الصفعة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1988


 الصفعة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1988

أنا يا سيدي فتاة في الثالثة والعشرين من عمري بدأت منذ أيام عامي الرابع من الدراسة الجامعية بإحدى الكليات النظرية .. منذ 4 سنوات توفي أبي بعد إحالته للمعاش فتحمل أخي الأكبر مسئولية الأسرة كلها ومسئولية الانفاق علي أنا وأمي وشقيقي الأصغر وسداد إيجار الشقة وأقساط بعض أثاثها ونفقات الدراسة بكليتي ونفقات تعليم شقيقي ونفقات الحياة لنا جميعا مع المعاش البسيط الذى تركه لنا أبي بعد رحيله رحمه الله.

وفى بداية هذا الصيف أحسست بثقل العبء الذى يتحمله أخى بمورده المحدود وحده رغم أنه لا يشكو ولا يتذمر, فقررت أن أعمل خلال الأجازة لأسهم معه فى حمل العبء ولأجد ما أنفقه خلال العام الدراسي الطويل فبدأت أبحث عن وظيفة فى أبواب الوظائف الخالية فى الصحف وأذهب إلى أصحاب الإعلانات فأجد الجميع يطلبون الخبرة والآلة الكاتبة باللغتين العربية والانجليزية ومعرفة الكمبيوتر و"التلكس" وكل ذلك لا يتوافر لي فأعود من حيث ذهبت خائبة.

 

وعشت من الأجازة ثلاثة أسابيع بلا فائدة فهداني تفكيري إلى وظيفة لا يطلب ممن يقوم بها كل هذه الشروط وتنشر الإعلانات كثيرا وما أن قرأت إعلانا فيها حتى اتصلت برقم التليفونات المنشور فيه وحصلت على العنوان وذهبت إليه فاستقبلتني ربة البيت وقدمت نفسي لها فارتاحت إلي من الوهلة الأولى وسألتني عن "خبرتي" السابقة فقلت لها أن خبرتي الوحيدة اكتسبتها فى بيتي ورويت لها ظروفي فتأثرت بها وصممت على أن تعطيني الوظيفة بغير أن تسأل عني أو تتحقق مما قلت لها .

وهكذا بدأت عملي الجديد لأول مرة كشغالة عصرية لدى أسرة مصرية وأذهب إليها فى العاشرة صباحا فأظل واقفة على قدمي حتى السابعة مساء ألبي مطالب الصغير والكبير والزائر والمقيم ولا أجيبه إلا بكلمة حاضر.. ونعم .. ولا تفارق الابتسامة شفتي أبدا, وربة الأسرة سعيدة بي تضحك في وجهي وتفتخر أمام صديقاتها وجيرانها وزملائها بأن لديها شغالة في الليسانس فى هذا العام, ولم يكن ذلك يزعجني فقد قبلت العمل وأنا أعرف طبيعته ومؤمنة بأنه أفضل وأكرم عند الله من أى شئ يغضبه كما أنه أفضل وأكرم عنده من أن يستمر الإنسان يعاني الحاجة وهو يستطيع أن يساعد نفسه بعمل  شريف ثم يحجم عن ذلك تكبرا أو ترفعا ورغم ذلك فإني لم أستطع أن أصارح أحدا بطبيعة هذا العمل فقلت للجميع أني عملت كسكرتيرة وتعجبت صديقاتي من نجاحي فى الفوز بهذه الوظيفة وأنا لم أحصل على الليسانس ولا أعرف الآلة الكاتبة ولا التلكس ولا أجيد لغتين.

 

ولا تسألني يا سيدي لماذا أخفيت هذا العمل رغم إيماني بأنه عمل شريف لأنك تعرف نظرة البعض فى المجتمع إلى من تضطرها ظروفها لقبوله والمهم أني أقبلت عليه بحماس ونشاط ولم ترهقني قسوته ولا طول ساعاته, وإنما أرهقني فقط وبعد عدة أيام فقط من قيامي به جفاء رب هذه الأسرة وسوء معاملته لي خاصة أمام الضيوف على عكس زوجته الطيبة الرقيقة فقد كان لسوء حظي رجلا عصبيا غضوبا لا يستطيع أن يتحكم فى انفعالاته أو لسانه, فبدأ يوجه شتائمه لي بسبب وبدون سبب, وزوجته تحاول كبح جماحه , وتذكيره بأني طالبة جامعية وغلبانة ولولا الحاجة ما خرجت من بيتي , والدنيا غدارة ولا أمان لها ولدينا أولاد ولا نعرف ماذا ستفعل بهم الدنيا ... إلخ.

ولكن هيهات أن يدعني في سلام يوما أو يومين حتى تنفجر شياطينه مرة أخرى ويوجه لي سبابا مقذعا أقابله بالصمت والبكاء ولا يخفف منه محاولة ربة الأسرة فتطيب خاطري وإرضائي, وزاد من معاناتي أنني كنت لا أستطيع أن أشكو لأحد من أسرتي وصديقاتي مما أعانيه لأني أخفيت عملي فزادني الكتمان معاناة وآلاما, حتى كنت أبيت بعض الليالي مسهدة أتقلب فى فراشي وأقسم أني لن أعود إلى هذا البيت .. ثم تشرق الدنيا بنور ربها فأجد نفسي ارتدي ملابسي وأتوجه إلى العمل إلى أن جاء يوم واستقبل رب الأسرة بعض الضيوف .. وقفت على خدمتهم جميعا بكل نشاط وحماس لكن خوفي من إهاناته المتوقعة فى أية لحظة أربكني فوقعت في خطأ صغير , ففوجئت به ينهض منفعلا ثم يهوى على وجهي بصفعة شديدة أمام الضيوف.


 

ولــكـاتــبة هــذه الـرسـالة أقــول:

 

إن الصفعة التى هوت على وجهك إنما هوت فى الواقع فوق قيم التراحم والتكافل واحترام الإنسان واحترام العمل الشريف مهما كان صغيرا وهذه القيم بالذات هي التي تحتاج أن تسود حياتنا الآن أكثر من أي وقت مضى لكي يتعاون الجميع على مواجهة صعوباتها.

وكارثة أمثال هذا "الجلف" أنهم يسيئون إلى الحياة بتصرفاتهم بأكثر مما تسمح لهم عقولهم الضيقة بتصوره إن كانت لهم عقول تعرف شيئا آخر غير جمع المال وانفاقه .

فمن الفوارق الأساسية بين الإنسان والثور هو أن الإنسان يستطيع أن يضبط نفسه ويردها عن الحمق والاندفاع حين يشاء فى حين لا يستطيع الثور ذلك إذا هاج وانطلق من عقاله .. وخطورة أمثال هذا "السيد" أنهم يهزون المثل العليا عند الشباب ويفقدونهم الإيمان بجدوى العمل الشريف واحترامه .. لذلك فقد أحسنت صنعا بترك العمل لديه ولعله الأجدر بك أن تغادريه مع أول كلمة سباب جارحة وجهها إليك لأنه ليس من حق رب العمل مهما كان نوعه أن يمتهن كرامة من يعمل عنده .. ولأن أمثال هذا الأعجم لا يتصورون الدماثة إلا ضعفا يغريهم بالتمادي في العدوان على الآخرين فى حين أن الاخيار من الناس وهم كثيرون والحمد لله يأسرهم التهذيب وتغريهم الأخلاق الكريمة بإحترام أصحابها والاعتراف لها بأقدارهم.

 

ومن سوء الحظ أن تجربتك الأليمة قد أوقعتك فيما يبدو فى العمل لدى واحد من فرسان الطبقة الجديدة ..الذين اكتسبوا الثراء ولم يكتسبوا معه أخلاقياته ولا قيمه العتيدة, فأخذوا من المال غرورة وسطوته وجبروته واجتراء أربابه المحدثين على أقدار الناس .. ولم يأخذوا معه قدرته على تمكين الإنسان من التعفف والحياة الشريفة التي لا ترهقها الضغوط الاجتماعية أو قدرته على تمكين الإنسان عن ممارسة الشهامة والنجدة ومساعدة الآخرين .. وإظهار الوجه الإنساني الأصيل للبشر , لكن هذا حديث آخر يطول ولا داعي لإرهاقك به , فتفضلي بزيارتي ولك الشكر والتحية

نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1988

كتابة النص من مصدره / بسنت محمود

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات