درجات الرأفة .. رسالة من بريد الجمعة سنة 2000
كلما كانت الخيارات التي يتردد بينها المرء عادلة ومشروعة ازدادت حيرته معها .. غير أن نداء العقل يطالبنا في كل الأحوال بالتروي قبل ترجيح بعض هذه الخيارات على بعضها الآخر والالتزام بها .. وتجربة العمر تقول لنا إنه لا تأكيد لشيء في الزواج الذي لم تنعقد عراه بعد إلا بالتجربة الفعلية والمعاشرة المشتركة واختبار الأيام لصدق الوعود والأحلام الوردية بالسعادة مع شركاء الحياة.
عبد الوهاب مطاوع
أنا رجل أبلغ من العمر 38 عاما
.. أعمل عملا مهنيا مرموقا ولدي مكتب خاص, هادئ الطباع وطيب القلب ومن أسرة
متوسطة الحال لكن لها تراثها في الأخلاق والتربية والأصل الكريم .. ولقد تعرفت
ذات يوم على زميلة لي في العمل ورشحها الزملاء لي للزواج .. ووجدتها مناسبة لي
فتقدمت لخطبتها وتم عقد القران وتزوجنا .. وبعد الزواج تكشفت لي شخصيتها
الحقيقية فإذا بها إنسانة حادة الطباع سليطة اللسان قبيحة الألفاظ .. وحاولت
كثيرا إصلاحها خاصة بعد أن رزقنا الله بطفلة جميلة ولكن دون جدوى فاستسلمت لأقداري,
ورضيت بحياتي كما هي واستمر زواجنا 8 سنوات لم نعش خلالها معا أكثر من بضعة شهور
في مجموعها.. أما بقية الأيام فلقد هجرتني خلالها وأقامت في بيت أهلها
على فترات متقطعة, وفي آخر مرات هجرها لبيت الزوجية طلبت الطلاق وأصرت عليه
وحاولت بكل ما أملك من حيلة استعادتها مرة أخرى, وحاول معي الأهل جاهدين ذلك
لكنها تمسكت بمطلبها, ولم أجد مفرا من إجابتها إليه فطلقتها منذ عامين وأنا حزين
لفشلي في حياتي الزوجية, ونشأة طفلتي الوحيدة بعيدا عني .. وزاد من أسفي أنني
علمت بعد طلاقي لها أنها حامل في جنين آخر, وبعد شهور أنجبت طفلة أخرى.
أما أنا فقد سلمت أمري إلى
الله وعشت حياتي في كنف أسرتي, وحاولت نسيان مرارة التجربة والتعزي عنها..
وذات يوم دخلت مكتبي سيدة جميلة هادئة الطباع مع طفل لها في عمل يتعلق بها..
فأديت العمل المطلوب مني لكني وجدت نفسي منجذبا إلى هذه السيدة بإحساس غامض.. وخلال
ممارستي لعملي تبادلت معها أطراف الحديث فعلمت منها أنها أرملة وأن عمرها 33 عاما
ولها طفل آخر أكبر من الطفل الذي اصطحبته معها بعامين وشعرت بالرغبة في أن أراها
مرة أخرى, فاصطنعت سببا لتكرار الزيارة وطلبت منها العودة مرة أخرى بعد أسبوع لإتمام
العمل الذي جاءت من أجله وانصرفت هي شاكرة, وترقبت عودتها باهتمام شديد وفي
الموعد المحدد جاءت من جديد فشعرت بالسعادة داخلي.. وبقلبي يخفق في صدري
كالمراهقين.. وتجاذبت معها أطراف الحديث فاسترحت لحديثها العذب وأسلوبها الجميل
وطبيعتها الهادئة وجمالها وأناقتها واحترامها لنفسها ولمن حولها, وتبادلنا أرقام
التليفونات, وبدأت المكالمات التليفونية بيننا
وبعد فترة من الاتصالات اعترف كل منا بحبه للطرف الآخر, ووجدت هي نفسها معي
ووجدت أنا نفسي معها ولمست لديها الحب والتفاهم والثقة بالنفس.. وكل شيء جميل في
الحياة إلى جانب أنها إنسانة مثقفة ولها مركز مرموق في عملها, واتفقنا على
الزواج.. وبدأت الاستعداد له فإذا بي أجد نفسي أمام خيار صعب لم يكن في تقديري
قبل ذلك, فلقد علمت مطلقتي وأم الطفلتين بنيتي في الزواج فبعثت بمندوبين من
أهلها للصلح.. وجاءت هي نفسها إلى أسرتي فرحبت بها الأسرة وبدأ أهلي يحثونني على
إعادتها إلى عصمتي لكي تنشأ الطفلتان بين أحضاني, وفي نفس الوقت تغيرت معاملة
أسرتي للسيدة الأخرى عند اتصالها بي بالتليفون في البيت وبدأت تشكو لي من تحفظ
الأهل أو جفائهم معها حين يجيبون على مكالماتها.
وأنا الآن حائر فيما أفعل,
فلقد كرهت عشرة زوجتي السابقة بسبب مرارة تجربتي معها, لكني لا أحب في نفس الوقت
أن أظلم الطفلتين وأحرمهما من حقهما في الحياة مع أبيهما, ولو ترك لي الأمر
لاخترت أن أعيش مع هذه السيدة الأرملة التي أحبها جدا ولا أطيق فراقها ومعنا طفلاها
والطفلتان ونحيا معا كلنا في سعادة, لكني أدرك استحالة تحقيق ذلك في ظل قانون
الأحوال الشخصية الذي يعطي حق حضانة الطفلتين لأمهما.. فكيف أواجه هذه المعادلة
الصعبة. وأي خيار أختاره!
ولكاتب هذه الرسالة أقول:
أنت محق بالفعل يا سيدي في ترددك واضطرابك أمام ما تواجهه الآن من اختيار لحياتك وأيامك المقبلة.. ذلك أنه اختيار بين وعد بالسعادة مع هذه الأرملة الشابة التي تعرفت عليها بعد عامين من انفصالك عن زوجتك السابقة, وبين وعد بالأمان والاستقرار لطفلتين صغيرتين يدعوك ضميرك الأخلاقي للوفاء لهما به حتى ولو تخوفت من تكرار التجربة المريرة التي عانيتها من قبل.وكلما كانت الخيارات التي يتردد بينها المرء عادلة ومشروعة ازدادت حيرته معها.
غير أن نداء العقل يطالبنا
في كل الأحوال بالتروي قبل ترجيح بعض هذه الخيارات على بعضها الآخر والالتزام بها.
وتجربة العمر تقول لنا إنه
لا تأكيد لشيء في الزواج الذي لم تنعقد عراه بعد إلا بالتجربة الفعلية والمعاشرة
المشتركة واختبار الأيام لصدق الوعود والأحلام الوردية بالسعادة مع شركاء الحياة,
وعلى هذا الأساس أقول لك أن الوعد بالسعادة مع هذه الأرملة الشابة يظل وعدا معلقا
إلى أن تختبره الأيام وتحققه على أرض الواقع. كما أن الاختيار العاطفي في مثل
ظروفك هذه وإن كان له ما يؤيده من مبررات ودوافع.. إلا أنه لن يكون خاليا من
النواقص والمكدرات لافتقادك لطفلتيك وإحساسك بالذنب تجاههما لحرمانهما من حق
النشأة الطبيعية بين أبوين يجمعهما بيت واحد.
أما على الجانب الآخر الخاص
بزوجتك السابقة ومعاناتك القديمة معها, فإن توجسك من تكرار التجربة المريرة معها.
له أيضا ما يبرره وما قد يدفعك لترجيح الاختيار العاطفي على قبول مساعيها للعودة
إليك, لكنه ليس من المؤكد أيضا أن تكرر مطلقتك
تجربتها السابقة معك بنفس أخطائها وعثراتها وإلا فما قيمة التجربة والخطأ إذن إذا
لم تكن قد استفادت شيئا من فشلها معك وحرمان طفلتيها من أبيهما, ومجيء طفلتها
الصغرى إلي الحياة في غيبة أبيها؟
لقد استشعرت الخطر حين علمت
بنيتك في الزواج فسعت إليك هي هذه المرة طالبة العودة إليك, ولابد أن يكون ذلك
مؤشرا ايجابيا على تغير بعض أفكارها وملامح شخصيتها, وإلا لما تنازلت عن
كبريائها السابق وسعت إليك وقد كانت هي التي رفضت من قبل كل محاولات الصلح وأصرت
على الطلاق.
ومعنى ذلك أنك الآن أمام
وعدين كل منهما غير مؤكد حتى الآن وإن أوحت شواهده بغير ذلك.. الأول بالسعادة مع
أرملة شابة جميلة وهادئة صادفتك وأنت في فترة من الضعف النفسي وفقد الثقة في النفس
والإحساس بالوحدة عقب مرارة الفشل في الزواج, والثاني بالتعاسة وتكرار المعاناة
لدى مطلقتك مع توافر الحد الأدنى من الأمان والاستقرار لطفلتيك, ولأن الإنسان لا
يستطيع للأسف أن يخضع المستقبل للتجربة لكي يختار لنفسه طريقه فيه على ضوء نتائج
الاختبار, فلا مفر أمامه من دراسة الواقع ومحاولة استقراء المستقبل على ضوء ما
يتاح له من شواهد وعلامات الطريق, وأول ما ينبغي لك أن تتبصره جيدا قبل اتخاذ أي
قرار هو هل اختيارك العاطفي لهذه الأرملة الشابة هو اختيار نهائي لا رجعة فيه ولا
مبدل له أم أنه اختيار للأفضل مع امكان القبول بالمفضول إذا رجحته اعتبارات أخرى
جليلة الشأن كسعادة الأبناء واستقرارهم وخلو القلب من الإحساس بالذنب تجاههم لتفضيله
سعادته الشخصية علي أمانهم؟
وهل هذه العاطفة التي
تحملها لهذه الأرملة الشابة عاطفة حقيقة راسخة وثابتة ثبوت الجنادل لتيارات المياه,
أم أنها عاطفة عابرة صادفت قلبا خاليا ونفسا جريحة فوجدت الطريق ممهدا أمامها بلا
عناء؟
وهل تستطيع أن تجزم صادقا
بأن زوجتك السابقة لم تستوعب دروس تجربتها الفاشلة معك ولم تتخلص بالفعل من بعض ما
أنكرته عليها خلالها؟.. وبالتالي فإنك تستطيع استئناف الحياة معها.. وتجاوز
صفحتها القديمة معك؟
انك وحدك من يملك الاجابة
على هذه الأسئلة.. فوجهها إلى نفسك واختبر اجاباتها بموضوعية, فإذا جاءت
النتائج في النهاية مؤيدة لاختيارك العاطفي والأمل في السعادة التي يغصها الحرمان
من طفلتيك والاحساس بالذنب تجاههما فامعن في الطريق الذي يؤدي بك إليه, وإذا
جاءت النتائج مرجحة لكفة الأمل في انصلاح الأحوال بينك وبين زوجتك السابقة..
واستقرار طفلتيك في كنف أبويهما فإن واجبك الأخلاقي والإنساني يدعوك لترجيح هذا
الاختيار والاعتذار للأرملة الشابة عن مشروع الارتباط بها.
أما إذا تساوت الكفتان أو
حتى تقاربتا فإن هذا الواجب نفسه يدعوك بغير تردد إلى تفضيل طفلتيك وزوجتك السابقة..
واحتساب درجات الرأفة لصالحهن أملا في سعادة الجميع واستقرارهم والسلام.
· نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 2000
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر