لحظة صدق .. رسالة من بريد الجمعة عام 1993
ترددت طويلا ومنعني الإحراج والخجل معا من أن أكتب إليك هذه الرسالة أكثر من مرة . أنا طبيبة في الخامسة والثلاثين من عمري جميلة وأشعر بجمالي ويحس به كذلك كل من حولي .. منذ بلغت سن الصبا بدأ الشباب يتقدمون لطلب يدي فكنت أرفض وازداد دلالا وخيلاء اعتمادا على جمالي ومركزي الاجتماعي الجيد , إلى أن بلغت الخامسة والعشرين من عمري ولم أرتبط بإنسان تتوافر فيه أحلامي وآمالي في شريك العمر . وبدأت أشعر بالسن وبضرورة التنازل عن بعض "مطالبي" وشروطي وإلا سرقني الزمن , فقبلت على مضض طبيبا شابا تقدم لي وكانت ظروفه المادية والاجتماعية جيدة، لكنه كان غير وسيم الشكل !
وجاء هذا الطبيب الشاب لزيارتنا لأول مرة فلاحظت على الفور أنه قد تعلق بي منذ الوهلة الأولى وتكررت زياراته وكلما توالت الزيارات زاد تعلقه بي وبدا ذلك واضحا عليه .. أما أنا فقد حاولت كثيرا أن أحبه فلم أستطع , وانتهى بي الحال إلى أن اعتبرت أنني أتنازل عن أحلامي وأفكارى بقبول الزواج منه .. وبسبب هذا الاحساس المؤسف بالغت في شروطي المادية لاتمام الزواج وكانت شروطا مغالى فيها بالقياس لزميلاتي ومن هن في نفس ظروفي , لكن خطيبي وافق عليها كلها رغم ارهاقها له .. ووجدت نفسي أمضي في طريق الزواج بلا حماس وبدا ذلك واضحا علي ولاحظه الجميع ماعدا إنسان واحد فقط هو خطيبي الذي كان هائما بي ويحاول أن يحقق لي كل ما أريد أو أحلم به .
وخلال فترة الخطبة حدث كثيرا أن اختلفت أراؤنا في شئون الزواج المقبل أو الاستعدادا له .. فكنت أنفعل عليه بحدة غريبة في كل مرة , رغم أن الأمر كله لا يستحق الانفعال .. وبدلا من أن يغضب خطيبي أو ينفر مني كنت أجده يتراجع على الفور ويتنازل عن مطلبه أو رأيه الذي أثار الخلاف في كل الظروف .. واستمر الحال هكذا طوال فترة الخطبة .. وتم اعداد كل شئ للزواج وتزوجنا وبدأنا حياتنا معا وهو في قمة السعادة ويحس بأنه نال كل ما كان يتمناه في حياته .. وأحس أنا بأني قد تنازلت عن آمالي وأحلامي بقبول هذا الزواج . ورغم ذلك فلقد مضت بنا الحياة وأنجبنا أول أطفالنا .. ومع الانجاب وأعباء الطفل وشئون البيت والحياة زادت عصبيتي على زوجي وازداد هو تعلقا بي وهياما , ثم جاء الطفل الثاني والثالث , وازددت عصبية وانفعالا عليه إلى حد الصراخ في وجهه لأتفه الأسباب , ودخول غرفتي واغلاق بابها دونه وهو يرجو ويتوسل بالساعات أن أفتح له الباب دون أن أرق له أو ألين .
أما في شئون الحياة بيننا .. فلقد تماديت .. واعترف لك بذلك , في عدم الاستجابة لرغباته ومطالبه مهما كانت بسيطة وبغير دافع أحيانا سوى ألا يعتاد مني الاستجابة والتلبية بسهولة !
فكان في كل مرة يطلب مني فيها مطلبا عاديا أناقشه فيه طويلا وأحاوره وأثبت له بالحجة والدليل خطأ مطلبه أو رأيه وبعده عن الحكمة والصواب فيتنازل عن مطلبه راضيا وشاعرا بأنه كان مخطئا فيما طلب .. وفي بعض الأحيان كنت أجده يقف أمامي شاعرا بالخجل من موقفه ورأيه "الخاطئ" وكل ذلك في أمور لم تكن تستحق النقاش أو الجدال وما كان أسهل أن أحققها له لو أردت ذلك .. لكني أريد أن أعترف لك بذلك حتى أرضي ضميري وأتخلص من احساسي بالذنب تجاهه .
ومضت عشر سنوات على زواجنا ولم يتغير الحال بيننا عما رويته لك وبقى زوجي دائما العاشق الهائم بحبي والمتنازل دائما عن مطالبه من أجلي .. وظللت أنا الزوجة المصرة دائما على أن أناقشه وأحاوره في كل مطلب أو رغبة له إلى أن يتنازل عنها .
ومنذ أسابيع قليلة وجدت زوجي متغيرا ومتضايقا بعض الشئ ولم أعرف السبب ولم أهتم بمعرفته .. فبعد أيام قليلة وربما ساعات سوف يعود إلى طبيعته ويبدأني بالاعتذار عن تغيره في الفترة السابقة كما تعودت منه ذلك .. لكنه لم يفعل هذه المرة .. ثم حدث أن طلب مني مطلبا عاديا فإذا بي أتهيج عليه فجأة وأصرخ في وجهه واتهمه بالجنون والحماقة . وأندب حظي الذي حكم علي بأن أتحمل هذه الحياة وأرضى بهذا "الذل" مع إنسان "تنازلت " بالارتباط به دون مقابل .. فأطرق زوجي برأسه وخفض عينيه في الأرض وظل صامتا طوال الوقت إلى ان انتهيت من صياحي وكلامي ثم رفع عينيه إلى وجهي ونظر إلي لبرهة واستدار وغادر الشقة .
ولم أهتم بخروجه فلن يطول الوقت ثم يرجع .. فإذا ما أبديت له بعض الاهتمام عقب عودته سوف ينسى كل ما كان بيننا ويعود محبا هائما كما كان .. لكن الساعات مضت ولم يعد زوجي هذه المرة , ومضت الليلة كلها ولم يعد , فبدأت أشعر بالقلق وأنتظر عودته في اليوم التالي , فإذا به لا يرجع فيه أيضا ومضت أيام أخرى بغير عودته .
وبدأت أشعر بالخطر وبحثت عنه مرة أخرى وسألت أهله ومعارفه فلم أجد جوابا عن أسئلتي الحائرة لدى أحد منهم .. وقد مضت الآن أسابيع ولم يعد زوجي بعد , ولم يتصل بي وأطفالي الثلاثة يعذبونني بالسؤال عنه كل يوم عند استيقاظهم من النوم في الصباح , وعند عودتهم من المدرسة ويسألونني في كل لحظة "أين بابا" .. فلا أجد جوابا لسؤالهم المؤلم ..
إنني أعترف لك يا سيدي بأنني مخطئة في حق زوجي .. وقد كتبت لك في هذه الرسالة ما لم أعترف به لأحد من قبل عن علاقتي به , لكني أشعر بأني في لحظة صدق مع نفسي كان يجب أن أواجهها منذ زمن بعيد .. وأريدك أن تساعدني في إعادة زوجي إلى بيته وأطفاله وزوجته لأنه يقرأ لك باستمرار ويقتنع بآرائك واستحلفك بالله أن تعينني على استعادته لبيته ليس من أجلي فقط , وإنما من أجل أطفالي أيضا .. وإنني أعتذر له عن خطئي في حقه , وأبدي له استعدادي لأن أقبل رأسه ويده ليسامحني ويعفو عما فات , وهو صاحب قلب حنون مازلت حتى الآن في دهشة كيف استطاع أن يصل إلى هذه الدرجة من القسوة معنا.
جميع الحقوق محفوظة لمدونة "من الأدب الإنساني لعبد الوهاب مطاوع"
abdelwahabmetawe.blogspot.com
ولـكــاتـــبة هـــذه الــرســالـــة أقــــول :
لأعرفنك بعد الموت تندبني
وفي حياتي ما زودتني زادا
هكذا يحق لزوجك ولزوجات وأزواج كثيرين أن يقولوا حين يفتقدون التقدير المخلص من شركاء حياتهم الذين لا يلتفتون إلى مزاياهم ولا يعرفون لهم حق قدرهم إلا بعد أن يهجروا بيوتهم أو يرحلوا نهائيا عن الحياة آملين أن يجدوا في السماء ما افتقدوه من تكريم وانصاف في الأرض .
يا سيدتي لقد ارتكبت في علاقتك بزوجك منذ البداية أخطاء فادحة عديدة ترجع كلها إلى عامل جوهري هو احساسك المغالى فيه بجمالك وتقديرك المبالغ فيه لنفسك .. فبسبب هذا العامل رفضت كثيرين تقدموا لخطبتك , وقبلت في النهاية من لم تقتنعي به لحظة واحدة وهذه جريمة في حد ذاتها في حقك وفي حق هذا الشاب البرئ الذي جاءك مادا يده يطلب السعادة لنفسه ولك .. فبدأت علاقتك به وأنت تنطوين على احساس خاطئ بأنك أميرة قد تنازلت عن عرشها وقبلت الارتباط بمن لا يستحقها , ولهذا فمن واجبه دائما أن يلهج دائما بالشكر والثناء وليس من حقه أن يعترض على شئ أو يطلب شيئا , وشجعك على التمادي في هذا الخطأ حب زوجك الطاغي لك ورغبته الدائمة في ارضائك والتنازل عن آرائه ومطالبه من أجلك , وغاب عنك في كل ذلك أن جمال الشكل إن لم يتسلح بجمال الروح وجمال المعاشرة وحسن التقدير لشريك العمر فإنه يفقد أثره مع الزمن .. وربما تحول في عين من يشقى بصاحبته إلى قبح تعافه النفس .. ولا عجب في ذلك لأن الجمال ليس في النهاية سوى بطاقة تعارف قد تجمع بين الغرباء , لكنه لا تؤدم بينهم إلا بالعشرة الطيبة والفهم المتبادل .
وغاب عنك أيضا أن الحب في النهاية مهما كان آسرا فهو نبات حي إن لم نتعهده بالرعاية جفت أوراقه .. واصفرت وتساقطت وماتت الشجرة الصغيرة واستعصى علاجها .. أو هو بعبارة أخرى رصيد مشترك لابد أن يغذيه الطرفان باستمرار بالمزيد والمزيد من حسن المعاملة والفهم والعطف , وإلا نفد وارتدت إلينا شيكاتنا من بنكة مشفوعة بالاعتذار لنفاد الرصيد، وأنت قد سحبت كثيرا من رصيدك لدى زوجك خلال السنوات الماضية بغرورك وأنانيتك وتسلطك عليه وسوء معاملتك له .. لهذا فقد جف النبع .. وأفلس الرصيد .
ورغم كل ذلك فإن الأمل في الإصلاح لم ينفد بعد .. وإني لأعتبر رسالتك هذه اعترافا بكل الخطايا وتسليما بها وندما عليها .. أرجو أن يكون صادقا ودائما .. ومن عرف الداء فلقد عرف الدواء كما يقولون , لكن العلم بالدواء وحده لا يكفي , وإنما ينبغي التماسه من مصادره والتداوي به وأول خطوة لك على هذا الطريق هو أن تغيري من نظرتك إلى نفسك أولا وتتخلصي من آفة الإعجاب بالنفس والرثاء لها بدعوى أنها قد نالت من الحياة أقل مما تستحق !
فهذا الاحساس الخادع هو دائما عدو الرضا والاقتناع والتقدير المنصف للآخرين , والمؤكد أنك لو نجحت في التخلص من هذه النظرة فإنك سوف تغيرين بالضرورة من نظرتك إلى زوجك وسوف ترين فيه مزاياه العديدة وأهمها هيامه بك وحسن معاشرته لك .. وانكاره لذاته من أجلك وأجل أسرته وأبنائه .
إن أصحاب القلوب الحكيمة وحدهم هم الذين لا يحتاجون لأن يفقدوا الشئ أولا لكي يعرفوا له حق قدره ويندموا على ضياعه من بين أيديهم، والحمقى والمغرورون وأهل العناد الأعمى هم غالبا من يذهلون حين يكتشفون فجأة أن من اعتمدوا باطمئنان الغافلين طويلا إلى أنهم سوف يتقبلون منهم كل شئ إلا ما لا نهاية قد انقلبوا عليهم وتحرروا من ضعفهم معهم وفروا هاربين من جحيم الحياة معهم .
فأنقذي نفسك يا سيدتي من هذا المصير وغالبي إذا ما عادت المياه إلى مجاريها مع زوجك , الاستسلام بعد قليل إلى أن كل شئ قد عاد كما كان ولم يعد يتطلب منا بذل الجهد للمحافظة عليه وحمايته من الانتكاس , وقاومي قدر الجهد والاستطاعة الاستسلام لنزعة "جبر التكرار" التي تتسبب في كثير من الكوارث , وهي نزعة في العقل البشري تقود البعض إلى ارتكاب نفس الأخطاء رغم ادراكهم تماما لسوء العاقبة من سابق تجاربهم معها كما هو الحال مع المدمنين وضعاف الارادة .. وحطمي كبرياءك .. وأذهبي إلى زوجك في مقر عمله واعتذري له وأقنعيه "وأنت ماهرة في الإقناع" بأنك قد عرفت كل أخطائك معه وندمت عليها وأكتشفت أنه قيمة كبرى في حياتك لا تستطعين الاستغناء عنها واصبري على رفضه إذا رفض العودة في البداية حتى يقتنع بصدق تغيرك , فالحق أنه يخيل إلي أنك لم تبذلي جهدا كافيا في البحث عنه وإعادته لبيته وأطفاله وأنك اكتفيت بانتظار عودته "نادما ومعتذرا" أو اكتفيت بالبحث عنه تليفونيا خجلا من أن تظهري بمظهر الساعية إليه , وأنت "الأميرة" التي طالما سعى هو إليك فهذا أقرب للمنطق .. إذ كيف يختفي طبيب شاب من كل مظانة وتفقدي أثره وله عمل معروف يرتبط به وأهل وأصدقاء !
يا سيدتي .. إن كل خطوة تمشينها إلى زوجك إنما تكفر عنك بعض ما ارتكبت في حقه وحق أطفالك الذين حرمتهم من أبيهم العطوف .. وعلى قدر الخطيئة .. يكون العناء والاجتهاد في طلب الغفران .. والصوفية يذلون كبرياء النفس طلبا لصفاء الروح .. وتحررها من الخطايا .
فاطلبي هذا الصفاء بصدق الندم .. وصدق السعي إلى زوجك وليس بالاكتفاء بانتظار عودته , وكل رجائي ألا يكون قد مضى بعيدا في طريق اللاعودة وخطط لحياة جديدة أخرى .
وفي تقديري أنه سوف يقدر في النهاية مسئوليته عن أطفاله الثلاثة وسيقوده احساسه النبيل بواجبه تجاههم إلى العودة إذا أحس بصدق ندمك على أخطائك في حقه .. وصدق رغبتك في فتح صفحة جديدة معه بحرص .
نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" أكتوبر 1993
كتابة النص من مصدره / بسنت محمود
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر