الأزمة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1990

 

الأزمة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1990


الأزمة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1990


 

أنا مهندسة شابة عمري ٢٦ سنة واعمل بالمدينة الجامعية بإحدى المحافظات .. أبي مهندس وأمي ناظرة مدرسة ولى شقيق وحيد طالب بنهائي إحدى الكليات المرموقة ونحن من أسرة طيبة وميسورة، واملك سيارة اذهب بها إلى عملي وأنا والحمد لله جميلة ومتزنة واجتماعية وملتزمة بديني

وكنا نعيش حياتنا في هدوء نحترم الجميع ويحترمنا الجميع، وتربطنا بالناس علاقات الحب والمودة ونتمتع بحسن السمعة .. ثم حدثت منذ حوالي 3 سنوات مشادة بين شقيقي الوحيد وبين ضابط شرطة أهان فيها الضابط شقيقي وأصدقاءه فما كان منه ومنهم إلى أن ضربوه علقة دفاعا عن كرامتهم .. ويا ليت أمي لم تلد شقيقي الوحيد .. أو ليته تحمل الاهانة وتجرعها صابرا .. ولم يرتكب هذه الحماقة التي لا يقبلها العقل والقانون .. فلقد انقلب كل شيء في حياتنا .. وانفتحت علينا أبواب الجحيم منذ هذا اليوم الأغبر .. فقد ألقى الضابط القبض على شقيقي وهذا عدل وحرّر له محضرا .. ولا اعتراض على ذلك وقدمه للنيابة ... لكنه لم يقدمه لها متهما بالاعتداء على ضابط شرطة أثناء عمله وهي جريمة .. وإنما قدمه متهما بعدد لا أول له ولا آخر من الجرائم وبدأ مسلسل الخراب .. فقام بتلفيق عدد كبير من القضايا له .. وكلما حكم القضاء ببراءته من واحدة فوجئنا بأخرى حتى بلغ عدد القضايا التي لفقها له هذا الضابط ٢٥ قضية حصل شقيقي على البراءة في ٢٣ قضية منها .. لوجود تقارير تثبت التعذيب .. وحصل على حكم بالسجن في اثنتين منها فقط .. لكن أي سجن يا سيدي ..٢٥سنة سجنا في كل قضية بمجموع ٥٠ سنة سجنا في قضيتي سرقة بالإكراه للطالب المتعلم ابن المهندس وسليل الأسرة الطيبة .. ومازلنا نكافح لكي نخرج شقيقي من هذه المحنة التي دمرت حياته وحياتنا معه ونستأنف الأحكام .. وأدعو الله أن يوفقنا لفك قيوده ليخرج إلى الحرية

ويواصل تعليمه ويمارس حياته كأي شاب آخر .

 

 ومنذ كارثة شقيقي .. وأنا ارفض فكرة الارتباط بأي إنسان وخاصة من زملائي المهندسين حتى لا يعلم بحكايته ثم يتركني أو على الأقل بروبها للزملاء فتنتشر في أوساطهم .. ورفضت لهذا السبب زميلا يستعد للحصول على الدكتوراه، وواصلت حياتي بين أسرتي و عملي ولا شيء يشغلنا سوى محاولاتنا لإنقاذ أخي من هذا المصير الأسود.

ومنذ 3 شهور تصادف أن دخلت قسم الشرطة لأعمل محضرا لبائع فاكهة أساء إلي فراح الضابط الشاب يسألني أسئلة عديدة بعيدة عن موضوع المحضر فتحفظت في الإجابة عنها وغادرت القسم شاكرة .

وفي اليوم الثاني لاحظت، فجأة وأنا أقود سيارتي أن هناك سيارة تتبعني نظرت لمن يقودها فإذا به هذا الضابط الشاب يشير إلي في مرح .. فتجاهلته .. وفي اليوم التالي فوجئت بشاب يقول لي انه قريب هذا الضابط وأنه يريد أن يتقدم لخطبتي .

 

وبعدها بيومين فوجئت بعمي يحدثني في هذا الموضوع ويقول لي أن هذا الضابط الشاب يعرف حكاية شقيقي وأنه لا يتأثر بها ويريد الزواج مني، وأنه أعطاه مهلة ليسألني عن رأيي .


 

ولكاتبة هذه الرسالة أقول :

أنت كما فهمت يا آنستي تميلين بمشاعرك لهذا الضابط الشاب .. ولا ترفضين الطبيب لكنك تخشين من تأثير قصة شقيقك عليه .. وبهذا الموقف يكسب ذلك الضابط الشاب نقطتين في عوامل التفضيل بينهما : الأولى وهي الأهم أنك أكثر ميلا وقبولا له .. والثانية : هي انك تأمنين معه عدم تأثير ظروف شقيقك على مشروع الزواج .. ولا على سمعتك التي تحرصين عليها بين زملائك.

تبقى مشكلة موقف الأبوين من الفئة التي ينتمي إليها .. ولاشك أنهما معذوران في مشاعرهما تجاهها .. ومن حقنا أن نلتمس لهما العذر فيها لكنه في النهاية موقف غير عقلاني ولا يصعد للمناقشة ، لأنه من الخطأ أن نحكم على فئة من فئات الشعب بتصرف شخص أو أشخاص منها مهما كثروا وليس من التفكير السليم أن نعمم أحكام تجاربنا الشخصية على الجميع .. لأنه ليست هناك أبدا فئات من الملائكة وفئات من الشياطين .. وإنما هناك دائما أسوياء وغير أسوياء في كل فئة حتى إن زادوا في فئة عن الأخرى والأقرب إلى العدل هو أن نقيم الشخص بخلقه ودينه وقيمه وشخصيته بغض النظر عن البدلة التي يرتديها أو اللافتة التي يندرج تحتها .

 

 ولقد نشرت رسالتك ليعرف أولو الأمر إلى أي حد بلغه التوتر في علاقات الشعب بجهاز المفروض فيه أنه حارسه وخادمه .. حتى ولو كان شقيقك مخطئا من بعض الوجوه ولعل من زرع بذور هذه الفتنة يعرف الآن ماذا جنت يداه على هذا البلد الأمين .. ولعلنا نأمل في مستقبل الأيام أن تخف حدة هذا التوتر وأن يختفي مع عودة الأمور إلى طبيعتها .. ومع العودة إلى الاحتكام إلى القانون الطبيعي كحكم وحيد بين الجميع .. ولا أريد أن استطرد في هذا الموضوع لكيلا يجذبنا بعيدا عن مشكلتك ، لهذا فإني أقول لك مرة أخرى .. استفتى قلبك وفكري في أمر هذا الشاب كإنسان أولا وأخيرا فإذا استقر رأيك عليه واجهي أبويك بالمنطق والعقل والدين .. وأكدي لهما أن من تعرض لظلم الآخرين هو أحق الناس بالا يظلم أحدا بما لم تجن يداه والفتي نظرهما إلى أن سعي هذا الشاب الدؤوب إلى مصاهرتهما يحمل في طياته معنيين في غاية الأهمية أولهما إنه رد اعتبار لشرفهما وشرف الأسرة أمام مجتمعكم لأنه لو كان متأكدا في فرارة نفسه من إدانة شقيقك لما سعى للزواج منك مع ما في ذلك من إحراج لا شك فيه لوضعه الوظيفي .. ومنه أيضا أنه اعتراف ضمني بجرائم زميله في تلفيق تلك القضايا لشقيقك وإنكار لها ولاشك أن كل ذلك سوف يرجع كفته عندهما .. وسوف يفتح أبواب قلبيهما له ببساطته ورغبته فيك .. فيكسبان به ابنا يخفف عنهما لوعة افتقاد الابن الغائب ويشد أزرهما في محنته .. ولعلهما بعد ذلك يأخذان عليه المواثيق بألا يظلم أحدا لكيلا يكرر جريمة زميله فيكسب المجتمع فردا صالحا يقيم العدل ويكره البغي .. ويكسب قلبك شريكا عادلا محبا .. ومحبوبا إن شاء الله .

رابط رسالة الليلة الكئيبة تعقيبا على هذه الرسالة 

 نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" يناير 1990

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات