غلطة العمر .. رسالة من بريد الجمعة عام 1993

 

غلطة العمر .. رسالة من بريد الجمعة عام 1993


غلطة العمر .. رسالة من بريد الجمعة عام 1993

 

تزوجت زميلتي بالجامعة بعد قصة حب ساخنة كانت حديث الزملاء وكنا خلالها روحا واحدة في جسدين حتى لقد كنت إذا مرضت أنا دعوت الله أن يشفيني رحمة بها , وإذا مرضت هي دعوت الله أن يشفيها رحمة بي ولو على حساب صحتي , وبعد تخرجنا من الجامعة بدأنا في إعداد عش الزوجية الذي سيجمع بيننا ووفقنا الله إلى العمل معا في مكان واحد حتى لا تختلف بنا السبل .. ولكي نذهب إليه معا ونعود منه معا كأن الله سبحانه وتعالى قد أراد لنا ألا نفترق أبدا .. وخلال فترة إعداد عش الزوجية حصلت على شقة مناسبة فصممت أنا بدافع من حبي الكبير لها على أن يكون عقد إيجارها بإسمها وعارضني في ذلك أصدقائي بل حتى أهلها أنفسهم واستغربوا ذلك مني لكني صممت على ما أردت مؤكدا لهم بأن ذلك سوف يقوي من أواصر الحب بيننا ويرسخ جذوره .. وتزوجنا وعشنا حلما واقعيا جميلا من أحلام السعادة , وأنجبنا أربعة أولاد ابنين وبنتين .. ودرج الأبناء في مدارج الطفولة بين أحضاننا والتحقوا بمراحل التعليم المختلفة حتى وصل أكبرهم للمرحلة الإعدادية وأصبحوا جميعا من المتفوقين بحمد الله .. وازدادت مشاعر الحب رسوخا في أعماقنا , فلم نعرف الخلاف والمشاحنات أبدا ولم يرتفع صوت أحدنا على الآخر طوال سنوات حياتنا السعيدة ولم نبت ليلة واحدة متخاصمين , بل ولم نتوقف عن تبادل كلمات الحب وعبارات الغزل التي كنا نتبادلها ونحن في الجامعة , ومضى على زواجنا حوالي 15 عاما ونحن على هذا الحال من السعادة الصافية فأثبت للجميع بعد نظري حين أصررت على أن أكتب شقة الزوجية بإسم شريكة حياتي .. لكنه فجأة يا سيدي ومنذ شهور فقط بدأت زوجتي تتغير من ناحيتي بلا سبب ولم تعد الحبيبة التي عرفتها طوال السنوات الماضية وإنما بدأت تمل من طلباتي وترد علي بلهجة حادة غريبة وتطالبني بأشياء لها لا أقدر عليها من الناحية المادية وهي الأدرى بحالتنا وبمطالب أبنائنا في المدارس , إلى أن وصل الحال بها إلى أن صدمتني بقولها ذات مرة أني ما دمت غير قادر على مطالبها فليذهب كل منا في طريق آخر واستوضحتها ما تقول مشفقا ففاجأتني بطلب الطلاق !

وعقدت الدهشة لساني ومرضت فلم أجد منها في مرضي القلب الحاني القديم الذي عهدته فيها بل تركتني مع الأطفال وخرجت إلى عملها أو لزيارة أهلها .. وكل ذلك وأنا لا أعرف سبب تغيرها الغريب إلى أن زارني في مرضي صديق حميم لي وشكوت له من تغير زوجتي وعجزت عن فهم أسبابه .. فأجابني بأن السبب هو أن عقد إيجار الشقة بإسمها وبالتالي فهي في مركز القوة وإما أن أخضع لأمرها أو أن أجد نفسي في الشارع لأنه لا مسكن آخر لي .. ولم أصدق ذلك ونفيته بشدة ثم عادت زوجتي من الخارج وفاتحتها فيما سمعت منتظرا أن تغضب مني لشكي في احتمال أن يرد هذا الخاطر على ذهنها , فإذا بها تؤكده لي بكل جرأة وتزيد عليه أنها تستطيع إذا أرادت أن تلقي بي في الشارع , وصدمت صدمة قاسية وشكوت لأهلها فإذا بهم أيضا يطلبون مني تنفيذ طلباتها , وأقسم لك أنه لم يحدث بيني وبينها شئ يبرر هذا التغير سوى أنني لا أستجيب لطلباتها الكثيرة من الملابس والفساتين وغيرها التي تريد شراءها ولا أقدر عليها.

 

 إن كلينا الآن في الخامسة والأربعين من عمره وقد أصبحت لا أحتمل النظر إلى وجهها "القبيح" الجديد الذي كشفت لي عنه الأيام فجأة , وبقدر حبي العظيم لها أصبحت أكرهها أضعافه, وأريد أن أسألك ما هو مصيري إذا تم الطلاق وعقد الشقة بإسمها وليس لي مسكن آخر .. وهل أطرد حقا إلى الشارع وما هو حقي عليها وكل ما دبرته خلال رحلة حياتي قد وضعته في تلك الشقة ؟

إنها غلطة عمري أنني كتبت الشقة بإسمها وأدفع الآن ثمن هذه الغلطة من سعادتي وأماني .. وأنا أستعين بالصبر والصلاة أملا في أن يوفقني الله إلى حل يهدئ خواطري .. فماذا أفعل يا سيدي ؟

جميع الحقوق محفوظة لمدونة "من الأدب الإنساني لعبد الوهاب مطاوع"

abdelwahabmetawe.blogspot.com

 
ولـكـــاتـــب هـــذه الـــرســالــة أقــــول:

 

يا إلهي .. وأين ذهب كل هذا الحب الذي ربط بين قلبيكما وجعل منكما روحا واحدة في جسدين تمرض إذا شكا أحدهما .. وتبرأ .. إذا برؤ ؟ وأين ذهب عائد الإيثار الذي دفعك لأن تصر على أن تكون شقة الزوجية بإسم شريكة الأحلام .. فتحول بالجحود والحماقة إلى غلطة العمر التي تندم عليها الآن ؟ بل وأين ذهبت العشرة الجميلة التي لم يرتفع فيها صوت أحدكما على الآخر 15 عاما أو تزيد ؟

ألا يحق لنا هنا أن نتذكر قول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم "أحبب حبيبك هونا ما عسى أن يكون بغيضك يوما ما وأبغض بغيضك هونا ما عسى أن يكون حبيبك يوما ما؟" .. أم ترى نتذكر قول الشاعر الفرنسي : يكتب على الماء .. يزرع في الرمال من يضع كل أمره في قلب إمرأة !

أم أن الأحق بالتذكر هو قول الشاعرة الأمريكية : ليس يشقي أيامي أن الحب ذهب .. وإنما لأنه قد ذهب لأتفه الأسباب ؟!

وهل هناك سبب أتفه بل وأحقر من هذا السبب لهدم قصة حب كهذه القصة أو لتشريد أربعة أطفال وحرمانهم من حياتهم الآمنة وهل أسعدت جدران المساكن وحدها أحدا خلا قلبه من الحب والعطف لشريك حياته لكي تهدم زوجتك هذه القصة وتهدد سعادة أبنائها من أجل مسكن من عرض الدنيا الزائل ؟ إذن فماذا أصابها ؟ إننا إذا حكمنا كفقهاء الظاهرية بظاهر النص والتزامنا بحرفية رسالتك وافترضنا أنه ليست هناك أسباب أخرى غير معلومة لهذا التحول الذي أصابها , فلن نجد تفسيرا مقبولا له إلا تعرضها كبعض السيدات في عمرها لأزمة منتصف العمر وما يصحبها من تغيرات فسيولوجية ونفسية تغير مؤقتا من طبيعة المرأة وتجعلها أكثر عصبية وأكثر أثرة واهتماما بالنفس وأقل احتمالا واستعدادا للعطاء , وقد بدأ ذلك واضحا في أن بداية التغيير قد ارتبطت ببداية مللها من مطالبك وضيقها بها ثم في ردودها الحادة وكثرة مطالبها الشخصية على حساب مطالب الأسرة والأبناء , وهي على أية حال فترة مؤقتة ستجتازها بسلام إذا أعنتها أنت عليها بالفهم والصبر على تغيراتها ومللها وضيق صدرها مع زيادة الاهتمام بها واشعارها بأنها ما زالت فتاة القلب التي صارعت الدنيا لتفوز بها لكن لا تهتز أمام تهديدها الأجوف ولا تتخاذل أمامها فهي أضعف من أن تنفذ هذا التهديد الأحمق فتواجه الحياة كمطلقة وحيدة ومسئولة عن أربعة أطفال , وهي الخاسرة إذا فقدت شريكا محبا ومتفانيا مثلك لن تستطيع أن تعوضه ولن تسمح لها الحياة بأن تعيش مرة أخرى بعض قصتها معك , ثم أنها في النهاية أم وتعرف جيدا ماذا يعني الطلاق والانفصال لأربعة أطفال صغار .. وما تهديدها هذا سوى محاولة حمقاء على لي ذراعك للاستجابة إلى مطالبها العارضة .. وما اتفهها بالقياس إلى ما سوف تخسره إذا جف ينبوع حبك لها وفقدتك حقا , ولو شاءت أن تجرب وفشلت أنت في اصلاحها .. فلا بأس بأن تتجرع عناء الحياة كمطلقة ذات أولاد بعض الوقت لتعرف بالتجربة ماذا أضاعت من بين يديها حتى ولو اضطررت أنت للإقامة لدى بعض الأهل أو في فندق صغير أما عن الاستشارة القانونية .. فالشقة من حقها ما دام عقد ايجارها بإسمها لكن حبال النزاع طويلة .. والعلاقة الإيجارية يمكن إثباتها بأكثر من طريقة منها عقد الكهرباء وعقد التليفون .. وأشياء أخرى .. يعرفها المتخصصون وما أكثرهم .. وأنتما على أية حال لن تترديا بإذن الله إلى هذه الهاوية المزرية احتراما على الأقل للحب الذي كان ولحق الأبناء عليكما معا منك ولن يتطلب الأمر سوى بعض الصمود .. وبعض الصبر .. وبعض المرونة أيضا لأنها من صفات الراعي الحكيم.

رابط رسالة أحلام الأمان تعقيبا على هذه الرسالة

نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" يناير 1993

كتابة النص من مصدره / بسنت محمود

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات