الحذاء .. رسالة من بريد الجمعة عام 1988

 

الحذاء .. رسالة من بريد الجمعة عام 1988

الحذاء .. رسالة من بريد الجمعة عام 1988 


أكتب إليك بعد أيام من قراءتي لرسالة "الصفعة" للطالبة الجامعية التي اضطرت للعمل في بيت إحدى الأسر، فأساء رب الأسرة معاملتها وتَرَكْتَها بعد أن نزل على وجهها بصفعة دامية أمام ضيوفه.

وأنا أكتب لك لأنه كان لهذه الرسالة شأن في حياتي، فأنا طالبة جامعية مثل تلك الطالبة، لكني أدرس في كلية عملية مرموقة لا تقبل إلا المتفوقين، ولا يصمد لنفقات الدراسة فيها سوى القادرين. لذلك فقد تعثرت فيها واضطررت لتقديم اعتذار عن عدم دخول الامتحان أكثر من مرة بسبب ظروفي القاسية، واضطراري للعمل لأعول نفسي وإخوة أربعة، وجدت نفسي مسئولة عنهم بعد رحيل أبي وأمي بغير مورد سوى معاش ضعيف، ولعلك تذكرني فلقد جئت إليك منذ أكثر من عام وطلبت مساعدتك في حل المشكلة التي كانت تواجهني وقتها، وهي رفض الكلية قبول آخر اعتذار تقدمت به لها مما يعني فصلي بسبب تجاوز مرات الرسوب فإذا كنت قد نسيتني بين عشرات ممن تراهم.. فإني لم أنس حتى الآن دهشتك وتأثرك برزانة ملابسي، وأنت تسمع لي صامتا ثم تكلف زميلة فاضلة لك بالذهاب إلى الكلية ومقابلة رئيسة القسم، التي كانت تعترض على قبول الاعتذار .. كما لم أنس لهذه الزميلة الكريمة مجيئها إلى الكلية جزاها الله عني خير الجزاء ومقابلتها لرئيسة القسم وللعميد، وإنفاقها وقتا طويلا في شرح ظروفي ومخاطبة إنسانيتها حتى وعدت بتأييد طلبي في مجلس الكلية، وقد استغرق ذلك أياما طويلة ترددت على بريد الأهرام خلالها أكثر من مرة حتى كلل الله مسعاكم ومسعاي بالنجاح، وقبلت الكلية اعتذاري، وفي أحد هذه الأيام فوجئت بمساعدك الفاضل يحدثني بأدب وينقل لي رأيك وهو أنه يجب علي أن أتفرغ للدراسة هذا العام على الأقل، لكي اجتاز عقبة هذه السنة، لأنها فرصتي الأخيرة لاستكمال الدراسة، ويبلغني أنك ترى أن يقدم لي بريد الأهرام مساعدة مالية منتظمة حتى اجتاز هذه السنة الصعبة، ثم يوجد لي بعدها عملا خفيفًا ويتوقف عن مساعدتي، وبعد ذلك حاول أن يقدم لي مبلغا كبيرًا كبداية لهذه المساعدة، فشكرته وشكرتكم واعتذرت عن عدم قبول المبلغ، لأني قادرة على العمل وغادرتكم شاكرة لكم نواياكم الطيبة.


وواصلت كفاحي في الحياة مع إخوتي، فوجدت لاثنين منهما عملا صغيرًا أسهم في تخفيف الأعباء، وركزت جهدي في الدراسة إلى أن انتهى العام الدراسي، وبدأ الصيف، فرحت أبحث عن عمل كعادتي، وذات صباح قرأنا إعلانًا في الأهرام كالإعلان الذي قرأته كاتبة رسالة الصفعة يطلب فتاة أو سيدة لرعاية شئون ابنتين، فاتصلت برقم التليفون وتقدمت لربة هذه الأسرة فسألتني عن شهادتي الدراسية، فادعيت لها أني حاصلة على شهادة متوسطة.. فرحبت بي وسلمتني العمل، وبدأت عملي معها فكانت سيدة رحيمة وكان زوجها رجلا مهذبا كريما، وبدأت أذهب إلى بيت الأسرة كل صباح فأعمل حتى المساء، ثم أعود إلى الغرفة التي تجمعني مع إخوتي.. ومضت الأمور هادئة لكني لاحظت أن الأسرة لها ابنة واحدة صغيرة في حين كان الإعلان يتحدث عن ابنتين، وقبل أن اسأل عن الأخرى، سمعتهم يتحدثون عنها وفهمت أنها مسافرة إلى الخارج في رحلة سياحية بعد انتهاء الامتحان .. وكانوا ينتظرون موعد مكالمتها من الخارج بلهفة، ويتحدثون عنها كثيرا فاشتقت إلى رؤيتها .. خصوصا بعد أن قالت لي السيدة إنها في مثل سني، وأعطتني بعض ملابسها القديمة فكانت بالنسبة لي أكثر من جديدة، ومضى شهر على هذه الحال، كان الأبوان خلالها كثيري السفر بحكم عملهما، فأمضيت أوقاتًا طويلة مع الابنة الصغرى وأحببتها وتفانيت في خدمتها، ثم جاء موعد عودة الابنة الكبرى من الخارج فانشغلت في ترتيب حجرتها وإعداد البيت لاستقبالها، وخرجت الأسرة كلها لتستقبلها في المطار، وعادوا جميعا سعداء ضاحكين فما إن رأيتها عن بعد حتى خفق قلبي بشدة، فقد كانت زميلة لي بنفس الكلية وفي نفس السنة الدراسية، ربما كانت لا تعرفني لكن المؤكد أنني أعرفها لأن الأثرياء يلفتون أنظار البؤساء من أمثالي في الكلية بملابسهم وبمظهرهم الفخم في حين لا نلفت نحن نظرهم إلَّا إذا كنا من المتفوقين، ولم أكن أنا كذلك وجاءت اللحظة الحرجة فتقدمت منها وصافحتها فصافحتني ولم تعرفني، وشكرت الله على ذلك، ونويت أن أكتم عنها هذا السر إلى أن تنتهي شهور الصيف ثم انقطع عن العمل وأتفرغ للدراسة.


 ثم بدأت صديقاتها يأتين إلى البيت لزيارتها والترحيب بها فأقدم لهن المشروبات، وأتجنب الوقوف طويلا أمامهن إلى أن رأتني واحدة منهن، فبدا على وجهها أنها تعرفني أو تحاول أن تتذكرني، فأسرعت بالذهاب إلى المطبخ، وبعد انصراف الصديقات دعتني الابنة الكبرى وسألتني : هل صحيح أنك طالبة في كلية الطب معي وفي نفس السنة ؟ فعرفت أن الصديقة طالبة معنا أيضًا وتعرفني شكلًا، ولم أكن أنا أعرفها لسوء الحظ، فاعترفت لها بالحقيقة وفسرت لها كتماني للأمر بإحساسي بالحرج ورجوتها ألا تشيع ذلك، فهزت رأسها صامتة، ولم تتغير معاملتها معي، وبعد أسابيع خرجت هي ذات صباح فظنتها ذاهبة إلى النادي كعادتها لتمضي فيه معظم النهار، لكنها عادت بعد 3 ساعات غاضبة ومكفهرة وعصيبة وأساءت معاملتي بلا بسبب، ولا تخاطبني أمام صديقاتها إلا بـ "أنت يا غبية" وتعاملني بعصبية شديدة وتحملت أول الأمر ثم شكوت لأمها فطيبت خاطري، وقالت لي إن نتيجتها قد ظهرت ورسبت مع أنها باقية للإعادة، لهذا فهي عصبية ونصحتني بأن أتحملها وتحملتها أياما، حتى بدأت أحس أنها لا تطيق أن تراني فلم أجد مفرا من الانسحاب، وأبلغت السيدة بذلك فشكرتني، لكن زميلتي ما إن رأتني أجمع أشيائي القليلة وأستعد للانصراف حتى ثارت فجأة واتهمتني بالجحود، وجذبت حقيبة يدي وفتحتها وأخرجت منها بطاقة الكلية ومزقتها فلملمت بقاياها، وأخذت حقيبتي وتحركت للانصراف فازدادت ثورتها وأمرتني بأن أخلع الحذاء الذي أرتديه، لأنه ملكها ولأني لا أستحقه بعد أن تنكرت لجميل الأسرة، فوقفت حائرة لعدة ثوان ثم انحنيت فخلعت الحذاء وتركته جانبًا، وحمدت الله أنها لم تطلب الفستان وقد كان ملكها أيضًا ثم غادرت الشقة.. ووجدت نفسي حافية فاحترت كيف أعود إلى بيتي وهداني تفكيري إلى أن أطرق باب الشقة المجاورة لأطلب من جارة الأسرة شبشبا أعود به للبيت ففتحت لي السيدة الباب واندهشت لطلبي ثم طلبت مني الدخول، وقدمت لي حذاء وسألتني عن ظروفي وواستني وقالت لي إنها علمت من ابنتها صديقة مخدومتي السابقة أنني طالبة معها في نفس الكلية، وهونت عليَّ الأمر فشكرتها وانصرفت وعدت لبيتي، ومرت عدة أيام وتذكرت أني لم أعرف نتيجتي بعد فتوجهت للكلية لأعرفها، وقبل أن اقترب من القسم وجدت شلة صديقات الابنة الكبرى واقفات يتحدثن فعدت من فوري ولم أجرؤ على الدخول، وقد تخيلت أنهن جميعًا قد عرفن قصتي، وبعد أيام أرسلت شقيقي إلى الكلية فعاد بالمفاجأة الكبرى وهي أني نجحت ! فقدرت أن ذلك ربما كان أحد أسباب ضيق الابنة الكبرى بي، ومضت أيامنا كالمعتاد في تقشف وعناء، حتى فوجئت يوم الجمعة 14 أكتوبر الماضي بربة الأسرة التي كنت أعمل عندها تأتي إلى غرفتي المتواضعة .. فارتعبت في بادئ الأمر خوفًا من أن تكون الأسرة قد اكتشفت ضياع شيء منها

 


 

ولكاتبة هذه الرسالة أقول:

نعم تذكرتك يا آنستي وتذكرت أيضًا أن المبلغ الذي تشيرين إليه لم يكن من بريد الأهرام، وإنما كان من نفس هذه الزميلة الفاضلة التي رجوتها أن تذهب إلى كليتك لتحدث أستاذتك في شأنك فلبت النداء متحمسة، ثم أبدت لي رغبتها في تقديم عون عاجل لك لا ينتظر إجراءات بريد الأهرام لمساعدتك، فاستجبت لرغبتها وكان ما كان من اعتذارك الذي أثار إشفاقي عليك، وضاعف من احترامي لك، ثم نسيت أمرك في زحام المشاكل، حتى جاءتني رسالتك هذه فقرأتها بلهفة من يتلقى رسالة من صديق قديم فرقت بينهما الحياة، فأسعدني منها خبر اجتيازك لعقبة هذه السنة الكئود التي كادت تعرقل مشوارك البطولي في الدراسة، وآلمني منها ما لقيت من عنت زميلتك هذه - سامحها الله - بسبب لا ذنب لك فيه، وهو رسوبها ونجاحك أنت رغم اتساع الفوارق واختلاف الإمكانات، فلا شك أنها قد عرفت بنجاحك قبل أن تعرفي أنت، فهالها أن تنجحي وأنت الكادحة المهمومة بقوت يومك، وأن تفشل هي، وهي الناعمة بكل شيء جميل في الحياة، فضاقت نفسها بك ولم تطق عليك صبرًا، لكن كل ذلك قد مضى وانطوت صفحته، ولم يعد من المفيد الوقوف الآن أمامه، لأننا لو توقفنا أمام كل إساءة لحقت بنا لما تقدمنا خطوة واحدة إلى الأمام، ولأهدرنا العمر في اجترار الأحزان.

 


ولقد استعاذ الرسول الكريم ﷺ ذات مرة من الكفر والفقر معا فسئل أيستويان؟ قال: نعم لأن الفقر المذل الذي يدمر المعنويات ويهدر آدمية الإنسان ويتساوى مع الكفر في بشاعته وكراهيته فعلًا، فلماذا تحملين نفسك هذا العبء النفسي الجديد؟ وأنت المثقلة بأعباء الحياة، لقد كادت ملحمة كفاحك أن تؤتي ثمارها فلا تسمحي لأي عارض عابر كهذا الأمر بأن يعرقل خطواتها بعد أن اقتربت من النهاية المظفرة، ولو أنصفت نفسك لاستجبت لنصيحتي ولذهبت إلى كليتك مرفوعة الرأس، ولعاملت الجميع بروح طبيعية وبروح ليس لديها ما تخجل منه، وأولهم زميلتك صاحبة موقعة الحذاء المؤسفة، التي لا أشك في أنها قد ندمت على اندفاعها فيها، وعرفت كم أساءت بها إلى نفسها وأسرتها قبل أن تسيء إليك، ولعلها الآن تطلب راحة ضميرها بإصلاح الأمر معك لأننا في النهاية بشر يا صديقتي ولسنا مردة ولا شياطين، لنا حمقنا وخطايانا ولنا أيضًا ندمنا وخوفنا من عقاب السماء، وتطلعنا الخفي إلى أن نحتمي من غوائل الزمن بألا نظلم غيرنا.

فأخرجي إلى كليتك فخورة بنفسك وبكفاحك، ولسوف تنبئك الأيام بكذب هواجسك ومخاوفك، فإن لم تفعلي فتفضلي بزيارتي لنبحث الأمر معا والله المستعان على ما يصفون.

رابط رسالة الصفعة

رابط رسالة الفرن تعقيبا على هذه الرسالة

نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" نوفمبر 1988

كتبها وراجعها وأعدها للنشر / نيفين علي 


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات