النداء .. رسالة من بريد الجمعة عام 1987

 

النداء .. رسالة من بريد الجمعة عام 1987

النداء .. رسالة من بريد الجمعة عام 1987


تلقيت فى بريدى هذا الأسبوع هذه الرسالة :

أنا يا سيدى سيدة فى السادسة والثلاثين من عمري تخرجت منذ 15 عاما فى إحدى الكليات النظرية والتحقت بالعمل فى إحدى الهيئات وفى المكتب الذى كنت أعمل به كان هو يجلس إلى المكتب المجاور لي .. شاب اسمر وسيم مهذب واثق من نفسه رغم أن مظهره ينم عن ضآلة

إمكانياته المادية .. وكنت أنا من أسرة ميسورة نسبيا .. وقد أمضيت سنوات الدراسة كلها بلا أي تجربة عاطفية .. إلى أن التقيت به ووجدت نفسى تميل إليه.

وخلال شهور كنت قد ارتبطت به عاطفيا ولكن بدون مصارحة, فلم يحدث بيننا شئ سوى تبادل النظرات والاهتمام فى حدود الزمالة .

وذات يوم كان جالسا على مكتبه حين دخلت فى الصباح ولم يكن فى الغرفة غيرنا..

فتوجهت إليه ووضعت على مكتبه لفافة صغيرة ثم عدت وجلست إلى مكتبي بغير كلام .. فنظر إلي طويلا ثم إلى اللفافة .. ثم فتحها فوجد داخلها "كرافت" وزجاجة كولونيا فاخرة وحين رفع عينيه لينظر إلي خفضت عيني وانكببت على الورق أمامي وأنا أسمع دقات قلبي .. وأشعر بطنين غريب فى أذني .. ثم سمعت صوته يشكرني .. ويسرع بإخفاء اللفافة فى مكتبه لأن الزملاء قد جاءوا ومضى اليوم بغير أن أعرف نتيجة ما فعلت .. لكني لاحظت أنه كان ودودا معي طوال اليوم.

 

وفى اليوم التالى ذهبت للعمل مبكرة متلهفة على أن أراه فوجدته على مكتبه يرتدي الكرافت ويبتسم لي بسعادة وهكذا بدأت قصتنا معا .. وخلال أسابيع كان قد تقدم إلى أبي يخطبني منه .. وغرقت في حبه حتى القاع .. وبدأنا نعد للزواج .. وكان غير مستعد ماليا فساعدني أهلي بما يستطيعون واثنتا شقة صغيرة من غرفتين فى الدور الخامس من عمارة ليس بها أسانسير .. وبدأنا حياتنا معا.. وكانت أياما سعيدة رغم نقص الإمكانيات .. والسلم الذي كنا نصعده عدة مرات كل يوم .

كنا نتقاضى معا أقل من 70جنيها .. لكننا كنا سعداء بمشاركتنا معا فى كل شئ .. نصحو معا في السادسة صباحا .. ونفطر معا ونرتدي ملابسنا معا وننزل السلم الطويل إلى محطة الاتوبيس ثم نمضي ساعات النهار والمساء معا نعد الطعام ..نستريح .. نشاهد التليفزيون الأبيض والأسود معا .. نزور أهلي أو أهله إلى أن ننام وليس فى الدنيا أسعد منا.

ولأننا كنا نسدد أقساط بعض الأشياء التى اشتراها للزواج فلقد كنت أعطيه مرتبي كاملا .. وآخذ منه مصروف البيت كل شهر.. وكنت أدبر أموري بما لا يدفعنا للاقتراض فكنت اشرح دجاجة الجمعية تشريحا لكى تكفينا لمدة يومين .. وأقطع شرائح اللحم رقائق شفافة كورقة السيجارة لكى يكفينا الكيلو 4 أيام وأحيانا 5 أيام .. ونمضي أمسيات كثيرة أمام التليفزيون لكي نوفر نفقات الخروج .. وأصنع قالب الكيك بعدة قروش لكي أقدمه للضيوف ونحافظ على مظهرنا، ولكيلا اشتري الجاتوه .. وكنت أنا سعيدة بكل ذلك .. أما هو فرغم سعادته فلقد كان يتطلع أحيانا إلى حياة أكثر سهولة .. ويحلم بشقة أوسع، وفى عمارة لها أسانسير.. ويحلم بسيارة توفر علينا عذاب المواصلات.

 

وكان يسعى عن طريق كل من يعرفه للعمل فى الخارج حتى تحقق أمله بالفعل وجاءته فرصة للعمل فى دولة عربية .. ورغم ضيقي بالمشروع لأنه سيفرق بيننا لعدة شهور على الأقل .. فلقد وافقت عليه وشجعته على السفر..على أن ألحق به حين يستعد .

 

وسافر مودعا مني بالقبلات والبكاء حتى لفت منظرنا أنظار المسافرين فى المطار فى الصباح الباكر.. إذ كان كلما ودعته ومضى ليدخل الدائرة الجمركية جريت إليه مرة أخرى باكية وقبلته فيبكي وبقبلني ثم يتركني فأجري وراءه مرة ثانية و4 أو 5 مرات لا أذكر.

وسافر حبيبي ووجدت نفسي وحيدة لا أطيق الحياة أكتب له كل يوم خطابا وأسأل كل يوم على خطاباته, وأقرأ خطاباته وأنا أبكي وأتعجله في كل خطاب فى السفر إليه .. حتى أرسل يستدعيني فقدمت طلب الأجازة بدون مرتب وطرت إليه سعيدة , وفى البلد العربي الذي يعمل فيه اكتشفت أن علي أن أسكن معه فى غرفة صغيرة كانت سكنا لبواب العمارة, لأن عمله لا يوفر له المسكن ولأن إيجارات المساكن هناك باهظة .. ولم يزعجني ذلك لأني كنت أريد أن أعيش معه وقد تحقق هذا بسفري إليه.

ومضى العام من غربتي ونحن نعيش فى هذه الغرفة.. ولم يكن يضايقني فيها سوى الساعات التى يغيبها فى عمله من السابعة صباحا حتى الثانية .. أما ماعدا ذلك فلقد كانت حياتنا أغنية جميلة.

وبعد عام من وصولي وجد لي عملا ففرحت به جدا لأنه سوف يساهم فى زيادة مدخراته ويقصر من غربتنا .. وبدأت أعمل وبعد عام آخر استطعنا أن نخرج من حجرة البواب هذه إلى بيت شعبي صغير لا يختلف عن أى بيت ريفي في قرية صغيرة بمصر, لكننا فرحنا بهذه النقطة واعتبرناها خطوة كبيرة للأمام.

وكان تخطيطنا لمستقبلنا أن الوظيفة الحكومية لن تحقق لنا أحلامنا وأن أملنا هو أن ندخر مبلغا من المال .. يمكنه من الاستقالة من وظيفته فى مصر وفتح مكتب خاص للأعمال التجارية..

ولكي يتحقق ذلك كان علينا أن نقاوم رغبتنا فى الانفاق وشراء الأشياء الاستهلاكية.. لكي نقصر المدة بقدر الامكان .. ونفذنا خطتنا بالفعل.. وأمضينا 8 سنوات طويلة فى الغربة نعيش فى شبه تقشف ولا ننزل إلى مصر إلا كل 3 أعوام ولا نشتري الأجهزة الحديثة التى يشتريها المغتربون .. وخلال هذه الفترة كانت اجازتنا قد انتهت وطالبتنا الهيئة بالعودة فرفضنا ففصلتنا .. ولم نهتم ثم بدأت الشركات تستغني عن بعض موظفيها فى هذا البلد ففقد زوجي عمله.. وأبديت له استعدادي للاستقالة من عملي والعودة ليبدأ مشروعه .. فرفض ليبحث عن عمل آخر..

ووجد العمل بعد شهرين من التعطل, ثم فقده مرة أخرى فأصررت أنا على الاستقالة والعودة معا.

 

كان معنا ما يكفينا وزيادة .. وكنت طوال سنوات عملي في الغربة أعطيه مرتبي كاملا ليضعه فى حسابه بالبنك وليشتري الشهادات بإسمه أو ليحوله فى السوق الحرة بالأسعار الحرة وحين أردنا العودة حسبنا حساباتنا فوجدنا أن رصيدنا معا يسمح له بتنفيذ أفكاره .. فعدنا إلى مصر سعداء.

وعدنا إلى الشقة الصغيرة .. وبدأنا منها نغير حياتنا.. فاستأجرنا شقة أخرى واسعة واثثناها بأثاث لائق .. واشترينا سيارتين واحدة كبيرة له وواحدة صغيرة لي .. واستبدل هو شقتنا الصغيرة فى الدور الخامس بشقة مماثلة فى نفس العمارة فى الدور الثانى ودفع لصاحبها مبلغا كبيرا ليجعل منها شركته الجديدة وعين لنفسه سكرتيرة وفراشا.. وبدأ العمل ونجح فى عمله لإنه إنسان ناجح فعلا وذكي.

 

وبدأت أحس بأنه قد بدأ ينشغل عني بأعماله.. ومقابلاته وصفقاته.. وبدأت أجد نفسي وحيدة في شقتي .. وفى هذه الفترة فقط أحسست بالحاجة إلى وجود طفل معي وبدأ هو أيضا يتحدث عن أهمية وجود الأطفال فى حياتنا.. وبدأت أتردد على الأطباء.. ورفض هو أن يذهب إلى أى طبيب.. فلم  أنزعج كثيرا لأن حبه كان يكفيني لكن المشكلة الحقيقية بدأت حين أسمع  أن أهله يطالبونه بالزواج من أخرى لكى ينجب ولدا يرث ثروته!

ثروته .. يا إلهي إن لي نصف هذه الثروة أو أكثر وقد وضع كل مدخراتي بإسمه واشترى السيارتين والمكتب والشقة بإسمه ولم أعترض على ذلك بل شجعته عليه.. فلماذا يتكلمون عن ثروته وحده وكيف هان عليهم أن يفكروا فى حرماني من شريك عمري الذي كرست له حياتي منذ 14 عاما حتى الآن.

 

سألته عن ذلك فلم يؤكده.. ولم ينكره .. فجن جنوني وبكيت أمامه وقبلت يده.. قلت له إني قد استثمرت كل حياتي وعمري وعواطفي فيه.. وليس من العدل أن يسمح لأخرى بأن تشاركني فيه أما الأطفال فماذا أستطيع أن أفعله أكثر من أني مستعدة للذهاب لأي طبيب وفى أى مكان.. لكي أحقق له رغبته.

فلم يتكلم .. ولم يطفئ النار التى تشب في قلبي وعشت عاما كالمجنونة.. إذا تأخر عن العودة تصورته أنه قد تزوج .. وإذا سافر لعمل اعتقدت أنه سافر لزوجته الأخرى وهكذا حتى جاء يوم أوصلني فيه إلى بيت أسرتى لأمضي الليلة فيه على أن يعود فى اليوم التالي ليصطحبني إلى البيت وانتظرته فى الموعد فإذا بفراش المكتب يأتي إلي حاملا 3 حقائب كبيرة ليقول لي بخجل أن البيه قد أمره بحمل ملابسي إلي ..لأنه "لا مؤاخذه طلق سيادتك وغير قفل الشقة ".

لم أسمع بقية الجملة لأني كنت قد سقطت من طولي .. ورحت في إغماءة أفقت منها بعد قليل لأندفع فى بكاء وصراخ .. وأهلي حولي يطيبون خاطري ويمنعونني من النزول لأعرف منه لماذا فعل ذلك بعد كل ما فعلته من أجله؟



ولــكاتـبة هـذه الـرسـالة أقول:

 

إننى رغم تحفظي عادة في نشر رسائل المطلقات عن أزواجهن السابقين تجنبا للإساءة إلى أحد فلقد وجدت نفسي مدفوعا بالرغبة فى نشر رسالتك هذه، لأني أحسست لهيب الصدق فى كلماتها ولأنها رسالة من إمرأة تحترق , فالخيانة قاسية دائما يا سيدتي مهما كانت أسبابها.. ومبرراتها.

لقد أحببت هذا الرجل حبا عظيما يا سيدتي .. لكنني أخشى أن يكون حبا من طرف واحد من البداية وحتى النهاية بدأته أنت .. ونما وتعمق داخلك أنت.. أما هو فربما يكون قد أحبك.. ولكن بأقل كثيرا مما أحببته أنت.. وإلا لما تخلى عنك أبدا لهذا السبب وحده وبعد هذا الكفاح المضني معه وهذا العطاء العاطفي والمادي الذي تدفق عليه كالشلال من جانبك.

إنني لا ألومك فى أنك قد أحببته.. فلا سلطان لأحد على مشاعره ولا ألومك أيضا على عطائك له فالحب عطاء بلا انتظار لمقابل فى معناه الحقيقي, لكني ألومك فقط فى أنك قد وضعت كل ثمرة عملك وشقائك فى الغربة بين يديه بلا أي ضمان يحفظ لك حقك إذا ما تغيرت القلوب وأطلت الخيانة برأسها لتفسد الأحلام الجميلة.

إن في رسالتك هذه يا سيدتي ما يضيف فعلا إلى خبرتنا بالحياة الشئ الكثير لكني لا أقصد بذلك نداءك الممرور لكل سيدة بألا تأمن لأي رجل وبألا تساند كل زوجة شريكها لكي يبني حياته ومستقبله خوفا من أن يغدر بها فى مستقبل الأيام ..لأن "الفقر  دواء " كما تقولين لبعض الرجال!

لا أقصد ذلك بالتأكيد..لأن ما حدث لك هو فى النهاية الاستثناء من القاعدة ولأن كل إناء ينضح بما فيه .. فكما يكشف الثراء عن أقنعة بعض الرجال المزيفة ويخرج أسوأ ما فيهم .. يكشف نفس هذا الثراء بعد الكفاح عن الجوانب الخيرة فى أعماق الكثيرين التي قد يحجبها.. نقص القدرة وضعف الامكانيات وهؤلاء هم الكثرة الغالبة وأمثال زوجك هم القلة رغم كل شئ.

 

لذلك أقول إننى لا أقصد نداءك هذا حين أتحدث عن درس التجربة.. وإنما أقصد عمق الحكمة الإلهية التى تعطي للمرأة فى الشريعة الإسلامية الحق فى أن تكون لها ذمتها  المالية عن زوجها.. والتي توصي الزوج بأن يكون أمينا على مال زوجته وألا يستحله باعتباره مالا مشتركا لهما.

إن هذا الحق يا سيدتي لم تحصل عليه المرأة فى بعض المجتمعات المتقدمة حتى الآن.. لكنه تقرر للمرأة عندنا منذ 14 قرنا.. وتعاليم الأديان إنما هي الحق والعدل.. ولو التزم بها الإنسان ما استحل مال غيره ولو كانت زوجته ولو التزم بها زوجك ما استحل لنفسه أن يجردك من ثمرة شقائك وكفاحك معه فى الغربة.. ثم يتركك وحيدة تجترين أحزانك بل لما غدر بك بعد كل هذا الحب.. وهذا العطاء ؟

إن من واجب كل زوجة أن تساند زوجها بما تملك لكنه من واجب زوجها أيضا أن يحفظ لها حقوقها.. وأن يوفر لها الأمان والاطمئنان لمستقبلها واحتفاظ كل طرف بما يضمن له حقه لا يقلل إطلاقا من عمق الرابطة التى تجمع بين الزوجين ولا من التراحم المفروض بينهما .. بل لعل عمق هذه الرابطة هو الذى يفرض على الشريك أن يؤمن شريكه لكي يصفو له تماما ويتخلص من الخوف من المستقبل.

 

هذا هو درس التجربة الحقيقي يا سيدتي .. وليس نداءك لكل إمرأة بألا تأمن لأي رجل.. لأن الحياة لا تستقيم إذا افترض الإنسان فى الآخرين الشر مقدما أو إذا تعامل مع شريكه ورفيقه بالحذر والتوجس وترقب الشر قبل الخير من جانبه كأنه يعاشر عدوا له وليس رفيقا يسكن إليه ويطمئن به ويحتمي بجواره من متاعب الحياة.

لقد أجرم زوجك فى حقك لا شك فى ذلك.. وجريمته فى إهدار زهرة عمرك وأسطورة حبك له أشد وطأة من جريمته فى إهدار ثمرة كفاحك.. لكنه ليس كل الرجال ولا ما حدث لك هو نهاية الحياة فأنت مازلت شابة في مقتبل العمر وجميلة ومن واجب كل إنسان تجاه نفسه ألا يهدر ما بقي من عمره  فى البكاء على الأطلال.. فانفضي عن نفسك يا سيدتي تراب هذه التجربة الأليمة .. واتركي للحياة أن تستقضي دينك من زوجك.. ولسوف تستقضيه منه أضعافا مضاعفه.. ولسوف يعرف بالتجربة المريرة كم كان محبوبا من الأقدار حين وهبتك له لأنه يندر أن تعطي الدنيا لشخص واحد كل هذا العطاء المتدفق كالشلال مرتين.. ولسوف يجرب هو هذه المرة لسعة الغدر من الآخرين.. وحرقة أن يحب من لا يحبه بنفس القدر أو بنفس العطاء.. ولوعة أن يعطي الآخرين قلبه.. فلا يعطونه إلا بقدر حساباتهم.. وخططهم للمستقبل كما فعل معك.. وساعتها سوف يبكي ساعة لا ينفع الندم ولا يفيد.

فضمدي جراحك يا سيدتي وتطلعي للمستقبل ..لأن الحياة سوف تعوضك عما فقدت وعما عانيت.. لأن ما نعانيه من آلام حقيقية لابد أن يرشحنا يوما لنيل نصيبنا العادل من السعادة .. فلتكن سعادتك حقيقية .. بقدر ما كانت آلامك حقيقية.. وليكن هذا اليوم قريبا.. وقريبا جدا بإذن الله.


نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1987

كتابة النص من مصدره / بسنت محمود

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي 


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات