النظرات المحمومة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1993
أنا سيدة عمري 33 عاما نشأت في أسرة كبيرة العدد من 7 بنات وولدين وقد بلغنا نحن الفتيات سبعا لأن والدنا كان يريد ولدا يحمل اسمه لهذا فقد واصل الانجاب ولم ييأس حتى جاء الولد بعد سبعة بنات ثم تلاه ولد آخر فرضي أبي عن حياته .. وكان أبي شديد الحزن والقسوة فكنا نحن الإخوة نضحك ونسهر مع بعضنا البعض , حتى إذا سمعنا صوت سيارته المتهالكة يقترب تفرقنا على الفور كل منا إلى مكان آمن ويخيم على البيت صمت رهيب لا يسمع فيه صوت سوى صوت أبي وهو "يزأر" طالبا الغداء والشاي والماء وأمي المسكينة تجري هنا وهناك لتلبي طلباته , ثم يخرج بعد الظهر لعمله الحرفي فنخرج نحن من مخابئنا ونعود للحديث والسمر ومشاهدة التليفزيون إلى أن يعود ليلا.
ولم يكن غريبا في مثل هذا الجو الصارم أن تظهر التشوهات النفسية بين هؤلاء الأطفال المذعورين دائما , ناهيك عن المشاحنات غير المتكافئة بين أبي وأمي الشهيدة التي تقول لنا دائما لولاكم لما بقيت في هذا البيت لحظة واحدة، فنحاول دائما أن نسري عنها ونضحكها معنا على أتفه الأشياء .. وكنا في طفولتنا ننجح دائما في دراستنا فلاحظنا أن نجاحنا لا يمثل لأبي أية أهمية حتى أننا كنا نخبره بنجاحنا فلا يبدي أية استجابة وكأنما لم يسمع شيئا فبدأنا ننجح ولا نخبره بنجاحنا ولا يسألنا هو عما فعلنا .. ثم بدأ بعضنا يتعثر في الدراسة ولا نخبره ولا يسألنا ثم ترك بعضنا الدراسة فلم ينزعج أبي لأنه هو نفسه لم يكمل تعليمه وتعلم احدى الحرف وأجادها وكان يعول هذه القبيلة من عائدها.
ورغم محاولاتنا جميعا لأن نخفف عن أنفسنا وطأة هذا الجو الثقيل فقد كانت وجوه إخوتي تحمل دائما مسحة حزن وانكسار مؤلمة , أما أنا فقد حافظت دائما على مرحي واختلافي عنهم وحاولت أن أسري عنهم وتفوقت في دراستي حتى كنت الوحيدة بينهم التي أكملت تعليمها الجامعي وتخرجت بتقدير متفوق .. وبعد تخرجي عملت في شركة خاصة وتعلمت تكنولوجيا الإدارة الحديثة وأجدت الانجليزية وحققت نجاحا كبيرا في عملي.
ومنذ صباي كانت كل أحلامي هي أن أخرج من بيت أبي لا لأني أكرهه لا قدر الله , وإنما لكي أتزوج وأنجب طفلين فقط أكرس لهما حياتي وأتعامل معهما بكل ما حرمت به من حنان وفهم وعطف , وأربيهم على الاحساس بالحرية والكرامة الشخصية وليس الخوف والرعب وأغرس فيهم القيم الصحيحة , أما أبي فإني رغم أسلوبه الهتلري في معاملتنا فقد كنت أحبه بشدة وأشفق عليه من مسئوليته الكبيرة عن اعالة هذه القبيلة الكبيرة وكثيرا ما رأيته ساهرا في الليل مهموما في الشرفة فأشفق عليه وأقدر أنه يواجه بعض المشاكل التي لا يشرك فيها أحدا , ولم نكن نعرف أوقات العسر من أوقات اليسر عنده لأنه كان دائما يلبي طلباتنا مهما كانت ظروفه في حدود الضروريات .. وتزوجت أختي الكبرى ثم التي تليها ثم جاء دوري للزواج وكانت لأبي طريقة فريدة في الزواج لا يحيد عنها هي أن يكون العريس من طرفه هو شخصيا وليس من طرفنا وألا تكون هناك فترة خطبة وإنما قران على الفور بعد زيارتين على الأكثر وقد التزم بها الأسلوب مع بناته الخمس اللاتي تزوجن حتى الآن , فعوضهن الله رغم ذلك ورزقهن بأزواج يمتازون بالطيبة والعطف والحنان وكأن أبي كان يبحث لنا بغير أن يدري عن أزواج يقدمون لنا ما عجز عن أن يقدمه هو لنا من هذه المشاعر.
ورغم أني لم أر زوجي قبل عقد القران سوى مرتين إلا أن الله قد شاء أن يتحقق التوافق بيننا على الفور وتزوجت منذ 5 سنوات وعشت مع زوجي حياة سعيدة مستقرة ووجدت فيه رجلا طيبا يعشق بيته ويكره المشاكل ولا يعطي لها الفرصة للظهور .. ومضت ثلاث سنوات على زواجنا .. ولم ننجب ولم يتحقق حلمي في انجاب الطفلين اللذين سأعطيهما كل ما حرمت منه في طفولتي وبدأنا طريق العلاج .. وبدأت أنا بالفحوص والتحاليل فأثبتت أنه ليس لديَ ما يمنع من الانجاب ثم جاء دور زوجي فتبين من أول فحص له أنه غير قادر على الانجاب إلا بعد اجراء جراحة نسبة نجاحها ضعيفة وتكاليفها باهظة.
وتماسكت حين علمت بذلك واقتنعت بأن هذا هو قدري واختباري الذي اختارني الله له ولابد أن أنجح في اختباره لي , ورضيت عن حياتي مؤمنة بأنه كما أن المال والبنون زينة الحياة الدنيا فإن العقم أيضا قد يكون في بعض الأحيان نعمة وليس نقمة , فقد يرحمني به الله من ذرية غير صالحة أو مريضة أو معاقة أشقى بها طوال عمري .. كما قد يرحمنا به أيضا من ابن عاق يتنكر لي ولأبيه في الكبر.
وواصلت حياتي مطمئنة وراضية بأقداري إلى أن شاءت المصادفة أن ألتقي في احدى وسائل المواصلات بسيدة طاعنة في السن جلست إلى جواري وبدأت تبكي فظننتها مريضة أو متعبة وسألتها عما بها فأجابتني متألمة : وحيدة يا بنتي ! مات زوجي ولم نكن قد أنجبنا .. ولم يبق أحد من أهلي على قيد الحياة وبعد وفاة زوجي جاء أبناء أخيه وحصلوا على نصيبهم من ميراثه ومضوا في سبيلهم ولم أرهم مرة أخرى , ومنذ ذلك اليوم وأنا أعيش وحدي إذا مرضت لا أجد من يقدم لي كوب الماء وإذا أردت شراء شئ خرجت رغم مرضي وضعفي لشرائه وتمر علي أيام طويلة في شقتي لا أتكلم فيها، وأخاف إذا مت ألا يدري بي أحد ! وعادت تبكي فوجدتني أنهار باكية معها وأنا لا أعرف هل أبكي اشفاقا عليها أم اشفاقا على نفسي مما ينتظرني من مصير مماثل.
ومنذ هذا اليوم يا سيدي تغيرت حياتي تغيرا كبيرا وأصبحت تنتابني مشاعر غريبة .. وسيطر الحزن واليأس علي , وكلما رأيت طفلا في الطريق طفرت الدموع من عيني وأنا أنظر إليه نظرات الحرمان المحمومة غير مبالية بدهشة من حولي لبكائي .. وفقدت طموحي في عملي ولم أعد أتمنى شيئا في الحياة وقد كنت أدخر من دخلي أنا وزوجي لنكمل شقتنا ببعض الأجهزة الكهربائية وقطع الأثاث الصغيرة والتحف البسيطة .. فتوقفت عن ذلك وأنا أسأل نفسي ولماذا نعمل ونشقى ونحرم أنفسنا لكي يرث الآخرون ثمرة عرقنا وكدنا ذات يوم وهم ليسوا في حاجة إليها.
إنني لست حزينة لأنني لم أنجب ولن أنجب لكنني أخاف الوحدة في الكبر وأخاف على نفسي من أن ألقى مصير هذه السيدة المسكينة التي ألتقيت بها بالمصادفة , وأخاف أيضا على زوجي من أن يلقى نفس المصير إذا وافتني المنية قبله.
إن زوجي وهو لا ذنب له في حالته يعذبني هو الآخر بنظراته المحمومة إلى الأطفال ومداعبته لهم وتمسكه بهم في أي مكان نوجد فيه .. وكثيرا ما ينظر إلى حرماننا من الأطفال فأتظاهر بعدم فهم نظراته لأني أحبه حبا جما ولا أستطيع الحياة بدونه.
إنني أشعر بأن في كلماتي شيئا من عدم الرضا بما قدره الله لي وألوم نفسي على ذلك وأكثر من الصلاة وقراءة القرآن فتهدأ نفسي قليلا ثم تعود وتتمرد علي بعد فترة أخرى.
لقد نفد زادي للحياة يا سيدي .. فهل تعطيني من خبرتك بعض الزاد الجديد لكي أستطيع أن أواصل مشواري وأكف عن ظلم نفسي كما أفعل الآن ؟
جميع الحقوق محفوظة لمدونة "من الأدب الإنساني لعبد الوهاب مطاوع"
abdelwahabmetawe.blogspot.com
ولـــكـــاتـــبة هــذه الــرســالة أقول:
هيهات أن تحس بالوحدة في الكبر من كانت لها مثل "قبيلتك" هذه من الاخوة والاخوات , وما سوف يتفرع عنها من فروع وأبناء وأحفاد بإذن الله .. فالحق أني أخشى عليك من وطأة "الزحام" حولك في سن الكبر وليس من الوحدة , لأن من كانت لها مثل شخصيتك الطيبة المرحة وسط الصعوبات والمتفهمة لحقائق الحياة ولا ينقصها التعاطف الانساني مع الآخرين , لابد أن تجذب القلوب حولها في كل مراحل العمر ولن يدعها أحد للوحدة لأن النفوس تميل دائما إلى من تلتمس عنده العطف والفهم والحنان والعطاء الإنساني , أما الجفاء والقسوة والأنانية والانكفاء على الذات والبخل بالعطاء فهي الجدران العالية التي يقيمها الإنسان بيديه , فتعزله عن الآخرين لهذا فقد يقاسي الوحدة في الكبر بعض من لم يحرموا من الانجاب .. وقد يستمتع بالدفء الإنساني بعض من حرموا منه اذا حافظوا على جسورهم دائما مع الآخرين , لقد جدد لقاؤك بهذه السيدة الوحيدة تطلعك الحزين إلى "المفقود" في حياتك , فأثار كل هذه الهواجس في نفسك وبدد طمأنينتك وتطلع النفس إلى "المفقود" ضعف بشري قديم يشغل المرء دائما عن الاستمتاع "بالموجود" ويعذبه بالرغبة فيما ينقصه , والشاعر العربي القديم يقول:
إني بليت بأربع لم يخلقوا
إلا لشدة شقوتي وعنائي
إبليس والدنيا ونفسي والهوى
وكيف الخلاص .. وكلهم أعدائي
والنفس وما تهوى من أكثر أسباب الشقاء الإنساني على مر العصور .. على أن الصورة رغم ذلك لن تكون قاتمة السواد أبدا كما تصورها لك هواجسك الحزينة الآن .. فالإنسان يستطيع دائما أن يتواءم مع ظروفه اذا رضي بها ورد نفسه عن التطلع إلى ما لا حيلة له في حرمانه منه.
والحياة يا سيدتي جديرة دائما بأن نحياها مهما كان نصيبنا منها , ولكل حال دائما مزاياها وعيوبها , والسعادة المثلى التي اكتملت كل جوانبها وخلت من كل نقص أو كدر لم تهبط بعد إلى الأرض , ولو كانت الأرض موطنا لها فلمن إذن خلقت جنات النعيم.
والعاقل هو من يسعد بأسباب السعادة التي اتيحت له ويرضى بنواقص حياته , ويحاول أن يعوض نفسه عنها بالوسائل المتاحة , وفي ظروفك فإنك تستطعين على سبيل المثال أن تخصي إحدى بنات شقيقاتك أو أولادهن برعايتك وحبك واهتمامك فتعوضي بهذا الحب بعض نقص حياتك وما أكثر من شهدنا في الحياة من ناجحين كانت أمهاتهم البديلات أكثر عطفا عليهم واعتزازا بما حققوا من نجاح بمساندتهن من أمهاتهن الطبيعات , كما تستطعين أيضا أن تسعدي بشركة حياتك مع هذا الزوج الطيب العطوف , وأن تحققي ذاتك في عملك .. وأن تحولي مسكنك إلى واحة جميلة تستمتعين أنت وزوجك بها , وليس مهما بعد ذلك إلى من ستؤول بعد عمر طويل .. كما تستطعين أيضا أن تطلقي كل طاقاتك الابداعية وتستعيدي روحك المرحة التي صمدت للحكم العرفي في بيت أبيك .. وتلتمسي السلوى في أشياء كثيرة في حياتك وحياة قبيلتك ثم دعي بعد ذلك أمر المستقبل لمن يملك أمره .. وسوف يعرفه كيف يشاء , ولن يكون إلا خيرا بإذن الله.
لقد شاءت إرادة الله ألا يتحقق أملك في انجاب طفلين تهبينهما كل ما حرمت منه في طفولتك وأني لأقدر تماما تطلعك الانساني المشروع إلى هذا الحلم القديم .. لكن هل خلت الحياة حولك مما يستحق أن تسعدي له وتتعزي به عما لم تأذن لنا به إرادة الله ؟
إن الأبناء كالرزق والصحة والمرض والسعادة والعمر من قدر الله وحده والتنزيل الحكيم يقول لنا :"ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده " صدق الله العظيم .
فإذا كان الله أعدل الحاكمين قد أمسك عنا بعض ما أرسله إلى غيرنا لحكمة تجل عن أفهامنا القاصرة .. أفلا نتقبل حكمه فينا راضين صابرين ؟
إن من أقوال الحكماء التي تمس قلبي دائما قول أحدهم : اصبر محتسبا مأجورا , وإلا صبرت مضطرا مأزورا.
وإذا لم يكن من الامتثال بد فلماذا نحرم أنفسنا فضل المحتسبين المأجورين ؟
يا سيدتي ادفعي عن نفسك هذه الهواجس والأفكار .. وقاومي هذه الأعراض الاكتئابية قبل أن تتمكن منك وتدفعي ثمنها غاليا من صحتك وحياتك .. واستبشري بالغد , فلن تعاني من الوحدة ذات يوم بإذن الله , وتأملي حياتك وقارني بينها وبين حياة أخريات كثيرات لم يستمر زواجهن التعيس إلا اضطرارا ومن أجل مصلحة الأبناء , وحال أمك الشهيدة خير مثال لذلك .. واسألي نفسك : هل كنت تفضلين لنفسك مثل هذه الحياة لو شاء لك حظك ألا توفقي إلى زوج محب عطوف ورزقت بأبناء اضطروك إلى تحمل الشقاء في حياتك الزوجية إلى نهاية العمر.
لقد قلت لك من قبل أن لكل حال مزاياها وجمالها .. ومن أحوال الزواج الذي لا يقدر الله لأصحابه الانجاب ألا يكون لاستمراره أي مبرر آخر سوى الحب والفهم والعطف والعشرة الطيبة , فإن خلا من ذلك لم يكن لأحد طرفيه أي دافع مقبول لكي يواصله ويتجرع كؤوس التعاسة فيه , ولاشك أن هذا هو حالك الآن .. ألا تتعزين بذلك ولو بعض العزاء عما شاءت الأقدار حرمانك منه ؟
نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" أكتوبر 1993
كتابة النص من مصدره / بسنت محمود
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر