الثمرة الجافة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1993
قرأت في بابك مشاكل كثيرة ومتنوعة بعضها مؤلم ومبك وبعضها أقل إيلاما لكني لم أقرأ فيه حتى الآن مشكلة كمشكلتي .. وقصتي أنني سيدة تزوجت منذ عشرين عاما من طبيب يكبرني بـ 18 عاما تأثرا بالفكرة السائدة عند بعض الفتيات بأن العريس الأكبر سنا أقدر على أن يوفر لزوجته الحياة الكريمة التي لا تتوافر امكانياتها عند الشاب المقارب لها في السن أو يكبرها بسنوات قليلة لأنه قد بني نفسه وحقق نجاحه .. وكانت البداية كما بدت أمامي مشجعة ومغرية، فزوجي طبيب في الخامسة والأربعين من عمره وأنا فتاة في السابعة والعشرين .. وهو لدية عيادة وأملاك وله دخل كبير ومضمون.
أما النهاية وبعد عشرين عاما فهي كالآتي : لدى زوجي عيادة مربحة في وسط المدينة وعمارة وأرض مبان وشقق مفروشة وأموال طائلة في البنك وقد بلغ عمره الآن 65 عاما , ومع ذلك فلا شئ في الحياة يشغله سوى الاستمرار في جمع المال كأنه شاب يكافح ليبدأ حياته وليته يجمعه لكي يتمتع به ويمتع به زوجته وأولاده .. ولكنه يجمعه لكي يضعه رزما فوق رزم في البنك .. أما أنا والأولاد فيضع لنا في الثلاجة الفول والجبن القريش فقط لا غير للإفطار والعشاء .. أما وجبة الغداء "فخليها على الله" ولابد أن أدوخ معه حتى يرق قلبه بعد عذاب ويحضر لي شيئا لكي أطهوه للغداء !
وأما الفسحة في أي مكان فلا نعرفها وأما التصييف فسفاهة لا تليق بالعقلاء من أمثالنا وأما الهدايا الصغيرة للأبناء عند نجاحهم مكأفاة لهم على تفوقهم الدراسي فشئ غير وارد في قاموس حياتنا .. وآه لو طالبته بشئ لي أو للأولاد فالزوابع تهب وصوته يعلو ويجلجل لكي يكتمني .. وانكتم فعلا خوفا من أن يسمع بنا الجيران وتكون الفضيحة , ويكفيني من الفضائح رائحته وملابسه التي لا يغيرها كثيرا حتى لا تذوب من كثرة الغسيل ! وكلما تصبرت وتصورت أنه قد حقق ما أراد وأن زمن الراحة والاستمتاع قد أذن بالمجئ خاصة وقد انقضت زهرة العمر في الحرمان أجده لا يتغير ولا يتحسن بل يزداد بخلا وتقتيرا علينا وعلى نفسه ويزداد شراهة في رص النقود في البنك , وأخيرا جاءت الكارثة وفوجئت وهو في الخامسة والستين من عمره يفكر في بناء عمارة جديدة أي أننا بدلا من أن نستمتع بالحياة ويلبي لنا مطالبنا الضرورية سوف نواصل شد الحزام على بطوننا وسنضيقه أكثر وأكثر حتى يفتك بنا .. لأنه كما سيقول لنا يبني .. وليس لديه مال سائل إلخ .. يا ربي إنني سأفقد عقلي .. عمره 65 عاما ويريد أن يبني عمارة وأولاده سينهارون من سوء التغذية ومن الحرمان من كل ما يتمتع به أصدقاؤهم ومن هم في مستواهم .. لقد قتل فينا زوجي حب الحياة وبعد أن كنت مرحة وأحب الناس وأرعى بيتي على أحسن وجه فقدت رغبتي في العمل والحياة ولم أعد أطيق الصبر وأنا أرى أولادي ينهارون فاضغط على نفسي لأحاول أن أبدو أمامهم طبيعية حتى لا تزداد حالتهم النفسية سوءا , إنني أرجوك أن توجه إليه كلمة تطالبه فيها بألا يظلمنا أكثر من ذلك وتقول له فيها بناء أولاده وزوجته أهم من بناء العمارات وأنه حرام أن يضيع أولاده بسبب الحرمان وسوء التغذية وهو مشغول بجمع المال والتفكير في بناء عمارة جديدة , لكن لا يا سيدي لا توجه له أي كلمة فهو لا يهمه أي كلام ولا يأخذ بأي نصيحة وإنما قل لي أنا بربك ماذا أفعل مع أولادي الذين هم على وشك الانهيار بسبب معاملته لنا وبخله الشديد علينا .. وأرجوك ألا تهمل رسالتي لأنني والله العظيم فكرت في الانتحار مرارا ولولا إيماني بربي وخوفي على أولادي لأقدمت عليه .. ووجه كلمة أيضا لكل فتاة بألا تتزوج من هو أكبر منها سنا بفارق كبير جريا وراء وهم الامكانيات والعريس الجاهز الذي سيوفر لها الحياة الكريمة .. وحالي خير دليل .. فأنا في حرمان طول العمر وزوجي عمره 65 سنة .. وبدلا من أن يعوضنا عن سنوات الحرمان .. يفكر في بناء عمارة جديدة وفي شد الحزام على بطوننا مرة أخرى .. إنني سوف أجن قريبا .. فانجدني بكلمة !
ولـكـــاتـــبة هـــذه الرســـالـــة أقـــول :
لا وسيلة للتعامل مع الزوج البخيل إلى هذا الحد الشائن سوى واحدة من ثلاث : أن تعوض الزوجة بخله وتسد نقص مروءته بمالها الخاص إن وجد .. أو أن تشاركه هواية البخل والتقتير وتكديس أوراق النقد الصماء في البنوك فينتفي سبب النزاع الدائم بين الطرفين ويسود السلام .. أو أن تصبر عليه وتكف عن محاولة نطح الصخر برأسها على أمل تغييره واستنهاض مروءته مؤجلة تعويض حرمانها وحرمان أولادها إلى أن يهبط "الحل الإلهي" من السماء في موعده .. فيكون فيه الشفاء للمحرومين.
هذه هي الوسائل الثلاث الوحيدة ولا حل آخر سواها للأسف للزوج القادر المقتر إلى هذا الحد المعبب ولأن البخل آفة لا شفاء لها ولا أمل في أن يصبح المريض بها منصفا مع نفسه وأسرته والحياة ذات يوم , لأن البخيل ظالم لنفسه وللآخرين .. وإمام جليل كالإمام أبي حنيفة النعمان كان لا يعتبره شاهدا عدلا لأن البخل يحمله أن يأخذ من الآخرين فوق حقه تحرزا من أن يأخذ الأقل وبالتالي فلا يكون أمينا !
وأي بعد عن الأمانة والمروءة والشهامة .. من "أن يضيع المرء من يقوت" أي من يعول كما جاء في مضمون الحديث الشريف
وكيف يقبل أب قادر على نفسه وعلى كرامته أن يحرم أبناءه إلى حد أن يتهددهم خطر سوء التغذية فضلا عن الآثار النفسية المدمرة لاحساسهم بالنقص عمن هم في مستواهم الاجتماعي لغير ما سبب سوى ممارسة هواية تكديس المال .. أو التفكير في بناء عمارة جديدة , وأولاده وزوجته يعانون من السقم والحرمان .
إن زوجك يا سيدتي ثمرة جافة لا تغني ولا تسمن من جوع فلا تجهدي نفسك وصحتك وأعصابك في محاولة اعتصار بضع قطرات منها ليرتوي أولادك ولا حل أمامك سوى الصبر على "المكاره" .. إلى أن تزول أسبابها أو اللجوء للقضاء لطلب نفقة شهرية عادلة لك ولأولادك تتناسب مع ثروه ودخله الكبير لكني لا أرى لك ذلك حرصا على مصلحة الأسرة والأبناء وعشرات الاعتبارات النفسية والاجتماعية التي تراعينها أنت حين تتنازلين عن مطالبك حتى لا يسمع الجيران بالنزاع المخجل حول ضروريات الحياة .
وهناك بعض المواقف في الحياة يكون التصرف الوحيد والمتاح لنا إزاءها هو أن نعمل بكل ما نملك من جهد على أن نحمي صحتنا وجهازنا العصبي من التأثر بأضرارها وإشعاعاتها السامة لننجو منها أو نجتازها بأقل قدر ممكن من الخسائر النفسية والصحية , أملا في تغيير الأحوال إلى الأفضل بعد حين وحرصا على ألا نصل إلى هذه المرحلة المنتظرة وقد فقدنا القدرة على مواصلة الحياة أو الاستمتاع بها ! وهذا هو الفوز الوحيد الذي يجب أن تسعي إليه لك ولأبنائك في الوقت الحالي .. وبكل السبل الممكنة .. أما "تغير الأحوال" فقادم في موعده لا محالة وأما ما حرم نفسه وحرمكم منه فلسوف يدعه في موضعه ويخلفه لكم لتعوضوا به كل سنوات الجفاف الطويلة ! وقديما هجا شاعر عربي بخيلا فوصفه بأنه يجمع لغيره ويقاتل لحماية ما جمعه ضد رغبات نفسه وأهله والجميع ثم يدعه في مكانه ويرحل طاويا أي جائعا :
ككلب الصيد يمسك وهو طاو
فريسته ليأكلها سواه
وهكذا يفعل كل مقتر على نفسه وأبنائه وأسرته وأهله .. فعقل هذا أم جنون ؟
وهل هناك شفاء للجنون المستحكم .. أو وسيلة للتعامل مع فاقد العقل والبصيرة سوى مداراته والصبر عليه إلى أن يحم القضاء .. وكل ما حم نازل .. لكن بعضهم لا يصدقون ؟!
نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" سبتمبر 1993
كتابة النص من مصدره / بسنت محمود
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر