أغنية الطائر .. رسالة من بريد الجمعة عام 2001
أنا سيدة في بداية
العقد الخامس من عمري, تزوجت منذ ثلاثين عاما برجل يكبرني بسبعة أعوام بالطريقة
التقليدية, ولن أحكي لك عن تفاصيل حياتنا كثيرا فقد أنجبت ولدا وبنتا ومضت بنا
الحياة بمرها وحلوها وتحملت الكثير والكثير لكي أربي أبنائي وتخرجت ابنتي الكبرى في
كليتها النظرية وتخرج ابني أيضا في كلية الطب بعد ذلك بثلاث سنوات, وكنت قد بدأت
ألاحظ على ابنتي بعد تخرجها أنها قد بدأت تهتم بمظهرها كثيرا خاصة وهي جميلة
وهادئة, وكان لنا جيران بنفس العمارة كنا على صلة وثيقة معهم ونتبادل الزيارات
والمجاملات في بعض الأحيان, ولهم ابن حصل على مؤهل متوسط وسافر للخارج عدة أشهر
عاد بعدها ليطلب يد ابنتي الشابة, ومن هنا بدأت المشاكل فلقد رفضنا طلبه رفضا
شديدا لأنه غير مناسب لها من الناحية الثقافية والاجتماعية خاصة أن والده كان
موظفا بسيطا وأنا ووالدها مدير عام.
وفوجئت بابنتي
تصارحني بأنها تحبه منذ سنوات ولا تريد منا شيئا لأن فتاها على استعداد لتحمل جميع
النفقات لإتمام الزواج.. وان من حقها أن تختار حياتها وثار والدها عليها ثورة
عارمة ونعتها بأقسى الألفاظ وعاملها بقسوة حتى ساءت حالتها النفسية وهزلت تماما
ولجأت ابنتي إلي خالها لكي يحاول إقناع والدها بالعدول عن موقفه, فحاول جاهدا أن
يقنعه أو يقنعني لكيلا نفاجأ أننا قد نخسر ابنتنا.. وتحت الضغط الشديد وافقنا
ولكن بشرط أن يستكمل دراسته وينجح في أول عامين دراسيين ويشتري شقة فاخرة ويجهزها
بأثاث فاخر وبعد ذلك.. يمكن أن تتم الخطبة.. وليس قبل ذلك ووافق الشاب وارتاحت
ابنتي قليلا.. وبدأ الهدوء النسبي يعود للمنزل ولكني رأيت ابنتي سعيدة وقلقة في
الوقت نفسه وذات يوم قابلتني إحدى صديقاتي وسألتني عن ابنتي وهل تمت خطبتها لابن
الجيران أم لا .. فاعتبرنا
إذاعته لأمر الخطبة إخلالا بالاتفاق الذي تم بيننا على تأجيل كل شيء وأعلنا أنا
ووالدها رفضنا القاطع لهذا الشاب لأنه مستهتر وغير أمين عليها ولم تفلح محاولاتها
معنا أو محاولات خالها مع أبيها هذه المرة .
وعاود الشاب التقدم
لزوجي مرة أخرى بعد أن حقق بالفعل ما طلبناه منه ولكن والدها أعلن أنه يفضل أن
تموت ابنته على ألا تتزوج هذا الشخص أبدا.. واستمرت محاولات الشاب اليائسة حوالي4
سنوات.
وأرسل إلينا شيخ
الجامع ذات مرة وأهله تارة أخرى وحاول أن يذهب لأقاربنا تارة ثالثة وقوبل كل ذلك
منا بالرفض القاطع ناهيك عن منع ابنتي من الخروج ومن مقابلة صديقاتها ومن التحدث
بالتليفون, مع انتهاز كل فرصة لتذكيرها بأنها فاشلة لأنها فكرت في هذا الشاب
وجعلته ندا لنا.. كما كان والدها قاسيا جدا معها وكانت تمضي أسابيع دون أن
يكلمها أحد منا.. كلمة واحدة.
وإذا التقينا أنا أو
أبوها بأحد من أهله في الشارع أو على سلم العمارة لم يسلم أحدنا على الآخر ولم نرد
السلام إذا بدأونا به.
وغرقت ابنتي في الحزن
الصامت الذي لا تجرؤ على التعبير عنه وراحت تحاول دائما استرضاءنا بأي وسيلة ..
كأن تشتري شيئا للمنزل أو تأتي بعشاء فاخر إلخ, وكنت اعرف جيدا أنها تحبه وأنه
يحبها ولكن كنت أقول لها دائما إنها حين تتزوج شخصا آخر فهي لن تفكر فيه وأنها لابد أن تفكر أن
تتزوج من شخص له مركزه ومن عائلة تليق بنا لأن ذلك أفضل لها ولأولادها.
وتقدم لها كثيرون..
وكانت دائما تحاول أن تخفي حزنها وقلقها ولكني كنت أقول لنفسي إنها عندما تتزوج
بعقلها ستنجح وتنسى كل شيء.
وذات مرة حاولت ابنتي
أن تحدثني في أمرها وتقول لي انه ينبغي ألا نحكم على الشخص إلا بعد أن نتكلم معه
ونعرف كل شيء عن عمله وكفاحه وأن الآلاف من خريجي الجامعات لا يجدون أي عمل وأنه
يعمل بجد في مشروعه الصغير ويكسب كثيرا وأنه يحبني جدا ويكفي أنه تحمل الكثير من
الإهانات في سبيلها ولكن اتهمتها بأنها خائنة لثقتنا فيها وإنني سأزوجها من أول
عريس يتقدم لها حتى أتكتم فضيحتها.
وبالفعل تقدم لها شاب
يكبرها بـ 8 سنوات مهندس, ويملك كل الإمكانات اللازمة لحياة زوجية سعيدة
ووافقنا عليه وحددنا موعد الخطبة, وحذرت ابنتي من أن تظهر حزنها أو عدم ترحيبها
به فوافقت وحاولت بالفعل إخفاء حزنها وخيبة أملها.. وتمت الخطبة وبعدها بأربعة
أيام فقط سقطت ابنتي مغشيا عليها وهي تضع يدها على صدرها وتتألم.. وصرخنا فزعين..
واستدعينا الطبيب .. وتبين أنها قد أصيبت بأزمة قلبية مفاجئة.. ونقلت على
الفور إلى العناية المركزة بالمستشفى, وكانت أياما مريرة قضيناها أمام باب
الغرفة.. نترقب الأخبار وأشعر بالهلع الشديد على ابنتي ويتمزق قلبي وأنا أراها
محاطة بالخراطيم والأجهزة..
واسترجعت موقفنا منها وندمت عليه ندما شديدا وتمنيت لو كنا قد حققنا لها رغبتها
قبل أن تمرض وتمنيت أن أموت أنا وتحيا ابنتي.. ومضت الأزمة بعد عناء شديد ونقلت
إلى غرفة عادية بالمستشفى .. وحذرنا الأطباء من أن حالتها النفسية سيئة ولا
تساعدها على استرداد عافيتها.. وفي هذه الأثناء لاحظنا أن خطيبها ابن الحسب
والنسب قد بدأت زياراته لابنتي تتباعد.. وإذا جاء فلمدة دقائق خاطفة لأداء
الواجب ثم ينصرف.. ولاحظنا أيضا أن أهله قد تباعدوا عنا بعد الزيارات الأولى ..
ثم لم يلبث أن جاءنا الخبر المؤلم بأن خطيب ابنتي يعتذر عن عدم إتمام الخطبة
لأسباب يراها.. ولم يصارحنا بها وإن كانت واضحة كالشمس.. وهي انه لا يريد
لنفسه فتاة مريضة.. فإذا قلت لك أننا قد شعرنا حينذاك, بالحسرة الشديدة..
والغصة في القلب فلن أكون مغالية.. وإذا كان شيء قد خفف عنا هذه الغصة..
وجعلنا نراجع أنفسنا فيما فعلنا فهو ذلك الشاب ابن الجيران الذي رفضناه بشدة
وأهناه كثيرا.. والذي وجدناه في المستشفى أمام العناية المركزة في الساعات
الأولى من الأزمة يبكي بحرقة من أجل ابنتي ويتوسل إلينا أن نسمح له برؤيتها ولا
نعرف كيف علم بالخبر.. ولا كيف جاء بهذه السرعة.. وما أن سمحنا له بزيارتها
حتى تحسنت حالتها خلال أيام, وراح يزورها في المستشفى كل يوم صباحا وظهرا وفي
المساء.. ووقف بجانبها في هذه المحنة بأكثر مما فعل الآخرون.
واكتشفنا فيه كرم أخلاقه وطيبة قلبه وخوفه
الشديد على ابنتنا.. وتساءلت أنا وزوجي: لماذا رفضنا هذا الشاب الطيب
وكسرنا قلب ابنتنا وقلبه؟ ولماذا لم نكتشف فيه كل هذه السجايا حين كانت ابنتنا
تحدثنا عنه وتتوسل إلينا أن نمنحه الفرصة لإثبات جدارته.
* ولكاتبة هذه الرسالة أقول:
من الطيور المغردة طائر ينتشر في المناطق المدارية من الصين والهند والملايو والفلبين ويسمي بالطائر الخياط وقد سمي كذلك بسبب الطريقة التي يتبعها في بناء عشه فهو يبنيه من أوراق شجر عريضة يثني أطرافها إلى الداخل ويعمد إلى خياطتها ببعضها البعض بخيوط من حرير أو صوف أو من ألياف الخضراوات, ويستخدم منقاره كإبرة يثقب به طرف الورقة ويدخل الخيط ثم يجذبه من الناحية الأخرى, ويثقب طرف الورقة المجاورة ويدخل الخيط في الثقب بمنقاره ويسحبه ويكرر هذه العملية بدقة وصبر عجيبين, وبعد أن ينتهي من البناء يبدأ في فرشه من الداخل بحشائش لينة أو من الشعر أو الوبر النباتي, ويفعل كل ذلك وهو يغرد أغاريده الجميلة تعبيرا عن ابتهاجه ببناء العش الصغير.. وتفاؤلا بالغد الآتي! وكذلك تفعل الآن ابنتك الغالية يا سيدتي وهي تبني عشها السعيد بإذن الله.. وبعد أن زالت عنها محنة المرض وغمة الحرمان ممن اختاره القلب.. ولا عجب في ذلك .. فالطيور الحرة الطليقة تغرد عند الابتهاج والإحساس بالأمان وتصمت عند الحزن وافتقاد الأمان والحرمان من الأليف. وما أكثر ما قلنا إن تعاليم ديننا الحنيف تأمرنا
بألا نرفض من نرضى دينه وخلقه, وأن نجمع بين المتحابين في رباط شريف ماداموا لم
يخالفوا شرعا ولا دينا ولا تتعارض أحكام القلب في اختيارهم لبعضهم البعض مع أحكام
العقل. فالسعادة لا تتحقق بالشهادات العليا والمكانة الاجتماعية والأسرية وإنما
بالوفاق قبل كل شيء وحسن اختيار الشريك وصدق الحب وعمق الرغبة في الاستقرار
واعتدال المزاج النفسي وتقارب المستويات والميول والرؤى, ولقد يكون صاحب المؤهل
المتوسط كفئا كريما لصاحبته مادامت تتوافر فيه شروط الكفاءة الأسرية والاجتماعية
بل لعله يكون أيضا في بعض الأحيان أعلى درجة عائليا واجتماعيا من صاحب الشهادة
العليا, لكن استعداده الدراسي لم يؤهله لغير ما حققه من تعليم.. ولهذا فإنه لا
ينبغي إصدار الأحكام العامة في هذا الشأن أبدا, لكن المشكلة الحقيقية هي أننا قد
طبعنا للأسف على الميل الغريزي للإحساس بالتميز الاجتماعي أو الطبقي على من هم
أدني منا درجة.. أو نظنهم كذلك, فنتمسك بالفروق الصغيرة التي نستشعرها بيننا
وبينهم, ويتضخم إحساسنا بها, وقد تكون هذه الفروق متناهية الصغر إلى حد تكاد
معه ألا تُرى بالعين المجردة.
ولو أننا لم نستجب
لهذا الميل الغريزي لاستشعار التميز على الغير, ونظرنا للأمر كله نظرة تستهدي
بروح التواضع الذي يحثنا عليه ديننا لأدركنا بغير عناء كبير أننا غالبا أبناء طبقة
واحدة بدرجاتها المختلفة, ولا يحق لأحدنا أن يتفاخر على غيره بما أتاحته له ظروفه من نشأة أو
تعليم أو كسب.
فالكل مهما تطاولت قاماتهم صغار في النهاية أمام الغني الأعظم جل شأنه وتقدست أسماؤه .. كما أن هبات الله لا تحصى ولكن حياتك بينها أغلى الهبات .. كما يقول الشاعر الأستاذ مظهر سعيد ولأن الأمر كذلك فليس من الرحمة أن نبدد أوقاتا ثمينة لا تعوض من هذه الهبة الغالية في معاناة وآلام وأحزان كان من الميسور لنا أن نوفرها على أنفسنا وعلى أعزائنا لو كنا قد تعاملنا مع الأمور بالفهم وبعد النظر والمرونة الكافية, وليس بالقهر والترفع غير المبرر وتحجر الرأي.. إن الرباط بين الزوجين يحتاج إلى مزيد من العواطف الدافئة والدوائر المشتركة بينهما ثقافيا وإنسانيا.. ولم يكن اختيار ابنتك لفتاها الذي ارتبطت به عاطفيا.. مخالفا في شيء لشروط الكفاءة, سوى في شرط الشهادة التي لا يتوقف أمامه الكثيرون لتقارب المستوى الثقافي غالبا بين معظم خريجي الجامعات وخريجي المعاهد المتوسطة, ثم أثبتت المحنة التي تجلو طبيعة البشر وتكشف عن دخائلهم أن الاختيار العاطفي للابنة كان بالفعل هو الاختيار الأفضل لها خلقيا وإنسانيا.. وليس الاختيار الآخر الذي لم يصمد لأول اختبار, فإن كان ثمة فائدة لهذه المحنة فهي في أنها قد صهرت المعادن وأفرزت الأصيل من غيره, وحق لابنتك ولكم أن تسعدوا بما هداكم الله إليه.. وإن كان قد جاء عبر المحنة والألم والمشاعر القاسية.
* الصورة الرمزية للرسالة لطائر الخياط وهو يقوم ببناء عشه .
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر