الفرن .. رسالة من بريد الجمعة عام 1988
هزتني من الأعماق رسالة الأخت الفاضلة التى نشرت الأسبوع الماضي بعنوان "الحذاء" كما هزتني أيضا رسالة الأخت التي نشرت قبلها بعنوان "الصفعة".
فأنا يا سيدي عينة أخرى من موضوع هاتين الرسالتين رغم أني شاب .. فقد كنت طالبا في كلية طب الأسنان أواجه الحياة وحدي بلا معين ووجدت نفقات الدراسة باهظة بالنسبة لي فاستعنت على تحملها بعمل وجدته ملبيا لاحتياجاتي .. وكان هذا العمل هو الوقوف أمام فرن كهربائي صغير على واجهة محل فى وسط المدينة لأصنع واطهو أرغفة اللحم المفروم المسماة "بالحواوشي" فكنت أذهب إلى كليتي في الصباح فأحضر محاضراتي وأركز كل تفكيري فيها لأستوعب أكبر قدر من المعلومات ثم استذكر دروسي لعدة ساعات قليلة، وأتوجه إلى المحل فأقف أمام الفرن من بداية المساء حتى ساعة متأخرة من الليل ثم أعود لمسكني فأنام ساعتين أو ثلاث ساعات لا تزيد، فيبارك الله في ساعاتي القليلة من النوم فأنهض نشيطا كأني قد نمت عشر ساعات كما يبارك لي في ساعات مذاكرتي المحدودة فأستوعب فيها ما يحتاج غيري إلى أضعافها لاستيعابه.
ورغم ذلك فقد كنت فخورا بنفسي وبعملي وبكفاحي .. وأذهب إلى الكلية مرفوع الرأس ولا اخفي عن أحد عملي بل وأدعو زملائي لتشريف المحل واختصهم بعنايتي .. وهكذا مضت الحياة بي وتقدمت في دراستي سنة وراء سنة بلا تخلف حتى تخرجت بتقدير جيد فعينت طبيبا خلال سنة التكليف فى الريف .. ولم ترض طموحي وظيفة طبيب أسنان فى الأقاليم فعدت بعدها إلى القاهرة .
وتقدمت إلى بنك التنمية الصناعية أطلب سلفه لشراء معدات عيادة لطب الأسنان وحصلت على القرض واشتريت المعدات .. ولم أفكر طويلا فى البحث عن مكان للعيادة لأنه من حسن الحظ أني أعيش في شقة بعمارة قديمة من عمارات وسط المدينة التي تعطي إحساسا خادعا لمن يراها بأن من يسكنها من الأثرياء في حين أنهم غالبا من بقايا أهل العز القديم الذي تقطعت أسبابه ولم يعد لهم من مظاهره سوى هذا السكن الموروث.
وهكذا استقلت من وظيفتي الحكومية وخصصت حجرة من شقتى للعيادة ووضعت فيها الأجهزة الطبية وعلقت اللافتة على الباب وانتظرت الزبائن .
وجاءوا بالفعل وبدأت أمارس مهنتي لكني وجدت نفسي أمام مشكلة أخرى هى كيف أسدد أقساط القرض ويتبقى لي بعد ذلك ما يقيم أودي ويسمح لي بأن أبدأ بناء حياتي.
ولم أتردد طويلا فلقد عرفت الطريق وحسمت الأمر وفي صباح اليوم التالي كنت أقف أمام صاحب المحل الذي عملت به طوال سنوات الدراسة وهو قريب من مسكني لأطلب منه العودة إلى العمل بشرط أن أعمل في فترة الصباح لكيلا يتعارض مع موعد العيادة في المساء فضحك الرجل طويلا ورحب بي وأمر على الفور بتغيير موعد عامل الصباح إلى المساء لأحل محله .. وعدت من جديد إلى فرن الحواوشي أقف أمامه من الساعة 8 صباحا إلى الساعة السادسة مساء أسوي الخبز وأقطعه وأقدمه للزبائن "بألف هنا وشفا" .. حتى تقترب الساعة السادسة فأغسل وجهي وارتدي بدلة العيادة ثم اذهب إليها فأجد زبونا أو أكثر في انتظاري فأمارس مهنتي بنشاط وإخلاص حتى العاشرة مساء.
وقد بارك الله في عملي أمام الفرن وفي عملي في العيادة أيضا فحظيت باحترام عملاء المحل ومرضى العيادة وبعضهم يتعامل معي أمام الفرن في الصباح ثم يسلمني أسنانه في المساء لأعالجها له .. ويعاملني بكل احترام .. صحيح أن بعض المرضى تصدمهم رؤيتي واقفا أمام الفرن اقطع أرغفة الخبز لكني لا ألقى بألا لهم لأني أعمل عملا شريفا أساعد به نفسي ولا أرى فيه عيبا .. وانظر دائما إلى الأمام لأن العرق هو شرف الإنسان وما أفعله لا يقلل من قدري أمام نفسي أولا .. ولا أمام الآخرين ثانيا، وهذا ما يدفع الآخرين إلى احترامنا.
ولــكــاتــب هــذه الــرسـالــة أقــول:
أقبل يا صديقي بكل سرور ليس طلبا "للحواوشي" ولا لعلاج الأسنان .. وإنما سعيا إلى التعرف بك لكي أشد على يدك وأحييك وأعبر لك عن عظيم احترامي ! فالحق أنك شاب جدير بكل الاعجاب والاحترام .. والحق أيضا أن الحياة لا تتقدم إلا بأمثالك ممن يؤمنون عن اقتناع بأن "العرق هو شرف الإنسان" كما لخصت أنت فى هذه العبارة البليغة الموجزة جوهر القضية كلها ! نعم يا صديقي إن العرق هو فعلا شرف الإنسان .. ولا شئ يمس هذا الشرف أكثر من عجز الانسان عن أن يساعد نفسه وهو القادر على ذلك إذا تخلص فقط من بعض أفكاره العقيمة البالية .. فهذا هو العار الحقيقي ولا عار غيره وقد أدركت أنت كل ذلك فانطلقت تعمل مؤمنا بأن العمل الشريف مهما كان نوعه تاج فوق رؤوس أصحابه لهم أن يفخروا به لا أن يتواروا خجلا منه .. وترجمت بعملك وكفاحك ما يقوله المنطق والتاريخ من أنه ليست هناك أمة صنعت حضارتها وثروتها بأصحاب الياقات البيضاء الجالسين إلى المكاتب .. وإنما صنعتها وتصنعها دائما بجموع العارقين المنتجين بأيديهم وعقولهم في كل مجالات الحياة من أمثالك ونحن فى بلادنا لن نتخطى صعوبات حياتنا إلا إذا احترمنا فكرة الحياة نفسها وفي كل صورها كما كان يقول الطبيب الألماني "البرت شفايزر" ذلك أننا لو فعلنا فلن يقدم أحد بدون تفكير على تدمير حياة أي كائن ولو كانت ورقة على فرع شجرة ولا على احتقار أي عمل أو أي إنسان بسبب عمله فهذه هى بداية التقدم دائما وأنت قد قلت كل ذلك قولا وعملا فى رسالتك الرائعة هذه لصاحبة رسالة الحذاء ولغيرها ممن يواجهون نفس المشكلة فشكرا لك .
أما كاتبة رسالة الحذاء فإني أدعوها لمقابلتي مساء الاثنين القادم بإذن الله لأعرض عليها ما تلقيته من عروض عديدة من قراء البريد لحل مشكلتها ومساندتها في رحلة كفاحها إلى أن تحقق آمالها فى الحياة وشكرا لكل من اتصل بي طالبا الإسهام في حل مشكلة كاتبة الرسالة.
رابط رسالة الصفعة
رابط رسالة الحذاء
نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" نوفمبر 1988
كتابة النص من مصدره / بسنت محمود
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر