عطر الحب .. رسالة من بريد الجمعة عام 1993

 

عطر الحب .. رسالة من بريد الجمعة عام 1993

                 عطر الحب .. رسالة من بريد الجمعة عام 1993

أكتب لك هذا التعليق المتأخر على رسالتين نشرتا في بريد الجمعة وهما رسالتان "غلطة العمر" .. و"أحلام الأمان" اللتان تروي كل منهما قصة زوج أحب زوجته ووثق فيها وعاشرها عشر سنوات وكتب عقد شقة الزوجية بإسمها , ثم غدرت به زوجته واستولت على الشقة أو المال الذي كتبه بإسمها .. وتحطمت الحياة الزوجية بعد قصة حب عاشها الطرفان قبل الزواج وبعده بسبب وحش الطمع في متاع الحياة وهو قليل مهما كثر , لقد أثارت هاتان الرسالتان مناقشات كثيرة بيني وبين زملائي هنا في الغربة .. وراح كل منهم يتهم المرأة بصفة عامة بالغدر والمادية ويقول أن هذه هي طبيعتها وإن الزوج في كل من القصتين قد أخطأ حين وضع ثقته الكاملة في زوجته .. وأنا أريد أن أسألك يا سيدي هل هذه حقا طبيعة المرأة .. وهل يخطئ الزوج فعلا بالثقة في زوجته؟

إنني شاب أبلغ من العمر 38 وقد تزوجت منذ ثماني سنوات .. ولم تسبق زواجي قصة حب ملتهبة ولا طويلة .. بل إنني لم أشاهد زوجتي جيدا واحفظ ملامح وجهها الجميل بحيث أستطيع أن أميزها من غيرها إلا خلال عقد القران ولم تزد فترة الخطبة منذ تقدمت إليها إلى أن تزوجتها على ثلاثة شهور .. إذ كنت أعمل وقتها في الخارج ثم عدت مع زوجتي إلى مقر عملي .. فكانت لي ومنذ اليوم الأول الذى إحتوانا فيه بيت الزوجية خير متاع الدنيا الذي قال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم عنه :
"إن المرأة الصالحة التي إذا نظر إليها زوجها سرته وإذا غاب عنها حفظته في عرضه وبيته وماله " وقد حرصت منذ أول شهر من زواجي منها على فتح حساب في البنك بإسمها بالقاهرة إلى جانب حسابي وأعطى كل منا توكيلا للآخر ليسحب من حسابه ما يشاء ثم عشنا في الغربة أربع سنوات كانت امتدادا لسعادتنا ورحلتنا الهادئة الجميلة في الحياة , ولست أنكر أننا كنا نختلف احيانا كأي زوجين .. لكن أي خلاف لنا لم يتعد الحدود الآمنة له ولم يستغرق أكثر من وقته , ومضت حياتنا دائما سعيدة معطرة بالحب الصادق الذي نشأ بعد الزواج وتعمق في أغوار كل منا وبالثقة التي كرستها الأيام في كل منا تجاه الآخر .. ومنذ حوالي تسعة شهور جاءتني فرصة عمل أخرى في الخارج فسافرت إلى هناك ولكن وحيدا هذه المرة لأن عملي بشركة بترول في الصحراء حيث أعمل لمدة ثلاثة شهور متصلة ثم أحصل على إجازة لمدة شهر أقضيه مع زوجتي وأولادي في مصر ..

واستمتع بكل يوم وكل لحظة فيه بدفء الحب والاخلاص المتبادل بيننا .. وقبل سفري أعطيت زوجتي توكيلا عاما مني للتصرف في مالي وكل شئوني .. مما دفع كل من عرف بالأمر من زملائي في الغربة إلى أن يلومني على ذلك ويتهمني بالعبط لكني لست نادما على ما فعلت يا سيدي بل إنني فخور به .. وبثقتي الكاملة في زوجتي التي هي جزء مني ولا يستطيع الجزء أن يغدر بنفسه ولأنها مثل غالبية الزوجات تحفظ زوجها في ماله وبيته , ثم ماذا تريد المرأة أكثر من زوج يحبها ويرعاها ويحميها من غدر الأيام .

إنني أكتب لك قصتي ليعرف الجميع أن الزوجتين اللتين خانتا زوجيهما في مالهما في القصتين المشار إليهما ليستا إلا نموذجين نادرين , ولكي تحصن قارئاتك يا سيدي ضد وباء الطمع في متاع الدنيا التافه الذي حطم الزواج في تلك القصتين في زوجاتنا حتى لا تصبح هاتان الزوجتان هما مثال الزوجة وإنما الاستثناء النادر من الأصل لأن الزوجة الطبيعية هي التي تحرص على زوجها المحب ولا تفرط فيه طمعا في شقة ولا في مال مهما بلغ قدره .. فما هو رأيك في ذلك يا سيدي.

 

ولكــاتـــب هـــذه الرســالــة أقول:

 

حين تتعطر الحياة بأريج الحب والإخلاص والعطف المتبادل تتشابك خيوط الحياة بين الزوجين بحيث يصعب التمييز بينها أو فصمها .. وهذه هي الحياة الطبيعية كما أرادها الله للإنسان الذي لم يخلقه ربه ليشقى .. وإنما ليسعد ويعبد ربه ويذكر اسم الله كثيرا .. وليست قصص الغدر والجحود كما قلت مرارا سوى خروج على الطبيعة الإنسانية التي تميل بفطرتها إلى الإخلاص والوفاء وتلمس الأمان في ظلال واحة شريك محب عطوف لرحلة حياة.

ومن أطرف ما قرأت مؤخرا من تعبيرات عن الحب تعبير جميل للأديب الراحل الدكتور زكي مبارك يقول فيه أن "الحب الحقيقي كالإيمان فيه توحيد" , هذا صحيح فإذا صدق الحب صدق التوحيد فيه .. وحقت الثقة في طرفة الآخر .. ولقد قلت مرارا وسأظل أقول دائما أن الإنسان خير بطبعه وأنه يستنكف الغدر بمن يثق فيه .. ويتهيب الحرام .. ويتشوق في أعماقه ولو كان من العتاة المجرمين إلى الحلال والحياة الآمنة الوادعة .. فإذا كانت صور الشر كثيرة .. فإن مثال الخير أعم وأشمل لأنه القاعدة والأصل في كل الأحوال , كما أن الإيمان بالخير والميل للثقة في الآخرين لا يتعارضان مع التماس الأسباب لحماية النفس والحب ضد نوازع الشر أو نزعات الشيطان أو تقلبات الأيام , ولهذا فلا لوم عليك فيما فعلت لأنه يتسق مع فطرة الإنسان الطبيعية ومع جدارة زوجتك الطيبة بالثقة فيها , ولا لوم أيضا على من لا يفعل مثلما فعلت لأنه يتسق أيضا مع ميل الإنسان الغريزي لحماية نفسه من أخطار المجهول .. والاعتدال في كل الأحوال مطلوب ومرغوب.

فإذا كان البعض يتعاملون مع حياتهم الخاصة بمفهوم الكلمة التي تقول أن الزواج كالجلوس على ظهر سفينة في عرض البحر الهائج كلاهما ينبغي أن يمارسه الإنسان بحذر ! .. فإن الحذر من السقوط في الماء لا ينبغي له أن يدفع الإنسان لحجب ثقته عن شريك حياته بلا مبرر أو للتشكك في نواياه تجاهه بلا سبب .. والضمان الأكبر هو دائما الحب الصادق والخلق والفطرة السليمة التي تنفر الإنسان العادل من أن يغدر بأحد أو يغتصب حقا لأحد.

وإذا كانت المرأة الصالحة هي خير متاع الدنيا كما قال حقا وصدقا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم , فإن الزوج المحب الأمين هو أيضا خير جوائزها لمن كانت خير متاع لشريك حياتها .. والمرء على دين خليله يا صديقي .. وشكرا !

رابط رسالة غلطة العمر 

رابط رسالة أحلام الأمان

نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" يونيو 1993

كتابة النص من مصدره / بسنت محمود

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي

Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات