ذوبان الجليد .. رسالة من بريد الجمعة سنة 2002
فتحت باب بريد الجمعة
لرسالتين تحدثت فيهما ابنتان عن شعورهما تجاه الأب الذي انفصل عن الأم ولم يقم
بحقهما عليه ومدى الكراهية التي يحملانها في صدريهما تجاه الأب, وأرجو الآن أن
تفتح بابك كذلك لأب من هذا النوع فقد يكون لديه رأي آخر في الموضوع, فأنا أحد هؤلاء
الآباء الذين تسببت الأقدار في بعده عن ابنتيه مع اختلاف في القصة وهو أن سبب
البعد كان وفاة الأم وضم البنتين لحضانة الجدة من ناحية الأم طبقا للشرع والحق إنني
لست غريبا عنك, فقد سبق أن نشرت رسالة لي منذ ما يقرب من سبع سنوات بعنوان (انفجار
البركان) وكان جوهرها هو بعض المشاكل التي تعرضت لها من الحاضنة للبنتين
والقضايا العديدة التي عانيت منها وأنا أحاول جاهدا التمسك بالقشة التي تربطني
بالابنتين وهي رؤيتهما بحكم المحكمة في ظروف ليست في صالحي أو صالح البنتين,
وكان مضمون الرسالة اقتراحي لرجال القانون بألا يتم تحديد الحاضنة ليتامى الأم إلا
بعد نيل موافقة الأب على ذلك حتى لا يؤدي اختيار الحاضنة دون الرجوع للأب إلى أن
يصبح الأبناء يتامى الأم بالقضاء والقدر, ويتامى الأب بحكم القانون, وكان ردك
أن اقتراحي يستحق الاعتبار وأن يبحثه أهل القانون حيث إن تغير الأيام يقتضي تغير
الأحكام فالنفوس البشرية قد تغيرت كثيرا في الآونة الأخيرة..إلخ.
الآن يا سيدي فقد تغير الوضع كثيرا جدا وأود أن أورد لك مجرد
موقف واحد من مواقف عديدة تعرضت لها خلال سنوات طويلة من العناء والشقاء لعلي أوضح
الرأي الآخر في القضية, وأرجو ألا أسبب أذى لمشاعر ابنتي بذلك.. أذكر أنه ذات
يوم وخلال الرؤية وكانت ابنتي الكبرى تقارب السنوات التسع فقط أن فوجئت بها تتمنى
وفاتي مثل أمها لأنني لست أفضل منها, وتمالكت أعصابي ودموعي وأنا أحاورها في
هدوء وأشرح لها أهمية وجود الأب للأبناء خاصة لمن فقد أمه وما أوصى به الله
والرسول في حق الأب بكلمات بسيطة ولان البنتين كانتا مبرمجتين فلم تسمعا لي وخاصة
في وجود جدهما للأم.. فما كان منها إلا أن قالت لي إنها ستغير اسمها إلى أسم
جدها وعندما ستبلغ سن الزواج فسوف يقوم أخوالها بتزويجها أو تزوج نفسها ـ إلى آخر
مثل هذه الكلمات التي أدمت قلبي وأبكت عيني وحركت حصوة في كليتي فقضيت أسبوعا
بالمستشفى للعلاج وأنا لا أستوعب أن يخرج مثل هذا الكلام من طفلتي, ولم يكن قد
مضى سوى عام واحد على وفاة الأم رحمها الله, وما أكثر ما تعرضت له من هذه الأمور
بعد ذلك وكنت عندما أيأس أجد والدتي رحمها الله وأخوتي وأصدقائي ينصحونني بعدم
الانسحاب من حياة البنتين لأنهما ابنتاي ويوما ما ستعرفان الحقائق وستعودان إلى
أحضاني وصبرت حتى رزقني الله بزوجة فاضلة أكرمني الله بها فقامت دون علمي بمحاولات
عديدة وبزيارات كثيرة للبنتين في منزل جدتهما, وحاولت جاهدة أن تجمع شمل الأسرة
وتجعل أولادي منها يعرفون أختيهما من زوجتي الراحلة لأنه لا ذنب للأبناء في أحكام
القدر ووفقها الله تعالى لحسن نيتها وإصرارها المخلص في إذابة الجليد الذي تراكم
بيني وبين البنتين وأصبحتا تزوران بيتي في وجودي أو عدم وجودي وتقضيان معنا جزءا
من الأجازة في المصيف إلى جانب الاتصالات التليفونية بيننا.
والجدير بالذكر هو أنني اتصلت منذ ثلاثة أشهر لأطمئن على
البنتين تليفونيا فردت علي جدتهما ولم أنه المكالمة بل حييتها فإذا بها تلومني أشد
اللوم على انقطاعي عن السؤال عنها طوال الأعوام السابقة وكأن شيئا لم يكن ـ وكأن
ما حدث لسنوات تعدت الأربعة عشر عاما لم يكن لها يد فيها وقالت لي إنني أنا الباقي
للبنتين وهي الراحلة, وإنهما تحتاجان لي الآن أكثر من أي وقت مضى وأنا الذي
سأقوم بتجهيزهما للزواج إلى آخره, وأنا أقول سبحان مغير الأحوال والقلوب واستمرت
الأحداث من أفضل لأفضل حتى أبلغتني زوجتي بعد ذلك ـ أكرمها الله ـ أنها عرضت على
البنتين أن تحضرا للإقامة معنا هما وجدتهما وأنها ستنزلها منزلة الأم منها وأن ذلك
بموافقتي ـ فشكرت ابنتي الكبرى لها ذلك.
والغرض من ذكر هذه الأحداث المتضادة هو أن أوضح لصاحبتي
الرسالتين النار المتأججة و ثمار الشوك أن الآباء قد لا يكون لهم الخيار في
الأحداث وأن ما يتعرض له بعض الآباء من ظروف وأحداث قاسية في ظل عدم وجود الناصح
الأمين قد يجعلهم يهربون من الواقع أملا في تغيير الظروف للأحسن.. ثم تأخذهم
الأيام بعيدا عن الساحة وينشغلون بالزوجة والأولاد الآخرين فهنا قوة جاذبة للأب,
وهناك قوة طاردة له والأبوة والبنوة مشاعر ترتبط بالممارسة وليست كغريزة الأمومة
التي يضعها الله في قلب الأم بمجرد الحمل.. والبعد جفاء بدليل أن الأب في
القصتين السابقتين أب لأبناء آخرين ويمارس أبوته معهم بمثالية لأنهم يمارسون معه
البنوة أيضا ـ في غياب بنوة الغائبين من الأبناء.
وأنا أعاني ذلك حتى الآن حيث اشعر بأنني مع ابنتي, وهما الآن
في إحدى كليات القمة, ليستا كامل الأبوة معهما وأحزن كثيرا إذا انقطعتا عن
الزيارة أو الاتصال وارجع ذلك إلى أنهما ليستا كاملتي البنوة كذلك وهذا واضح أيضا
فيما نقرأ عنه في علاقة الأبناء بالآباء الذين يسافرون للخارج طلبا للمال وبغرض
رفع شأن الأبناء ويتركون الزوجة والأولاد سنوات طويلة, وعندما يعودون يشعرون أن
الزمن باعد بينهم وبين أبنائهم وأصبحوا ناقصي الأبوة.. وأرجو أن تتفهم الابنتان
ما قصدته من نشر الرسالة, فقد أعطي العذر لأب حالت ظروفه دون استكمال دوره,
وشكري الجزيل لصاحبة رسالة ( ثمار الشوك) لعفوها عن والدها.. ودعائي لصاحبة
رسالة ( النار المتأججة) وكل ابنة في مثل ظروفها بأن تعفو وتصفح عن والدها ففي
ذلك طاعة لله أولا.. ولعلاج نفسها ثانية.
ولكاتب هذه الرسالة أقول:
توقفت في رسالتك هذه أمام قولك إن الأبوة والبنوة مشاعر تكتسب بالممارسة وليست كغريزة الأمومة التي يغرسها الله سبحانه وتعالى في قلوب الأمهات بمجرد أن تدب الأجنة في الأرحام, وأنك تشعر أحيانا بأنك غير مكتمل الأبوة لابنتيك من زوجتك الراحلة لبعدهما عنك سنوات طوال.. ولحرمانك من أن ترعاهما في صغرهما وتسهم في تشكيل وجدانهما وترقبهما وهما تكبران أمامك فتتجمع خيوط المحبة والمودة والذكريات المشتركة وتصنع حبلا متينا من الروابط المعنوية بينكم.كما توقفت كذلك أمام قولك إنك وإن حزنت في بعض الأحيان لتباعد زياراتهما لك أو اتصالاتهما بك فإنك لا تتهمهما بالعقوق أو الجحود أو التقصير في أداء حق الأب.. وإنما ترى لهما بعض العذر في ذلك لأنهما ولنفس الأسباب السابقة ليستا كاملتي البنوة لك وهذا فهم منصف للوضع يؤكد حكمتك وسماحتك ويخفف عنك بعض ما تستشعره من ألم إيمانا بأن فهم كل شئ يؤدي إلى الصفح عن كل شئ كما قالت الأديبة الفرنسية مدام دي ستايل وربما كان هذا الفهم أيضا هو الذي أعانك على احتمال الكلمات القاسية التي تفوهت بها بغير وعي ابنتك الكبرى وهي طفلة صغيرة لا تعي أين تقع كلماتها من القلوب الحزينة ولا أي جرم تدميها بها.
كما أعجبني كثيرا أنك لم تيأس أبدا من أن تمد ذات يوم جسور المودة والمحبة بينك وبين ابنتيك مراهنا في ذلك على عجلة الأيام التي تدور بالجميع فتكسب الصغار حكمة الحياة وتعرفهم ما لم يكونوا يعرفون.
أما قمة الإعجاب والاحترام فهي بغير جدال لزوجتك الفاضلة التي سعت سرا لزيارة هاتين الابنتين وكسب مودتهما واجتذابهما إليها وشجعتهما علي زيارتها وزيارتك وحرصت على تعريف أبنائها بهما وتوثيق صلة الرحم بينهم.
إنها حقا الزوجة الصالحة التي قال عنها الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه إنها خير متاع الدنيا والتي ما استفاد مؤمن بعد تقوى الله خيرا منها فهي ترعي حدود ربها في زوجها وتحرص على سعادته وإزالة أسباب الكدر التي تؤرقه وترى بثاقب نظرها أن ذلك كله إنما يصب في النهاية في نهرها السعيد دائما بإذن الله, خلافا لما قد يظنه قصار النظر وضعاف النفوس الذين قد لا يتهللون لإعانة أب مثلك على استعادة ابنتيه لكي يستأثروا به لأنفسهم وحدهم!
فهنيئا لك ذوبان الثلوج بينك وبين من أبعدتهما عنك من قبل تصاريف القدر الحزينة.
وهنيئا لك خير متاع الدنيا التي عوضك الله سبحانه وتعالى بها عن كل ما عانيت من أحزان وآلام.
· نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 2002
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر