الليلة الكئيبة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1990
قرأت رسالة المهندسة الشابة التي كتبت إليك تستشيرك في زواجها من ضابط شرطة تقدم لها وأسرتها ترفضه لأن لها ذكريات أليمة مع زميل له ظلم شقيقها ولفق له عدة قضايا .. وقد نصحتها بألا تأخذ هذا الضابط الشاب بجريرة زميله وأن تقبله مادامت تميل إليه وهو يرغبها .. واسمح لي يا سيدي أن اختلف معك في هذا.
فرأيي هو ألا تتزوجه وألا تقبل أي ضابط شرطة مهما قدم لها عروض وعندي أسبابي لذلك وقد فكرت أن ارويها لك منذ فترة طويلة وخفت ألا تنشر رسالتي.
فانا طالبة بالصف الثاني الثانوي وكنت دائما من المتفوقات ولي اخ وأخت في مراحل التعليم المختلفة .. وأبي موظف بسيط ومحترم وحنون وأمي سيدة بيت طيبة تصلي مع أبي الفجر حاضرا كل يوم ويعاملنا أبي أفضل معاملة ودائما يبتسم في وجوهنا ويلبي طلباتها قدر استطاعته والجميع يحترمونه في العمل وفي الحي فنحن نسكن في حي شعبي بالإسكندرية في شقة من حجرتين وصالة وكنا نعيش حياتنا في سلام حتى حدث في مساء أحد أيام الخميس في بداية العام الدراسي أن نهضنا من نومنا مفزوعين في الساعة الثانية بعد منتصف الليل صراخ وزعيق ففتح أبي باب الشقة وخرج يستطلع الأمر فوجد ضباطا وعساكر يملأون الشارع ويفتشون في الدور الأرضي من البيت الذي نسكن فيه .. وعرف أبي أنهم حضروا للقبض على ابن أصحاب البيت الذين يقيمون في الدور العلوي
لأنه من الجماعات الدينية وهو طالب جامعي وعرف أنهم لم يجدوه فعاد أبي إلى الشقة وأغلق الباب علينا .. فإذا بهذا الجيش يأتي إلينا ويدقون بكل شدة ففتحه أبي فدخلوا كالذباب وقالوا أنهم يفتشون عن الشاب في شقتنا فقال أبى لا ضرر في ذلك فالشاب لا يمكن أن يكون موجودا بيننا لكنهم دخلوا مباشرة إلى حجرة نوم أبي وكانت والدتي تجلس على السرير فقال لها الضابط وأنا آسفة لهذا التعبير : قومی یا ...... انت نايمة عيب
عليكي انت كبرت على الحاجات دى .
فقال له أبي هل أنتم قادمون للتفتيش عن الشاب أم لشتم أهل البيت فما كان من الضابط الشهم إلا أن انهال بكل قوته على أبي يصفعه على وجهه ويسبه بكلمات لا أجرؤ كتابتها وأنا وشقيقتي وشقيقي واقفون نرى هذا المنظر المؤلم .. فلم ادر بنفسي إلا وأنا اصرخ واصرخ حتى تبولت على نفسي وسقطت مغمى علي .. ولا أدري ماذا حدث بعدها ولا متى انصرفوا.
ومن هذا اليوم يا سيدي وأنا لا أذاكر دروسي وسقطت في امتحان نصف السنة .. وأبي منكسر، ويقرأ دائما في المصحف ويبكي وإذا تكلم معنا تكون عينه في الأرض ، وباستمرار حزين ولا يضحك معنا كما كان يفعل زمان .. أما أمي فقد اشتد عليها مرض السكر، ومن هذا اليوم وأنا لا أفكر في شيء إلا في هذا الموضوع .. وفي كيف أرد شرف أبي وكيف انتقم له من هؤلاء الأشخاص الذين ليس عندهم ذرة من الإنسانية ولا الدين .. لكن ماذا افعل وأنا طالبة لا حول لي ولا قوة .. إنني كل ليلة أنام فأحلم بأني أراهم والنار تحرقهم حرقا أمام عيني وأصحو من هذا الحلم لا حديث لي مع إخوتي وصديقاتي سوى عنه .. فهل يرضي هذا .. ذلك أحدا .. وهل ستقول لي بعد ذلك أنهم قلة سيئة وأن الآخرين طيبون . .. أم ماذا ستقول لي يا سیدي ؟
ولكاتبة هذه الرسالة أقول :
لن أقول لك شيئا يا آنستي .. انشر رسالتك التي حذفت بعض كلماتها لكيلا تجرح القراء أكثر مما فعلت وأضع هذا المشهد البشع لأب برىء تمتهن كرامته وأم فضلى يجترح حياؤها أمام أبنائهما .. من مثل هذا الشاب الطائش المفتون بلا أي مبرر أمام أنظار من بيدهم الأمر واسألهم معك .. أي شیء في الحياة يمكن أن يعيد لمثل هذا الأب احترامه لنفسه ويخلصه من إحساسه بالعار وينسيه ذكرى هذه المحنة ؟ إنني أضع المشهد المؤلم تحت أنظارهم وليس لنا بعد ذلك سوى أن نأمل في أن يكون الوضع قد تغير إلى الأفضل بعد ما جرى من تغيرات أخيرة في قيادة هذا الجهاز .. وسوى أن نقول أن تنفيذ القانون يمكن أن يتم دائما وعلى أكمل وجه مع احترام آدمية البشر وبلا تجاوزات لا تثمر سوى هذه الروح العدائية التي لا تخدم مجتمعنا وأن الشعوب المتقدمة لا يقاس تقدمها بثرائها ولا بقوتها ولا بأي شيء آخر وإنما بقدر ما يُحترم الإنسان فيها کإنسان.
أما أبوك فإني أطالبه وقد جرى ما جرى ولم يعد من الحكمة أن يضيف إلى آلامه المزيد بأن يضع الأمر في حجمه الصحيح .. وبأن يعتبر ما جرى له من قبيل ما قد ينال أي إنسان يحترم نفسه من أذى طائش من
صبي عابر في الطريق لم يحسن أهله تربيته .. وبأن يثق بأن احترامه في قلوب أبنائه لم يهتز ولم ينقص شعرة بل لقد ازدادوا له إكبارا وحبا واحتراما وهم يرونه يعرض نفسه للمهانة دفاعا عن حرمة أمهم وفى وجه كل هؤلاء .. أفلا يستحق مثل هذا الأب حب أبنائه واحترامهم مهما حدث من صغائر ؟
إنني على البعد أحس تجاهه
بكل الاحترام وأطالبه بأن يستعيد ابتسامته وأن يساعد أبناءه على نسيان هذه التجربة
الأليمة .. فكيف يكون احترامكم انتم
له ؟ أما أنت فخير ما تفعلين هو تتخلصي من آثار هذه المحنة .. وأن تستعيدي تفوقك
الدراسي .. وتحققي آمال أبيك فيك وفي إخوتك .. فبهذا تردين له شرفه وكرامته .. بما
تملكين من وسائل .. وبهذا أيضا تساعدينه على نسيان ذكرى هذه الليلة الكئيبة .
نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" فبراير
1990
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر