنا وزوجي وطفلتي نجني ثمار الشوك الذي زرعه أبي في حياتي وكل هذا حدث لي وأنا أحاول أن أحافظ على السلامة النفسية والدين والعدل مع النفس ومع الغير غير أن كبت الغضب خاصة الناتج عن الجروح النفسية يورث المرض النفسي‏,‏ لقد قلت يا سيدي في ردك على رسالة النار المتأججة أن النفس الطيبة لا تكره ولكنها تعتب على من ظلمها وأنا أقول إن الكراهية هي الصورة الحادة للحب فأنت تستطيع أن تعتب على صديق أو زميل أو حتى أخ لكن المرارة التي يخلفها من تتوقع منه الأمان لن يفلح معها العتاب ذلك أن تحول أقرب الناس إليك إلي شخص غريب عنك في كل شيء‏..‏ في الملامح‏..‏ والشخصية والإحساس شيء في غاية الصعوبة ومن غير العدل أن أظل وحيدة ولي من الإخوة ستة علاقتي بهم أقرب إلى علاقتي بأقارب الدرجة الثالثة منها إلي علاقة الإخوة نتيجة خطأ فرد واحد وكل ذلك شديد القسوة على النفس .

 

إن من يحدث بإبنه عاهة مستديمة تسبب إعاقة يعاقبه القانون عليها بالسجن ثلاث سنوات مثلا‏.‏ فلماذا تعد الإعاقة النفسية أقل ضررا منها وما هي بذلك أبدا‏.‏ وبالرغم من كل ذلك فإني أقول لصاحبة رسالة النار المتأججة إن الزمن هو الذي يداوي الجروح وقد تظهر آثارها بعد أن تندمل لكنها على أي حال ستكف عن النزيف ويوما ما سوف تسامحين أباك كما سامحت أبي فاحتسبي كل ما حدث لك عند الله فما عند الله لا يضيع أبدا أعانك الله على تحمل ما ابتلاك به واختبرك به‏.‏

وأخيرا فإني أشكرك على هذه الفرصة التي ساعدتني على أن أخرج ما اعتمل في صدري طوال سنوات عمري الـ‏ 29‏ السابقة على الورق لعلي أستطيع أن أطوي أحزاني وأرسلها مع رسالتي هذه في البريد وأتخلص منها إلى الأبد‏.‏

ولكاتبة هذه الرسالة أقول‏:‏

ما أكثر الخطايا والخطاة في قصتك هذه‏..‏ ذلك أنهم أكثر من جان وليسوا جانيا واحدا كما تعتقدين

فلقد سبقت جناية والدك عليك‏,‏ جناية من رحبوا بزواجه من الأصل بأمك وهي طفلة في الثالثة عشرة من عمرها لكي ترعى أطفالا أيتاما في مثل عمرها فكتبوا بذلك أول سطر في قصة الأحزان التي شهدتها حياتك ورشحوك من قبل البداية للتمزق بين أبوين منفصلين ومكابدة إحساس اليتم المعنوي والنبذ والغربة بين الأهل‏.‏ ثم واصلوا خطاياهم الإنسانية والتربوية في حقك بعد انهيار الزواج‏,‏ فأنكروا بنوتك لأمك الطبيعية وحرموك من حق الانتماء إلى أم تعتز بنسبتك إليها وتواجه بك الحياة بلا تخف ولا إنكار حتى أورثك ذلك الشعور المؤلم بالتبني وانعدام روابط الدم بينك وبين من تعيشين في كنفهم‏,‏ ولم يكن الاعتزاز ببنوتك لأمك‏..‏ وتنشئتك النشأة الطبيعية في أحضان أم انفصلت عن زوجها ليغير شيئا كثيرا من حسابات زواجها مرة أخرى‏..‏ لكنها القسوة المعنوية التي لا تبرير لها‏,‏ وهي قسوة لم تتجسد فقط في هذا الإنكار المؤلم‏..‏ وإنما عبرت عن نفسها كذلك في عدم الحرص على معنوياتك‏,‏ وعدم التحفظ في سبك بابيك ولعنه أمامك كأنما يحملونه وحده مسئولية جنايته عليك وقد شاركوه هذه المسئولية من الأصل‏..‏ وامتد ذلك إلى عرقلتهم للتواصل الإنساني المفترض بينك وبينه بتخويفك منه وتهديدك بالويل
والثبور وعظائم الأمور لو مالت بعض مشاعرك تجاهه فضاعفوا بذلك من معاناتك وغربتك النفسية وافتقادك الأمان النفسي والإحساس بعز الأبوة‏.‏

أما مسئولية والدك غفر الله فعظيمة وكبيرة‏..‏ فلقد قصر في الكفاح من اجل مد الجسور بينه وبينك وتبديد بذور الشك والتوجس التي غرسها الأهل في نفسك تجاهه‏,‏ ولم يبذل من الجهد والصبر والمثابرة ما كان حقا عليه أن يبذله لكي يعوضك عن حرمانك من حق النشأة الطبيعية بين أبوين رحيمين بك‏,‏ ولم يجتهد لإشعارك بالمساواة بينك وبين أبنائه الآخرين وقد كان حقا عليه لا أن يشعرك فقط بذلك بل وان يميزك أيضا بعض الشيء عنهم بمزيد إضافي من العطاء المادي والإنساني لك تكفيرا عن جنايته عليك
كما كان حقا عليه أيضا ألا يدعك تلاطمين الحياة بلا سند ولا نصير لكي تبني عشك الصغير دون أي مساندة مالية منه كما فعل مع إخوتك‏..‏ فتذكرك أعباء الأقساط الشهرية لأثاث عش الزوجية وأجهزته الكهربائية‏..‏ بما رضيه لك من العناء

لكن ماذا نقول فيمن يفرط في حق ابنة له جني هو عليها بسوء اختياره لأمها وقلة صبره عليها وجني عليها بتخليه عنها بعد مولدها
إن بعض الآباء يتصورون حق أبنائهم عليهم أمرا يتعلق بالمسئولية المادية وحدها ويمكن التنازع حول حدوده ومداه في ساحات القضاء عند الضرورة‏..‏ ولا يعرفون أنه حق إلهي تفرضه تعاليم السماء ولا تقبل فيه دعوى ويؤجر عنه من يقوم به حق قيامه في السماء قبل أن يشهد له بذلك في الأرض‏.‏
فلقد جاء في الحديث الشريف‏,‏ إن من الذنوب ذنوبا لا تكفرها الصلاة ولا الصيام ويكفرها الغم بالعيال‏!‏
أي الاهتمام بأمرهم والكفاح في الحياة لإعالتهم ورعايتهم وإسعادهم
ذلك أنه جهاد شريف يؤجر عنه صاحبه كما يؤجر المجاهد عن جهاده بل إن احد الصالحين قد قال ذات يوم لإخوانه وهم في الغزو‏:‏
أتعلمون عملا أفضل مما نحن فيه فقالوا‏:‏ لا‏,‏ فقال‏:‏ رجل متعفف على فقره ذو عائلة قد قام من الليل فنظر إلى صبيانه نياما متكشفين فسترهم بثوبه‏!‏

وقيل للزاهد العابد إبراهيم بن أدهم‏:‏ طوبي لك فلقد تفرغت للعبادة بالعزوبة‏!‏ فقال لروعة تنالك بسبب العيال أفضل من جميع ما أنا فيه‏!‏
أي لأن تشعر بشيء من الخوف والهلع على أبنائك أفضل من كل عبادته وزهده‏..‏

ولقد حرم والدك نفسه من هذه المنزلة بالنسبة لك وان لم يحرم نفسه منها بالنسبة لإخوتك‏..‏ لكن كل ذلك قد أنقضى الآن وصفت نفسك الطيبة له‏,‏ بعد رحيله عن الحياة وتمثلك لوحدته وحسابه مع ربه يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتي الله بقلب سليم‏.‏
ولا عجب في أن تصفحي عنه وتغفري له‏,‏ يا بنتي في هذه اللحظة القدرية‏,‏ فهي اللحظة التي تسقط فيها الأحقاد والمرارات‏..‏ ويتراجع الحساب والعتاب ويتقدم الصفح والرجاء ولقد توقفت في رسالتك طويلا أمام مشهد الموت وأنت تشعرين حتى بالغيرة المؤلمة من بكاء إخوتك على أبيك وتتمنين لو كان قد أحسن إليك وقام بحق ربه فيك لكي يكون بكاؤك عليه خالصا من أية شائبة وتوقفت أمام قولك انك قد بكيت ليس حزنا على رحيله وإنما حزن علي أنه لم يترك لك شيئا تبكينه من أجله‏!‏

إنها درجة عالية من الصدق مع النفس وصدق الشعور وتذكرني بما قاله أديبنا الكبير نجيب محفوظ في ثلاثيته على لسان كمال عبد الجواد حين مات أبوه في شيخوخته‏:‏ إني حزين يا أبي لأني لم احزن عليك كما ينبغي‏!‏
أما عقاب القانون على من يخلف لابنه عاهة نفسية‏..‏ فانه أمر يستحق التوقف عنده أيضا وتأمله واستجلاء مغزاه الأليم‏..‏ ويبقى بعد ذلك أن أحييك علي رسالتك المفيدة هذه وان أرجو لك السعادة والأمان في حياتك ولطفلتك أن تنعم بكل ما حرمتك أنت منه الأقدار في طفولتك وصباك بإذن الله‏..

رابط رسالة النار المتأججة

رابط رسالة ورقة على الحائط تعقيبا على هذه الرسالة

رابط رسالة ذوبان الجليد تعقيبا على هذه الرسالة

 ·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 2002

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي

 


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات