السحابة السوداء .. رسالة من بريد الجمعة عام 1989
اقرأ بريد الجمعة بانتظام وأتألم لمعظم الرسائل التي تنشر فيه وأبكي أحيانا مع بعض أصحابها، لكن القصة التي أرويها لك لم اقرأ مثيلا لها حتى الآن في بريدك .. وهي ليست مشكلتي لكنها مشكلة أسرة شاءت الأقدار أن اقترب منها وأن ألمس ظروفها .. فأنا مدرسة بإحدى مدارس الإسكندرية الثانوية ، وقد تزوجت منذ 5 سنوات فزففت إلى زوجي في بيت أهله بأحد أحياء الإسكندرية ذات الطابع الشعبي ، وبدأت حياتي الجديدة مستبشرة بها وبأهلي الجدد وبالشارع الذي أقمت به ، وبعد فترة قصيرة من زواجي سمعت صراخا حادا في الشارع فعرفت أن ملك الموت قد زار أحد بيوت الشارع فاكتأبت لذلك وانقبض صدري لكن الصراخ تزايد بشكل عنيف فنهضت لأطل على الشارع لأرى ما يجري فيه فوجدت كل من في الشارع من السكان والباعة وأصحاب المحلات يبكون وتسيل دموعهم فتعجبت من ذلك وتساءلت عن السبب فعرفت أن الراحل طالب في الثانوية العامة كان ناجحا بتفوق في دراسته وتصورت أن رحيله في سن الشباب هو سبب هذا الحزن الشامل عليه .. لكني عرفت ما هو أكثر إيلاما من ذلك .. فقد عرفت أنه سبقه إلى نفس المصير وفي نفس السن تقريبا من شقيقاته وأشقائه .. وأن أبناء هذه الأسرة قد رحلوا جميعا بمرض غير معروف فهم يولدون أصحاء وبعد عدة سنوات يمرضون ويبدأون رحلة العلاج ويتم نقل الدم لهم باستمرار ثم يودعون الحياة في هذه السن تقريبا وعرفت أيضا أن قصتهم معروفة لدى أطباء الإسكندرية الذين شخصوا المرض بأنه ......
وكانوا يأخذون عينات من دم هؤلاء الأبناء ويرسلونها
لتحليلها في أمريكا ولكن بلا فائدة وتألمت لحال هذه الأسرة المنكوبة .. وعرفت أنه
قد بقي من الأبناء ثلاث فتيات منهن اثنتان تعانيان من نفس المرض وابنان خاليان منه
وأحسست برغبة شديدة في الاقتراب من هذه الأسرة الحزينة فتعرفت بالأم المكلومة وهي
سيدة في قمة الإيمان والأخلاق أما زوجها فهو قطب في إيمانه بالله وصبره على قضائه،
فهو كلما أذنت شمس إحدى بناته أو أبنائه بالمغيب .. لا يفعل شيئا سوى أن ينهض في
نفس اللحظة التي تنطلق فيها صرخة اللوعة .. ليتوضأ ثم يصلي ويستودع ربه فلذة كبده
ويستعوضه خيرا ثم يخرج ليحضر المراسم المألوفة فما أن يراه الجيران حتى ينفجروا في
البكاء أما هو فلا يبكي وإنما تعلو وجهه أمارات التسليم بقضاء الله وقدره .
وتعرفت أيضا
يا سيدي بكبرى البنات المبتلاة أيضا بنفس المرض، وأحببتها من كل قلبي وتمنيت لها
الشفاء والسعادة مع خطيبها الذي كان غائبا يعمل في الخارج ويستعد للعودة وبعد أن
عرفتها بقليل عاد خطيبها ففرحت الفتاة بعودته فرحة طاغية ليس لنفسها فقط وإنما
أيضا لأنها ستحقق أمل أمها في أن ترى إحدى بناتها عروسا .. بعد أن ثكلت من قبل في
ثلاث بنات أعدت لكل منهن جهازها ثم سبقتها إليها يد القدر فتركز أملها في هذه
الابنة العزيزة "وفاء" التي جمعت لها جهاز شقيقاتها الثلاث الراحلات
وانطلقت الأم تعمل بهمة لإنهاء ما بقي من متطلبات الزواج .. وقامت بتنجيد
المفروشات واستعدت هذه الأسرة الحزينة لكي تفرح بوفاء ربما للمرة الأولى منذ سنوات
طويلة وساعد على التمسك بالأمل أنها كانت أولى بناتها التي تصل إلى سن الثالثة
والعشرين فإذا بخطيبها يبعث إليها مع أحد أقاربه رسالة يعتذر فيها عن إتمام الزواج
لأنه علم أنها مريضة بنفس المرض ولا يريد أن يخاطر بالارتباط بها ، فانهارت الفتاة
وازداد مرضها أما الأم فقد انفجر ينبوع أحزانها فبكت بحرقة وبدموع كالشلال سوء حظ
ابنتها ورحيل أبنائها الراحلين جميعا .
وحزنت لحزن
وفاء وأخذتها عندي في شقتي .. وتحدثت معها طويلاً ورجوتها كثيرا أن تنسى هذا
الموضوع نهائيا وأن تنتظم في العلاج وطالبتها بالصبر والإيمان بأن الله سبحانه
وتعالى سوف يعوضها بأفضل منه ، وتمزق قلبي وأنا أراها جالسة أمامي مطاطية الرأس
كسيرة القلب ومستكينة لأقدارها وهي تؤكد لي بصوت ضعيف أنها مؤمنة بربها وبقضائه
وقدره وراضية بكل ما كتبه لها .. وتحمده وتشكره وتصلي بانتظام طمعا في رحمته .
وانصرفت وفاء
من عندي ودعوت لها من أعماق قلبي وفي كل صلاة بالشفاء وبأن يحقق لها الله السعادة
التي تستحقها فتاة مثلها في غاية الرقة والأدب والأخلاق، وتابعت بعد ذلك أحوالها
.. وعرفت أنها منتظمة في العلاج الباهظ التكاليف بالنسبة لأسرتها .. وأنه تجرى لها
عملية نقل دم كل أسبوع .
ومرت الأيام .. وجاء شهر رمضان الماضي وهي على خير حال .. اقترب الشهر من نهايته وقامت وفاء بصنع كعك العيد لتدخل الفرحة على قلب أمها ونظفت لها الشقة استعدادا للعيد ، فأحست ببعض التعب فاصطحبتها أمها التي علمتها الأيام ألا تصبر على أي تعب يصيب أبناءها إلى المستشفى .. فاحتجزها الأطباء عدة أيام للراحة والعلاج .. وقبل أن تشرق شمس يوم وقفة العيد .. انطفأت شمعة الفتاة الرقيقة لتصبح سادس أبناء هذه الأسرة المنكوبة التي ترحل عن الدنيا في سن الشباب .. وتكرر المشهد الحزين بكل تفاصيله السابقة في شارعنا ورأيت من خلال دموعي كل سكان الشارع يبكون مرة أخرى .. وكدت أصاب بأزمة نفسية بسبب حزني على هذه الفتاة الطيبة الجميلة .. وكرر الأب نفس تصرفه السابق ، وتقبل الأمر بنفس الصبر ونفس الرضا .
ولكاتبة هذه الرسالة أقول :
لقد قضى الأمر بإذن الله يا سيدتي فسوف يدعو
بريد الأهرام هذه الأم الثكلى لأداء العمرة وزيارة مسجد الرسول الكريم لتصلي بين
قبره ومنبره وتستلهم من سيرته العطرة ومما كابده من آلام الثكل وغيرها من الآلام
ما يقوي بإذن الله إيمانها ويخفف عنها بعض آلامها .. فإذا كانت "جروح الأبناء تذكارات خالدة في قلوب
الثكالى" ، كما يقول البعض فإن رحمة الله أوسع لهم ولكل جرحى الحياة .. وعلى
كل إنسان أن يوقد شمعته الصغيرة في طريقهم عسى أن تخفف عنهم بعض ظلام الحزن واليأس
والألم .. فاكتبي إلي يا سيدتي باسمها وعنوانها .. وسوف أكتب إليك قريبا بما يتم
اتخاذه من إجراءات سريعة بإذن الله .
أما هذا الأب الصابر وهذه الأم المكلومة فماذا استطيع أن اقول لهما وقد استعرضت في ذهني كل رصيدي من كلمات المواساة فلم أجد بينها ما يرتفع إلى مستوى أحزانهما ؟ فلعلي استطيع وقد عجزت عن نسج الكلمات أن أترجم رغبتي في التخفيف عنهما بالمساعدة في ترتيب هذه الرحلة المباركة وبأن أدعو الله لهما مخلصا أن تنقشع عن سمائهما هذه السحابة السوداء إلى الأبد إن شاء الله وأن يحفظ عليهما من بقي لهما من أبناء ويجزيهما خير الجزاء في الدنيا والآخرة عما تجرعاه حتى الثمالة من كؤوس الأحزان .
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر