جبال الحقد .. رسالة من بريد الجمعة سنة 2002
ليس هناك أظلم ممن يفسد مشاعر طفل بريء على أحد أبويه ويغرس بذور البغضاء والكراهية في نفسه ضده.. ومن عجب أن من يفعل ذلك إنما يفعله وهو يعتقد انه ينتقم بذلك من الطرف الآخر.. غير مدرك أنه بقدر ما يسيء إلى هذا الطرف بإفساد مشاعر ابن عليه فإنه يسيء بأضعاف أضعاف ذلك إلى هذا الابن نفسه ويرشحه للتعاسة في الحياة ولمواجهة الدنيا بمرآة داخلية مشوهة أفسدتها عليه أحقاده ومراراته التي غرسها في صدره الطرف المنتقم..
عبد الوهاب مطاوع
قرأت رسالة النار المتأججة للابنة التي تتهم أباها
بأنه قد أهملها بعد انفصاله عن أمها وهي طفلة صغيرة.. وترفض عودته أو ظهوره في
حياتها بعد أن بلغت سن الشباب ولا تراه أهلا لأن يكون أبا لها بعد أن غاب عنها
السنوات الطويلة, كما قرأت الرسائل المماثلة لفتيات لهن نفس ظروفها ولكن أكثر
رحمة بآبائهن منها واكتب إليك الآن بعد طول تردد بالرغم من سني التي بلغت الستين
وخبرتي التي أظن أنها طويلة .
فأنا أستاذ جامعي متفرغ في أواخر السبعينيات من العمر تزوجت
زواجا تقليديا لم يدم لأسباب متعددة وكان ثمرته ابنة جميلة كانت كل حياتي حتى سن
السابعة وفي الثامنة كانت تقضي مع أمها معظم الوقت عند جدها تاركة لي كل مرة رسالة
عن شوقها وحبها وأحوالها في مدرستها القريبة من المنزل.
إلى أن وجدت نفسي في أحد الأيام راجعا من عملي لأجد
المنزل خاويا إلا من سرير ابنتي وبعض الملابس, وأيا كان الأمر فليس هذا ما
يعنيني, لكن ما يعنيني أنني وابنتي كنا على خير ما يرام من علاقة أب بابنته إلى
أن حرمت منها في ذلك اليوم المشهود.
اليوم الذي شهد بداية الانقلاب العاطفي بيني وبين ابنتي إلى
النقيض, فلقد بدأ في رأيي إظلام تدريجي لصورتي وعواطفي وتصرفاتي أمام ابنتي إلى
أن أصبحت الصورة معتمة تماما.
فلقد تطورت الأمور من ناحية والدتها للوصول للقضاء
فجأة وبدأت محاولاتي لرؤيتها ويتحدد المكان والزمان وأذهب وكلي أمل في رؤية فلذة
كبدي ولا أجدها, ويقال لي إنها ألاعيب مألوفة ولا أصدق وأذهب في مرات متتالية
دون ادنى رحمة.
واستمرت القضايا وحكمت المحاكم للبنت وأمها بما هو
أكثر من مرتبي ودخلي الخارجي من التدريس في الجامعة بشهود زور عن أحوالي المالية
ومشروعاتي التي تدر علي آلاف الجنيهات في ذلك الوقت والتي لم تكن موجودة إلا في
أوراق القضايا ودهاليز المحاكم.
ويشاء الله العلي القدير في وسط كل هذه الظلمات أن
أعار لإحدى الجامعات العربية فدفعت كل مليم حكمت به المحاكم علي راضيا, لكنه في
احدي زياراتي كان الشوق قد أخذني لمحبوبتي الصغيرة فأخذت عمتها التي كانت تعشق كل
منهما الأخرى وذهبنا لها في مدرستها وهو الطريق الوحيد وقتها لرؤيتها وأحضرتها لنا
المشرفة الاجتماعية وتركتنا معها وكانت وقتها في الثالثة عشرة من عمرها.. وإذا
بي أمام شخص آخر تماما أسلم عليها فلا تمد يدها أحاول تقبيلها فتشيح عني بوجهها
وكذلك مع عمتها وتركنا لها ما معنا من هدايا ولا أدري ما حدث, فقد خرجت لا أرى
ما أمامي وركبت سيارتي وأختي بجواري ولم أدر إلا بشيء يصطدم بجانب السيارة فإذا به
موتوسيكل لم يحدث له ولا لراكبه شيء وكل الإصابات والحمد لله كانت بالسيارة فقط.
لكن هذا الحادث البسيط في خلال أقل من نصف يوم أيقظ كل حواسي. فلقد قررت في
اليوم التالي أن أبدأ في البحث عن حياتي الجديدة تاركا خلفي كل محاولات العودة
لحياتي السابقة, ولقد وفقني الله لزوجة فاضلة وأنجبت أبناء ثلاثة في كل يوم
يذكرون أختهم ويطلبون رؤيتها بتشجيع من والدتهم إلا أنها تقابلهم بمنتهى الفتور
والحذر في العواطف وأنا معهم ومعي فلا تصارحني بمكان عملها إلا عندما تتركه, لا
تحضر إلى منزل جدتها إلا للتعزية في وفاتها وهكذا تجمدت المشاعر وندعو الله تبارك وتعالى أن يذيب هذه المشاعر ويرققها
لجميع الأطراف والله المستعان.
وسؤالي بعد ذلك للابنة كاتبة رسالة النار المتأججة:
هل علمت ما إذا كان أبوها قد حاول مرارا رؤية ابنته فحيل بينه وبينها كما حدث معي..
ومن يدريها أن أباها لم يحترق بالحرمان منها.. كما احترقت بالحرمان من ابنتي..
ومن الجاني في مثل هذه الأحوال.. هل هو الأب الذي استحالت حياته مع الأم بسبب أو
آخر.. أم هؤلاء الذين عبأوا طفلته ضد والدها فظلموها قبل أن يظلموه وافسدوا
عليها مشاعرها تجاه أبيها ؟! إنني أطالب هذه الابنة ومثيلاتها من الأبناء
والبنات بألا يتسرعوا في الحكم على آبائهم فلعلهم قد أرادوا أن يكونوا لهم آباء
صالحين بعد الانفصال عن الزوجات لكن جبال الحقد في نفوس الأمهات المطلقات وذويهن
قد حالت بينهم وبين ذلك. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ولكاتب هذه الرسالة أقول:
ليس هناك أظلم ممن يفسد مشاعر طفل بريء على أحد أبويه ويؤلبه عليه ويغرس بذور البغضاء والكراهية في نفسه ضده..ومن عجب أن من يفعل ذلك إنما يفعله وهو يعتقد انه ينتقم بذلك من الطرف الآخر.. غير مدرك أنه بقدر ما يسيء إلى هذا الطرف بإفساد مشاعر ابن عليه فإنه يسيء بأضعاف أضعاف ذلك إلى هذا الابن نفسه ويرشحه للتعاسة في الحياة ولمواجهة الدنيا بمرآة داخلية مشوهة أفسدتها عليه أحقاده ومراراته التي غرسها في صدره الطرف المنتقم..
ولقد قلت الكثير والكثير في هذا الشأن فإذا كان ثمة ما يقال في هذا المجال بعد ذلك فهو أن نعيد التذكير بما قال به الهادي البشير صلى الله عليه وسلم وهو: "من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة".
وما ينطبق على التفريق بين الأم وابنها ينطبق بمنطق الأمور على التفريق بين الأب وابنه.. وما يسري على التفريق في المكان يسري كذلك علي التفريق في مشاعر البنوة التي غرسها الله في نفوس الصغار تجاه آبائهم وأمهاتهم ويفسدها عليهم البعض بمثل هذه الأحقاد والمرارات.
رابط رسالة ورقة على الحائط تعقيبا على هذه الرسالة
· نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 2002
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر