إنفجار البركان .. رسالة من بريد الجمعة عام 1995
أنا
رجل في الحادية والأربعين من العمر أشغل وظيفة محترمة وقد تعرفت على بابك هذا حين
كنت في بعثة إلى الولايات المتحدة الأمريكية , وأرسل لي شقيقي خطابا من مصر فتحته
فلم أجد فيه سوى صفحتك وقد كنت تواسي فيها أماُ دخل زوجها السجن, واستطاعت والدته
أن تنتزع منها أبنائها بعد زواجها من آخر رغم مخاطر البيئة الفاسدة التي سينشأون
فيها في حضانة جدتهم وقد أرسل لي شقيقي هذه القصة كأنما يريد أن يقول لي بغير كلام
أنني لست وحدي المهموم في الحياة وأن هناك كثيرين مثلي في الدنيا وربما كنت أهونهم
هما, لقد رحلت زوجتي عن الحياة تاركة لي أبنتين كبراهما في الثامنة والصغرى في
الخامسة ولم يكن زواجي بأمهما موفقا من البداية وقد دام عشر سنوات من أجل البنتين
فقط، وطلقتها خلالها مرتين ولولا اشتداد المرض عليها في الأيام الأخيرة لطلقتها
للمرة الثالثة أيضا.
واستغرقت رحلة مرض زوجتي عدة سنوات طفت بها
خلالها علي الأطباء وانتهت الرحلة نهايتها المحتومة , وعملا بوصية زوجتي بألا يربي
طفلتيها أحد سوى أسرتها, وإقتناعا مني بأن أسرة زوجتي قد عرفت كما قال لي أفرادها
معدني الأصيل في العام الأخير وأدركوا كم كانوا يظلمونني من قبل , فقد تم عقد
قراني على شقيقة زوجتي الراحلة بعد شهرين من وفاتها واتفقنا على أن يتم الزواج عقب
انتهائها من امتحان عامها الجامعي الثالث وانتهاء ابنتي الكبرى من امتحانها وتمهيدا
لما سوف تتطور إليه الأمور .. فقد صارحت الطفلتين رغم صغر سنهما وفي يوم لا أنسى
مرارته بحقيقة رحيل أمهما عن الحياة وزواجي من خالتهما لكي يستوعبا الموقف بقدر
الإمكان حين يريانها تحل محل الأم في فراش الزوجية, خاصة وقد كانت خالتهما شبه
مقيمة معنا في العام الأخير من حياة زوجتي بسبب اشتداد مرضها.
وكان
الموقف محرجا لي للغاية وأنا أجيب على استفسارات الطفلتين الساذجة والمؤلمة لكني
تجاوزت الموقف على أية حال, ووقفت إلى جوار زوجتي الجديدة في دراستها وفي امتحانها
, وقمت بتأثيث غرفة نوم جديدة رغم إرهاقي ماديا بسبب ظروف مرض زوجتي ووفاتها,
وبدأت أسرة زوجتي تطالبني بأشياء وتضيق عليّ في أشياء وزوجتي التي لم أدخل بها بعد
تنقل لي ما يدور بشأن ذلك في بيتها إلى أن جاء يوم واكتشفت فيه عدم وجود المصوغات
الذهبية في مسكننا .. سألت أمها عنها فكأني قد ارتكبت بذلك جرما شنيعا , فقد انفجر
بركان في وجهي , وتوالت المشاكل بيني وبين أسرة زوجتي حتى فوجئت بها تدفع زوجتي
الجديدة إلى إقامة دعوى جنحة تعدي بالضرب ضدي وكنت في ذلك الوقت مرشحا لبعثة للولايات
المتحدة فنصحني رؤسائي بالتفاهم مع أسرة زوجتي حتى لا تعترض المشاكل طريق بعثتي , فبدأت
المفاوضات بيننا لتطليق الزوجة الجديدة والتنازل عن القضايا التي أقامتها أسرتها
ضدي للنفقة وغيرها , وطالبتني الأسرة بأن أدفع قيمة قائمة منقولات الزوجة الجديدة
ومؤخر الصداق وجاء يوم التنفيذ وهم لا يتخيلون أنني سأستطيع الوفاء بإلتزاماتي
نظرا لما كنت أعانيه في ذلك الوقت من مشكلة مادية , لكن أهلي وأصدقائي وقفوا إلى
جانبي وفاجأت أسرة زوجتي في الموعد المحدد بسداد كل المطلوب مني وكان تسعة آلاف
جنيه اقترضتها كلها , فحاولوا الرجوع عن مشروع الطلاق والاستمرار في مشروع الزواج
لكني كنت قد أصبحت عاجزا عن ذلك بعد ما حدث بيننا من مشاكل وصلت إلى ساحة القضاء.
فبدأ
الحديث مرة أخرى عن حضانة البنتين وحكم الوسطاء لأم زوجتي الراحلة بحقها في
حضانتهما وفقا للقانون مقابل إلتزامي بدفع النفقة الشهرية اللازمة لهما.
وأرسلت
البنتين إلى بيت أسرة زوجتي, ورغم ذلك فلم تتوقف المشاكل بيننا بل تزايدت وتفاقمت
حتى مضت شهور لا أرى فيها البنتين إلا عن طريق المدرسة وحتى هذا الطريق سدّه عليّ
ـ بعد قليل ـ أحد أقارب زوجتي الذي أقنع مدير المدرسة بعدم السماح لي برؤيتهما
بدعوى وجود مشاكل مع الأسرة فأقمت دعوى أمام القضاء لتمكيني من رؤيتهما, وحكم لي
القضاء بأن أراهما لمدة ساعتين كل أسبوع بمقر الحزب الوطني , وليتني ما فعلت ذلك ,
فقد بدأت البنتان بتأثير ما تسمعانه عني في أسرة أمهما تتغيران من ناحيتي وتتحدثان
أمامي بكلام يفوق سنهما بكثير.
وسافرت إلى البعثة واستمرت عاما كاملا وبعد
رجوعي إلى مصر أردت أن أنهي كل مشاكلي مع أسرة زوجتي, وألبي مطالبها مهما كانت
وكانت قد تجمدت عليّ مبالغ متأخرة من النفقة ومصروفات المدارس وميراث الجد والجدة
في منقولات زوجتي الراحلة فبدأت المفاوضات بيني وبين الأسرة لتسوية كل المشاكل
وديا وأرسلت لي أسرة زوجتي البنتين لإستلام هداياهما لكني شعرت مرة أخرى بالمبالغة
الشديدة في المطالب المادية , ورفضت أن يبتزني أحد, فتوقفت في منتصف الطريق, ورجعت
أسرة زوجتي إلى إقامة الدعاوي القضائية ضدي وإستمر هذا المسلسل حتى بلغت دعاواها
ضدي 17 دعوى مقابل اثنتين من جانبي ضدها, وشاءت الظروف خلال ذلك أن أتزوج من
إنسانة طيبة بكل معنى الكلمة اقتنعت بي وبظروفي فلم يمضي على زواجي منها شهر حتى
فوجئت بأسرة زوجتي الراحلة ترسل لي البنتين لقضاء أجازتهما الصيفية معي بهدف إفساد
العلاقة بيني وبين زوجتي , ولكن تقدرون وتضحك الأقدار فقد انقلب الحال تماما وأحبت
البنتان زوجتي لأنها تعرف ربها جيدا.. وبدأتا تطالبانني بالانتقال إلى حضانتي واستطلعت
رأي زوجتي في ذلك فإذا بها توافق عليه وترحب به فسعدت بذلك كثيرا وبدأت أشعر بأنني
أستعيد أسرتي التي شتتها الظروف المؤلمة , ولكن لأني رحبت بانتقال البنتين إلى
حضانتي فقد عارضت في ذلك جدتهما وجدهما فقمت برفع دعوى لنقل حضانتهما إليّ خاصة
وقد بلغت الكبرى 12 عاماً, وردت أسرة زوجتي على ذلك برفع جنحه سب وقذف ضدي لكن
المحكمة برأتني منها.
أما
دعوى الحضانة فمازالت منظورة أمام القضاء, ولقد أنجبت الآن من زوجتي الحالية بنتا
ثالثة عمرها عام ونصف عام ومنذ عشرة شهور لم تقع عليها عيون أختيها ولم ترياها طول
هذه الفترة, ولست أدري إلى متى سيكون لي نوعان من الأبناء الأول يعيش في حضني
وحضانتي وحمايتي ورعايتي, والآخر كتب عليه القانون أن يعيش بعيداُ عني وعن رعايتي
وقد يكون كارها لي ولأخوته من النوع الأول , لقد دفعني إلى كتابة رسالتي هذه إليك
ما سبق ونشرته في بريد الجمعة لشاب حكمت عليه الأقدار بأن يواجه نفس ظروفي ومشكلتي
بعد وفاة زوجته وكانت بعنوان "حبات العقد" ونصحته في ردك عليه بأن
يتفاوض وديا مع أهل زوجته بشأن طفلتيه وألا يلجأ إلى المحاكم في ذلك , وأنا أتفق
معك في كراهية النزاع أمام المحاكم في ذلك في مثل هذه الأمور العائلية , فلقد
استهلكت المنازعات بيني وبين أسرة زوجتي من الجهد والمال خلال ست سنوات ما لو كنا
وجهنا بعضه للبنتين لكان أفضل وأرعى لمصلحتهما, لكن السؤال الهام يا سيدي هو كيف
يستطيع الإنسان التفاهم مع عقول لا يرضى أصحابها بشئ إلا بموته هو كما ماتت ابنتهم
ويتخذون من الأبناء سلاحا يحطمون به الأب ويقتلونه به ببطء وهو يرى أبناءه وقد
أصبحوا غرباء عنه ويضطر الدفاع عن نفسه أمامهم ضد شتى التهم والافتراءات.
ثم لماذا يا سيدي يقدم القانون أم الأم في حضانة الأبناء على أم الأب بحجة أنها أكثر حنانا عليهم؟ وهب أننا سلمنا بذلك جدلا, فكيف يكون الحال عند وجود خلافات ونزاعات قضائية بين أسرة الأم وبين الأب مهما حاولت فلن أستطيع أن أصف لك مشهد الرؤية المؤلم الذي كان يتم في مقر الحزب الوطني بيني وبين البنتين ووسط حالات مماثلة عديدة وهو مشهد ليس في صالح اليتامي بأي حال من الأحوال.
ولــكـاتـــب هــذه الـرسـالـة أقـــول:
لو
ترفعنا عن الصغائر حتى ولو تنازلنا عن بعض ما نراه حقا لنا, لتجنبنا الكثير من المشاكل ولتجنب أبناؤنا أيضا
الكثير من المعاناة, لقد بدأت مشاكلك مع أسرة زوجتك بتساؤلك عن مصوغات زوجتك
الراحلة الذهبية فانفجر البركان وتوالت سلسلة المنازعات والدعاوي القضائية التي
بلغت كما تقول في رسالتك 17 دعوى من جانب أسرة زوجتك ودعويين من جانبك, ولست أريد
أن أحكم لك أو عليك في نزاع معروض أمام القضاء ,لكني أقول لك فقط أنك كنت تستطيع
أن تتفادى كل هذا العناء لو كنت قد اعتبرت مصوغات زوجتك التي إستولت عليها أسرتها
هي نصيبها الشرعي في ميراث الأبوين عن ابنتهما الراحلة حتى ولو كان أكبر من حقهما
الفعلي فيه, إذا لو فعلت ذلك لإتخذت حياتك مساراُ آخر, ولربما لم تكن قد واجهت كل
ما واجهت من مشاكل أو تكبدت ما تكبدته من خسائر مادية وعاطفية في هذه النزاعات
وفيما تحس به من إحساس مؤلم بتغير ابنتيك
تجاهك .. لكن شرارة الخلاف سريعة الانتشار هي كحيوانات الخلية الواحدة تتكاثر
بالانقسام, وهكذا تكاثرت وتفاقمت حتى وصلت علاقتك بأسرة زوجتك الراحلة إلى نقطة
اللا عودة ولست أتهمك في ذلك بشئ.. بل إني على العكس أشعر بمعاناتك وآلامك وأنت ترى
نفسك عاجزا عن ضم ابنتيك إليك في حياة واحدة وعاجزا أيضا عن إقامة العلاقة
الطبيعية والسوية معهما, كما أني أيضا لا أبرئ أسرة زوجتك الراحلة من مسئوليتها
المضاعفة عن إفساد العلاقة بينك وبينها بإتخاذها طريق المحاكم من البداية المبكرة
سبيلا للتعامل معك بدلا من الترفع عنه وعن هذه الصغائر المادية حرصا على مصلحة الابنتين
ناهيك عما لا تغسله أمواج البحر من إثم جناية بث كراهية الأب في نفوس الأطفال
الصغار أو حتى مجرد إطلاعهم أو إشعارهم بوجود خلافات معه .
فليس
أسوأ من إفساد مشاعر الأبناء التلقائية تجاه أبيهم أو أمهم التي أرادها الله أن
تكون مشاعر الحب والرحمة والولاء لكن ماذا نقول فيمن يدمرون أجمل ما في نفوس
الصغار ويحكمون عليهم بمعاناة التمزق والتشوية النفسي تجاه أحد الأبوين وهو تشوه
لا يبرأون من آثاره السلبية حتى نهاية العمر؟
ولهذا
فإني أقول لك أن حكمة التشريع الإلهي يجعل حضانة يتامي الأم لجدتهما من ناحية الأم
أولا حكمة صحيحة لكننا نحن البشر الذين نفسدها بنزاعنا حول الصغائر الزائلة وأنت
تقول لي في رسالتك كيف يتفاهم الإنسان مع عقول لا يرضي أصحابها إلا بموته هو كما
ماتت ابنتهم من قبل وأجيبك على تساؤلك بأن العدل كفيل بحل كل المشاكل وأنه لو قام
كل طرف بإلتزاماته تجاه الطرف الآخر بلا مراوغه ولا تعمد للمماطلة والتسويف لما
وجد الآخرون عليه سبيلا للنزاع أو الشكوى , وأبسط دليل على ذلك هو أن "موت
الأب" ليس في صالح أسرة الأم الراحلة من الناحية المادية على الأقل لأنه
يتكفل بأبنائه ماديا ويرفع عنها هذا العبئ ولو رحل عن الحياة لوقع العب كله ماديا
وتربويا عليها.
لكن الجديد حقا في رسالتك هو تساؤلك الأخير عما يكون عليه الحال عند وجود نزاعات درامية كهذه المنازعات بين أسرة الأم الراحلة وبين الأب.. إنه تساؤل يستحق الاعتبار حقا.. ويستحق أن يبحثه أهل الفتوى ورجال القانون , والمبدأ الشرعي الحكيم يقول أن تغير الأيام يقتضي تغير الأحكام , ولا شك أن " الأيام" والنفوس البشرية قد تغيرت كثيرا في الأونة الأخيرة وسادتها أو سادت بعضها النزعة المادية المطلقة فطغت على نظرة أصحابها إلى كل الأمور , ولعله من المفيد حقا بعد البحث والدراسة الوصول إلى صيغة شرعية وقانونية تحقق هدف التشريع الإلهي الأسمى في رعاية الأطفال يتامى الأم, مع وجود خلافات بينه وبين أسرة زوجته تهدد بتأثر الأبناء بها سلبيا.. وتأثر علاقتهم بالأب تبعا لذلك .. فدعنا نأمل ذلك ونترقبه حتى لا نزيد من حرمان الأبناء بوفاة أمهم حرمانا آخر أشد قسوة ومرارة من حقهم العادل في أن تحيطهم مشاعر الحب والعطف.. لا مشاعر التجاذب والتنافر بين طرفين متنازعين.
رابط رسالة ذوبان الجليد من كاتب الرسالة بعد 7 سنوات
· نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد
الجمعة" عام 1995
كتابة النص
من مصدره / بسنت محمود
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر