حبات العقد .. رسالة من بريد الجمعة عام 1995
ترددت
كثيرا في الكتابة إليك .. وقد فشلت أكثر من مرة في استكمال رسالتي وأخيرا عقدت
عزمي على أن أكتب لك قصتي بعد أن انتظرت طويلا أن أقرأ مشكلة مشابهة لها في بريدك
فلم يتحقق ذلك.. وفي البداية أقول لك أنني شاب في الرابعة والثلاثين من العمر،
وأعمل عملا محترما يكفل لي حياة معقولة وقد أنهيت دراستي منذ حوالي 12 عاماً..
وارتبطت عاطفيا بابنة خالي التي وجدت فيها بغيتي وفتاة أحلامي, وأعلنت حبي على
الأسرة كلها من البداية لأنه حب طاهر شريف نفخر به ودام حبنا عدة سنوات حتى تمكنا
من تهيئة عش الزوجية .. وبنيناه قطعة قطعة, ثم تزوجنا منذ 9 سنوات واطمأن قلبي
بزوجتي الحبيبة الطيبة فتفرغت لعملي ووجدت في زوجتي وشريكة حياتي إنسانة عطوفا
وحنونا وراقية الحس والمشاعر والتهذيب ..وأنجبنا طفلتنا الأولى بعد عامين من
الزواج فتحولنا إلى أسرة صغيرة سعيدة نتبادل الحب والاهتمام .. وقررنا ألا نتسرع
في الانجاب مرة أخرى بعد طفلتنا الأولى حتى لا تتعرض زوجتي لمتاعب الحمل المتكرر
ولكي نعطي لطفلتنا الأولى حقها من الحب والرعاية والإهتمام .. وبعد 4 سنوات من
ميلادها حنت زوجتي إلى إنجاب طفل آخر يكون شقيقا أو شقيقة لوحيدتنا حتى ينشآ معا
ويتساندا في الحياة , ووافقتها على رغبتها وحملت زوجتي الجميلة الملائكية, وأنجبت
طفلة أخرى, فأصبح لي زهرتان جميلتان زادت بهما سعادتنا.. ودعوت ربي أن يمكنني من
تربيتهما ورعايتهما حتى أراهما عروستين جميلتين يتهافت عليهما العرسان.
ومضت
بنا الأيام هادئة وسعيدة إلى أن كان يوم منذ حوالي عام وشكت زوجتي من الأعياء وفقد
النشاط والحيوية بلا سبب ظاهر, فعرضتها على الأطباء وتنقلت بها بين المعامل
وعيادات الأطباء ولم يتوصل أحد إلى سبب محدد لعلتها, وبعد ذلك بشهر ذهبنا إلى
مدينة ساحلية لقضاء عطلة قصيرة مع أسرتها المقيمة هناك وعلى أمل أن يساهم تغيير
الجو في استرجاع زوجتي لحيويتها ونضارتها, فإذا بصحتها تتدهور فجأة إلى حد العجز عن
النهوض من الفراش وأسرعت بها إلى الأطباء وأعدنا التحاليل العديدة السابقة فلم
تفدنا بشئ في تفسير الأعراض ولم تبق إلا الأشعة المقطعية على المخ..
وأجريناها
فإذا بنتيجتها تصدمني صدمة العمر في حبيبتي ورفيقة صباي وأحلامي وإذا بالطبيب يقرر
إدخالها المستشفى على الفور لإجراء جراحة خطيرة لها وتم إدخالها إلى غرفة العناية
المركزة لإعدادها الجراحة الخطيرة التي ستتم على مرحلتين وتمت المرحلة الأولى
منها.. لكن الثانية لم تتم بل ولم تبدأ من الأصل بكل أسف فلقد رحلت زوجتي الرقيقة
الطيبة عن الحياة بعد خمس ساعات من الجراحة الأولى ووقفت أبكيها وأبكي نفسي معها
وأبكي مصير طفلتي الصغيرتين وأرقبهما متحمسا وأتساءل ..ومن لهما بعد أمهما؟
ولست
أعرف كيف تحركت الدقائق والساعات الثقيلة في ذلك اليوم الكئيب .. ولا كيف أنقضت
المراسم الحزينة لكنها انقضت على أية حال ورجعت إلى عملي بعد الإجازة الطارئة بعد
أن فقدت زوجة وأختا وحبيبة هيهات أن تعوضني الحياة عنها بمثلها .
وتوالت
الأيام كئيبة بطريقة متشابهة وبعد شهر أو أكثر من رحيلها عن الحياة رأيت أنه لا مفر
من مواجهة الأمر الواقع والتكيف معه مهما كان قاسيا, وقررت أن أجمع شمل
"أسرتي" الصغيرة التي انفرط عقدها وتمزقت حباته برحيل الأم وافتراق
الأختين, فقد كنا حين اشتد المرض بزوجتي قد تركنا طفلتي الصغرى في بيت جدها أي
خالي بالمدينة الساحلية, في حين بقيت طفلتي الكبرى معنا في القاهرة فطالبت خالي
بعودة الطفلة الصغيرة لتنشأ مع أختها في رعاية أمي وشقيقتي وتحت إشرافي, فإذا بي
أشعر وبغير مقدمات بأني كما لو كنت قد نطقت كفرا أو أبديت رغبة مجنونة فلقد انقلب
خالي وأسرته علي واحتجزوا الطفلة الصغيرة
لديهم.
ولــكــاتـب هــذه الـرســالــة أقــول:
ولماذا
تدهورت العلاقة بينك وبين خالك وصهرك إلى هذا الحد المؤسف خلال هذا الوقت القصير؟
وماذا حدث بينكما فدفعة إلى مقاضاتك أمام المحاكم مطالبا بنفقة للصغيرة وبضم
حفيدته الأخرى لحضانة جدتها؟ وكيف تنقطع الصلات العائلية على هذا النحو.. وبهذه
السهولة الغريبة فلا تصبح هناك وسيلة مقبولة للتفاهم بين ذوي الأرحام وشركاء
المأساة الأليمة الواحدة سوى ساحات المحاكم؟
يا
إلهي.. إنني أكاد أصدق أحيانا تلك العبارة العجيبة التي صاغها الأديب الروسي
العبقري أنطون تشيكوف في إحدى قصصه الرائعة حين علق بها على تنازع شخصين كل منهما
في قمة التعاسة والألم إلى الحد الذي لم يبق لديه معه أي إستعداد لإحترام آلام
الآخرين أو تفهم أسبابهم فقال: إن التعاسة لا تجمع بين الناس كما يعتقد كثيرون وإنما تفرقهم.. وحتى في ذلك
الأحوال التي قد يخيل إليك فيها أن تشابه البلوى ينبغي أن يربط بين الناس فإنه قد
يرتكب فيها من المظالم والشرور بين هؤلاء التعساء ماهو أكثر بكثير مما يحدث في
أوساط الهانئين نسبيا!
ويبدو
أن ذلك صحيح في بعض الأحيان يا صديقي وليس كلها , فالأصل هو أنه كما يقول الشاعر..
"إن المصائب يجمعن المصابين".. لكن حالتك خير مثال لما يقوله
تشيكوف..فها أنت وخالك وصهرك بدلا من أن تتراحما وتتعاونا على احتمال مصيبة أو
مأساة رحيل أم طفلتيك وابنته الشابه , تتردى الأمور بينكما إلى حد التنازع المؤسف
أمام المحاكم حول حضانة الطفلتين وأجر الحضانة فأي امتهان للأحزان النبيلة
وللعلاقات الأسرية وصلة الرحم أكثر من ذلك؟
ولماذا
لم تقرب بينكما البلوى بدلا من أن تباعد بينكما؟
على
أية حال إنك تقول أن القانون يخرج الأب من الساحة ويتركها للنساء وحدهن في حضانة
الصغار عند افتراق الأبوين أو رحيل الأم وتتساءل : هل ارتكبت جريمة حين طالبت بضم
طفلتك الصغرى إليك ؟.
وجوابي
عليك هو أنك لم تأثم ولم ترتكب جريمة حين فكرت في ضم طفلتك الصغرى إليك وتنشئتها
مع أختها في حضانة والدتك, وما كان أسهل أن يتم ذلك بالحسنى وبالتراضي بينك وبين
أسرة خالك إذا قبلت بذلك وتنازلت زوجته وهي جدة الطفلة عن أولويتها في ترتيب
الحاضنات لجدتها لأبيها أي لوالدتك, لكن التنازل الاختياري عن الحق شئ ونفي هذا
الحق من الأصل أو التعجب له شئ آخر!
فلقد
رأى الشارع "ولا هدف من ذلك إلا مصلحة الصغار في المدى البعيد" أن تكون
حضانة الصغير في حالة افتراق الأبوين للأم ما لم تتزوج بعد طلاقها إلى أن يبلغ
الصغير أو الصغيرة سن انتهاء الحضانة وهي 10 سنوات للولد ويجوز للقاضي إذا رأى
مصلحة الصغير في ذلك أن يمد حضانته حتى سن 15 سنة دون أجر على الحضانة و12 سنه
للبنت ويجوز للقاضي أن يمد حضانتها أيضا إذا رأى مصلحتها في ذلك حتى تتزوج دون أجر
حضانة للحاضنة.
فإذا
تزوجت الأم أو لم تتوافر فيها من الأصل بعض شروط الحضانة , انتقل حق حضانة الصغير
إلى محارمه من النساء أولا ثم لمحارمه من الرجال العصبات أي للرجال من قرابة أبيه
ومن بعدهم للرجال من غير العصبات أي من قرابة أمه .
وحكمة
تفضيل النساء أو تقديمهن على الرجال في حق الحضانة هو أنهن أقدر على رعاية الأطفال
في السن الصغيرة وأكثر صبرا على ذلك وتفرغا له من الرجال, وحكمة تقديم قرابة الأم
للصغير على قرابة الأب له من حق حضانته حتى عند اتحاد درجة القرابة كأن يكون للطفل
الصغير جدتان على قيد الحياة وتتوافر فيهما كل شروط الحاضنة من العقل والقدرة
والأمانة والخلق ... إلخ فيتم تفضيل جدته لأمه على جدته لأبيه في حق حضانته , وحكمه
هذا التفضيل عند المشرع .. هي حكمته أيضا في سنة الحياة, هي أن قرابة الأم للصغير
تكون عادة أكثر عطفا وحنوا عليه من قرابة الأب ولا تسألني كيف أو لماذا فهذا هو
شأن الخالق في خلقه وهو أيضا الرأي المعمول به في أحكام الشريعة والقانون وإن كان
هناك دائما لكل قاعدة استثناء
وهناك
أيضا قواعد وأحكام فقهية مستقرة للترجيح عند تعدد المستحقين للحضانة وكلها تستند
إلى أساس واحد هو استهداف مصلحة الصغير في هذه المرحلة المبكرة من العمر.
وعلى
هذا الأساس تم ترتيب أصحاب الحقوق في الحضانة وفقا لقائمة تنازلية معمول بها في
الشرع والقضاء بمعنى أنها إذا لم توجد له جدة من ناحية الأم تكون حضانته لجدته من ناحية الأب وهكذا إلخ.
وترتيب
المستحقات للحضانة ليس بالمناسبة كما ذكرت في رسالتك فهناك قبل الخالة والعمة
قائمة طويلة من الأخت الشقيقة ثم الأخ ثم الأخت لأب ..إلخ.
وحكمة
كل ذلك كما قلت لك من قبل هي استهداف مصلحة الصغير وتقدير حاجته إلى رعاية النساء
في هذه السن المبكرة من العمر أكثر من حاجته إلي رعاية الأب أو الرجال وتقدير قدرة
النساء علي ذلك في هذه المرحلة العمر بأكثر مما يستطعيه الرجال .
وفي
كل الأحوال فإن الأب لا يفقد ولايته على طفله .. فهو الوصي الطبيعي عليه ولا يجوز
لحاضنته أما كانت أو جدة أن تنتقل به من مكانها إلى مكان آخر إلا بإذنه وقبوله,
وله أن يراه حين يشاء ويشرف على تربيته وتعليمه ويتفاهم حول ذلك مع حاضنته, فهدف الحضانة
هو حفظ الصغير وحمايته وتعويضه عن حرمانه من حنان الأم ورعايتها ولم يكن هدفها
أبدا هو حرمان الأب من أطفاله, ولهذا فالأب هو أول الرجال العصبات الذي تنتقل إليه
حضانة الصغير حين لا تتوافر له حضانة النساء أو إذا لم ينازعه في حضانتهم من الأصل
أصحاب الأولويات.
ومعظم الفقهاء يشترطون كذلك ألا يبعد مكان إقامة
الحاضنة عن مكان إقامة الأب بأكثر مما يسمح له بزيارته والعودة في نفس اليوم وإلا
انتفى فيها شرط من شروط الصلاحية للحضانة ولاشك أنك كأب وكإنسان كنت تتمنى ألا
تتغير ظروف حياتك وألا تغيب عنها شمس زوجتك الطيبة الملائكية الراحلة وألا تبتعد
عنك طفلتاك الصغيرتان أو تتباعد بينك وبينهما المسافات وألا يتشتت شمل هذه الأسرة
الصغيرة الجميلة التي كانت سعيدة وآمنة حتى دهمتها هذه المحنة فزلزت أركانها منذ
وقت قريب .. لكن ماذا نفعل يا صديقي إزاء تصاريف القدر وماذا نملك معها إلا أن
نستسلم لأقدارنا ونقبل بها ونحاول أن نخفف قدر الجهد والاستطاعة من آثارها الوخيمة
علينا!
إن
نصيحتي الأخيرة لك هي أن تحاول التفاهم وديا مع خالك وصهرك وجد طفلتيك على إزالة
أسباب النزاع الحقيقية بينكما وأن تتفق معه بالتراضي والحسنى حول كل ما يتعلق
بالطفلتين سواء تمسك بحق جدتهما لأمهما في حضانتهما أو تنازل عنه لوالدتك وفي كل
الأحول فسوف يطمئن قلبك عليهما وهما إلى جوارك أو في أحضان جدتهما لأمهما وهما في
النهاية بضعة منها وامتداد طبيعي لها .. وهي أحرص عليهما من غيرها.
أما
نصيحتي لخالك أو رجائي له على الأصح فهو
أن يكون أكثر عطفا على ظروفك ومشاعرك كأب أو رب أسرة كانت هانئة ثم انفرطت حبات
عقدها فجأة وتحطمت سفينتها على الصخور القاسية فهو أب مكلوم مثلما أنت أب مهموم
بأمر طفلتيه المحرومتين من أمهما ولقد كان ينبغي أن تجمع بينكما الأحزان والهموم
المشتركة أكثر.. لكنه يبدو أن التعاسة قد تفرق فعلا بين الناس أحيانا بدلا من أن
تقرب بينهم كما يقول لنا تشيكوف للأسف.
رابط رسالة إنفجار البركان تعقيبا على هذه الرسالة
· نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1995
كتابة النص
من مصدره / بسنت محمود
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر