القائمة الرئيسية

الصفحات

عيون الآخرين .. رسالة من بريد الجمعة عام 1986

 

عيون الآخرين .. رسالة من بريد الجمعة عام 1986


 عيون الآخرين .. رسالة من بريد الجمعة عام 1986

 

تلقيت فى بريدي هذا الأسبوع هذه الرسالة :


أكتب إليك هذه الرسالة فى الفجر وأنا مسهدة .. لعلي أجد عندك الحل المناسب للمشكلة التي ضاق صدري بكثرة التفكير فيها .. إنني فتاة في الرابعة والعشرين من عمري نشأت في أسرة متدينة وتوفي أبي من قبل أن أولد فلم أره .. ولم أعرف عنه شيئا إلا مما روته لي أمي فيما بعد .. وتكلفت أمي بتربيتي أنا وإخوتي ورفضت الزواج لكي تتفرغ لتربيتنا وتعوضنا عن حنان الأب الذي فقدناه .. فكانت لنا نعم الأم ونعم الأب معا ولم تبخل علينا بشئ من مأكل أو ملبس حتى وصلنا جميعا إلى مراحل التعليم النهائية وتخرج اخوتي الكبار وشغلوا وظائف مرموقة وكنت أنا آخر من انهت تعليمها فى الجامعة لذلك فقد شاء لها القدر أن تعيش هذه التجربة فى آخر سنوات الجامعة.

 فلقد حدث ذات يوم أن كنت سائرة فى الطريق بعد عودتي من الكلية أن صدمتني سيارة خاصة مسرعة, وتوقف سائقها وحملني بسيارته إلى المستشفى القريب وسلمني للأطباء ثم انصرف مسرعا ليبلغ صاحب السيارة الأصلي بما حدث ويستعين به وبمركزه على الإجراءات التقليدية في مثل هذه الأحوال .

وكنت ما أزال بين أيدي الأطباء يحاولون علاج الكسر الذى تعرضت له ساقي حين جاء مالك السيارة مسرعا يعتذر بأدب شديد عما حدث ويصر على نقلي من المستشفى الحكومي الذي نقلت إليه إلى مستشفى خاص تتوافر فيه الرعاية المطلوبة .. وقام فعلا بنقلي إلى غرفة فاخرة بمستشفى خاص ودفع للمستشفى مقدما كافة النفقات رافضا بإصرار أية محاولة من أهلي لدفع التكاليف أو المشاركة فيها.

 

وفى المستشفى الخاص وُضعت ساقي في الجبس وطمأنني الأطباء عليها ,وغادرتها بعد أيام قليلة كان خلالها يزورني في المستشفى كل يوم ويطمئن على حالتي .. وبعد أن انتقلت إلى بيتي أصبح يزورنا كل يومين للاطمئنان حاملا معه في كل مرة باقة من الزهور أو علبة شيكولاته .. فأسرنا جميعا بأخلاقه وقوة شخصيته ووقاره وأدبه الجم.

 أما أنا فقد جذبتني شخصيته إليه ووجدت فيه انسانا عطوفا حنونا, فمس ذلك وترا حساسا في قلبي, فلم تمض فترة طويلة بعد ذلك حتى كان يطلب مني الزواج وكنت أرحب به بشدة وأتمسك به في وجه ثورة هائلة انفجرت داخل أسرتي ضدي!

أما لماذا ثارت أسرتي رغم أنه رجل كامل من كل النواحي ويشغل منصبا هاما هو منصب رئيس احدى الهيئات الاقتصادية الكبيرة ويتمتع بشخصية جذابة محترمة .. فلأنه يا سيدي يكبرني بـ 35 عاما.

وواجهت ثورة أهلي بالإصرار على الزواج منه .. وهاج إخوتي وراحوا يحضرون لي العرسان واحدا وراء الآخر فرفضتهم جميعا وأعلنت لهم أنني لن أتزوج إلا ممن اخترته بقلبي وعقلي وتحديت به الجميع حتى حينما هددوني بمقاطعتي إذا تزوجته .. أما هو فقد واجه هذه العاصفة بصبر وبفهم للأمور .. إلى أن هدأت وتزوجته وبدأت حياتي معه .

ولعلك تظن أني تزوجته طمعا فى ماله والفيللا والسيارة لكني أؤكد لك أن هذا غير صحيح .. فأنا من أسرة غنية جدا ولها مركزها الاجتماعي في مصر وخارج مصر لكني لمست في هذا الرجل الحنان الذي حرمت منه بسبب وفاة أبي قبل أن أراه لأنه بالرغم من التضحيات التي قدمتها أمي من أجلي ومن أجل إخوتي إلا إنني كنت محرومة من كلمة "بابا" التي كثيرا ما سمعت الأطفال يترنمون بها ولم أستطع يوما ما أن أنطق بها ! 

وهكذا تزوجت من رجلي وعشت معه 4 سنوات كأنني في الجنة ! أشبعني خلالها من حنانه .. وشبعت خلالها من نطق كلمة "بابا" 


 

ولـــكـــاتــبة هـــذه الــرســالــة أقـــول :

 

يا سيدتي لا تظلمي الآخرين في قصتك هذه .. فليسوا هم من أقنعوك بهذا الزواج ولا هم من أثاروا ضيقك به الآن كما تحاولين أن تقنعي نفسك بذلك .

لقد اتخذت وأنت فى سن العشرين قرار الزواج بمن يكبرك بـ 35 سنة ضد إرادة أسرتك وضد إرادة الآخرين وتمسكت به وتحديت به الجميع وفقدت أسرتك من أجله ولم يمنعك كل ذلك من اتمام هذا الزواج .. فهل يمكن أن يكون لآراء الأخرين "أو نظراتهم" هذا التأثير الخطير على مثلك ؟!

لا أظن .. وإنما أظن أنك اندفعت إلى هذا الزواج مدفوعة بمشاعر وأوهام وأحلام لا مكان للعقل فيها .. فخضت التجربة سعيدة بها فى البداية رغم أن فيها تعاسة أسرتك ونهلت من نبع الحنان الذي أردته حتى شبعت وأرضيت تطلعك إلى صورة الأب التي حرمت منها .. حتى ارتويت وحلقت في السماء كالسحاب الذي لا يتأثر بهبوب العواصف حتى ثملت ثم همدت المشاعر الهوجاء وآن أوان الهبوط إلى الأرض يا سيدتي .. فأصبح السحاب في مهب الرياح .. وأصبحت السعادة حلما بعيدا ككل الأحلام .. وهنا فقط بدأت ترين نظرات الآخرين وابتساماتهم.


فماذا جرى حتى أصبحت تكترثين بالآخرين وأنت التي لم تكترث بخسارة أمها التي ضحت من أجلها بالكثير وبخسارة إخوتها وأسرتها ذات المكانة الاجتماعية المعروفة في مصر وخارج مصر على حد قولك ؟

جرى ما ترفضين الاعتراف به .. وهو أنك تغيرت من "الداخل" لا من الخارج .. وفقدت مشاعرك تجاه زوجك واقتناعك بالزواج منه وعرفت الآن أنك أخطأت حين أقدمت على هذا الزواج لكنك كعادة الأشخاص المدللين ترفضين أن تحملي نفسك مسئولية أي خطأ وتفضلين دائما إلقاء المسئولية كاملة على الآخرين حتى إذا فشل الزواج كانت عيون الآخرين هي السبب وليس الاندفاع والتسرع وتحكيم المشاعر الهوجاء المتقلبة وحدها .. وليس هذا من الأمانة فى شئ.

لقد أخطأت بهذا الزواج وأنت تعرفين الآن ذلك لأن مخالفة الطبيعة ليست من الحكمة في شئ .. ولأن التضحية بالأم والأسرة ليست من الدين ولا من العقل فى شئ .

وزواجك مخالف لقوانين الحياة الطبيعية لأنه يفتقد لشرط هام من شروط الزواج الأساسية وهو التكافؤ في السن وهو مخالف للطبيعة بأي مذهب ولو كان مذهب أرسطو الذي كان يرى ألا يزيد سن الزوجة عن العشرين وأن يكون الزوج في السابعة والثلاثين مفسرا ذلك بأن الرجل يستطيع أن ينسل حتى السبعين أما المرأة فلا تستطيع أن تنسل بعد الخمسين.

ومع كل ذلك فلا شئ يمنعك من الاستمتاع به والاستمرار فيه لأنه فى النهاية زواج مشروع, لذلك أجيبك على تساؤلك أليس من حقك أن تعيشي حياتك كما تشائين فى حدود الشرع .. بأنه من حقك ذلك فعلا لكنه ليس من حقك أبدا أن تفقدي أسرتك من أجله .. ولا من حقك أن تفسري تقلب مشاعرك بأسباب غير حقيقية لأن خداع النفس يعني أنك لم تتعلمي درس التجربة وأنك لم تنضجي بعد على نارها أنني أتصور أن نشأتك كصغري إخوتك وظروف حرمانك من أبيك قد دفعت أسرتك إلى تدليلك تدليلا مفسدا لهذا نشأت أنانية بعض الشئ تقيسين الأشياء بانعكاسها عليك وحدك ولا تعرفين من الدنيا إلا الحصول على ما تريدين بغض النظر عن تأثير ذلك على الآخرين لهذا فلم تتردي في التضحية بأسرتك من أجل الزواج الذي تندمين عليه الآن وتحاولين أن تلقي مسئولية فشلة المتوقع على ما تتصورينه من ابتسامات الآخرين أو نظرات .. وفي ظني أن الآخرين مشغولون عنكما بهموم الحياة العديدة .. لكن انشغالك أنت بمشكلتك الشخصية يصور لك أنه لا هم لهم إلا فارق السن بينك وبين زوجك وهذا وهم آخر من أوهامك !

نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" أغسطس 1986

كتابة النص من مصدره / بسنت محمود

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


reaction:
Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما ستشربه غدا

تعليقات

محتوي المدونة غير منسوخ من الانترنت ولكنه جهد فريق عمل قام بجمعه من أرشيف جريدة الأهرام وإعادة كتابته ومراجعته وتهيئته للنشر ليكون مرجع شامل لمحبي الأستاذ .. لذا نرجو من السادة الأفاضل الذين يتخذون المدونة أساسا ومرجعا لمنشوراتهم عدم النسخ والاكتفاء بروابط الرسائل لحفظ مجهود فريق العمل وإلا عرضوا أنفسهم للإساءة والفضح على وسائل التواصل الاجتماعي ليكونوا عبره لغيرهم من سارقي جهد غيرهم. نيفين علي .. بسنت محمود