نقطة الصفر .. رسالة من بريد الجمعة عام 1996
لا أعرف كيف أبدأ رسالتى هذه .. ولا بأي الكلمات أتحدث إليك,فأنا أشعر بحرج شديد لكني لا أجد مفرا من أن أكتب إليك لترشدني للطريق الصحيح ولكي أجد من يشاركني بالرأي في مشكلتي ..أنا سيدة متزوجة,عشت قبل زواجي حياة هادئة ملتزمة بين أبوي وإخوتي إلى أن تخرجت فى الجامعة وعملت وتقدم لخطبتي ابن الحلال ووجدت فيه كل مواصفات فارس الأحلام الذى أترقبه, فهو شاب وسيم للغاية ومستقيم ومن أسرة طيبة وملتزمة , وأنا في داخلي طوفان من المشاعر ينتظر من أغرقه به .. حيث لم أعرف شابا من قبل فى الجامعة ولا بعدها, ثم ظهر هذا الفارس فتعلق بي وتعلقت أنا به ووجدت فيه الزوج والأب والشقيق وكل شئ .. ثم تزوجنا وهو فى الثلاثين من عمره وأنا فى السابعة والعشرين جميلة وفى منتهى الشباب والحيوية, وأحلم مثل كل بنت بيوم الزفاف السعيد, وبدأنا رحلتنا معا وذهبت مع زوجي إلى عش الزوجية الجديد, فمضى اليوم الأول من زواجنا ثم الثاني والثالث وأنا كما أنا قبل الزواج وكلما سألتني أمي عن أحوالي أجبتها بأن كل شئ على ما يرام والحمد لله, ثم توالت الأيام بلا أى تغيير فى وضعنا فأصبحت شهرا وشهرين وثلاثة حتى مضت سنة كاملة وأنا أعيش مع زوجي "زوجة مع إيقاف التنفيذ" واحترم زوجي وأرعاه واهتم بكل شئونه على أكمل وجه .. وكلما رآني أحد يسألني لماذا أصبحت أكثر هدوءا وصمتا عما كنت قبل الزواج, فأجيبه بأنني أميل بطبيعتي للهدوء وقلة الكلام, ثم بدأ الكل بعد ذلك يتساءلون ألا من بوادر للحمل, فيؤلمني التساؤل لأنني الوحيدة التي أعرف مشكلتي , ومع تكرار التساؤل بدأت اسأل زوجي لماذا لم يتم زواجنا حتى الآن, فكان يتهرب دائما من السؤال ويفتعل المرض حتى بدأت اتعب نفسيا من هذه المعاملة , ومن عدم مبالاته بأسئلتي , إلى أن مضت السنة النهائية الثانية من عمر زواجنا وأنا صابرة ومنطوية على مشكلتي ولا أريد أن تهتز صورة زوجي في أعين أبي وأمي والأهل, لكنه وبعد أن انقضت السنة النهائية من زواجنا ونحن على نفس الحال بدأت انفعل واضغط على زوجي ليطلب العلاج فاستجاب وبدأ يذهب إلى الطبيب ويرجع إلى بكلام غير مفهموم ويتناول بعض الأدوية بلا فائدة حتى مضت السنة الرابعة من زواجنا, وضاق بي الحال لأول مرة فطلبت من زوجي الطلاق بالحسنى , ورفض هو وبكى كثيرا وقال لي أن الحياة والحب بغيري مستحيلة لأنني بالنسبة له الحياة وكل شئ وأنه سوف يواصل العلاج ويرجع إلى طبيعته بإذن الله .. فسكت وساعدني على الصمت أنني قد حرت كيف أبرر لأهلي طلب الطلاق معه وهم الذين يحبونه ويرون أنه رجل طيب ويحسن معاملتي, فاعتصمت بالصمت من جديد وأصبحت عبارة "الحمد لله" تتردد على لساني عشرات المرات كل يوم اراديا ولا إراديا, لكن رؤيتي لزميلاتي وهن يحملن أطفالهن .. وهذه حامل وتلك طفلتها بلغت الخامسة أو السادسة قد بدأت ترهقني نفسيا فإذا بي أصب ضيقي كله على الملابس وأدوات الزينة والإكسسوارات التي أنفقت المال على شرائها لكي أتزين لزوجي وأتبع تعاليم ديني معه .. وإذا بى ألقي بكل هذه الملابس والاكسسوارات جانبا ولا أبالي بما يحدث لي بعد ذلك لأنني وجدت نفسي أمام جماد لا تتحرك مشاعره أو قلبه نحوي أبدا .. وصممت على الطلاق هذه المرة وطلبت من أبي أن يتحدث معه ويطلب منه الطلاق بالمعروف, فكان رأي أبي أنني إذا كنت أريد الطلاق لعدم الانجاب فقط فليس هذا السبب كافيا للتضحية بزوجي الطيب والتخلي عنه وهو الرجل الفاضل الكريم الذى يحبني ولا يريد أن يفقدني , فحرت ماذا أستطيع أن أقول لأبي عن سبب طلبى للطلاق بل حتى لأمي أيضا وقد نشأنا فى بيئة ملتزمة ومتدينة .
ولــكـــاتــبة هــذه الـرسـالـة أقــول:
ترددت طويلا قبل نشر رسالتك هذه
يا سيدتي ليس استهانة بالمشكلة التى تعرضها, وهي مشكلة مهمة بالفعل تهدد سعادة
الإنسان وتبذر بذور الشقاء في أرضه , وإنما تحرجا من حساسيتها المعروفة لكنني
أتلقى في السنوات الأخيرة رسائل عديدة تطرح نفس هذه المشكلة الشائكة وتطلب الرأي
فيها, ولا شك في أنه من الأفضل لنا أن نواجه كل مشاكلنا الحياتية بلا مواربة بدلا
من أن نسهم فى تعقيدها ونموها تحت السطح بالتحرج منها وتجاهلها واعتبارها من
"المحرمات" غير القابلة للمناقشة العلنية , فهذا التحرج نفسه هو أحد
أسباب تفاقمها ومضاعفاتها الخطيرة على حياة الأسرة لأن من لا يسلم بالداء .. لا
يطلب الدواء.
ولقد قلت من قبل إن من أكبر
أسباب الشقاء الزوجي تجاهل الزوجين أحيانا لبعض مشاكلهما الحساسة تحرجا من
مناقشتها وطلب العلاج لها .. وفى مثل حالتك يا سيدتي فلقد أدى هذا التجاهل الطويل
أو "الإنكار" إلى أن أصبحت المشكلة مزمنة ومتشابكة وشديدة التعقيد .. إذ
ما كان أسهل عليك من أن تحسمي أمرك بعد عام أو عامين, أو حتى ثلاثة من الزواج ,
وتصارحي والدتك برغبتك النهائية فى الانفصال عن زوجك لأنك وإن كنت لا تنكرين عليه
خلقا ولا دينا, إلا أنك تفتقدين فى الحياة معه شيئا جوهريا يصعب عليك احتمال
الحياة بدونه كما يصعب عليك أيضا أن تحمي نفسك من الاغراء والفتنة إذا تواصلت
حياتك معه على هذا النحو إلى ما لا نهاية.
نعم ما كان أسهل عليك أن تفعلي
ذلك رغم الأسى لزوجك الذي لا حيلة له فيما يعاني منه ولا جريرة, لكنها أقدار البشر
التي تتراوح بين الصحة والمرض بلا ذنب لأحد فى علته ولا فضل لأحد في عافيته, لكن
المشكلة الحقيقية قد بدأت على ناحيتك أنت بالتردد أمام الانفصال والإشفاق على
النفس من تبعاته .. أو من المجهول الذى ينتظرك بعده.
وبعض مشاكل الإنسان تزداد
استعصاء على الحل حين يتردد طويلا فى اتخاذ القرار الوحيد المناسب لحلها, والذي
يعرف هو أكثر من غيره أنه لا قرار سواه.
كما أن حيرة الإنسان أيضا
تتضاعف إذا طالت المقارنة عنده بين ما سوف يفقده إذا اتخذ هذا القرار الصحيح وما
سوف يجنيه منه على المدى البعيد إذا أقدم عليه فتكون العاقبة غالبا هي أن تخور
الإرادة بسبب التردد الطويل والمراوحة بين الأرباح والخسائر فضلا عن التأثر أيضا
بعامل الإشفاق الإنساني على من يحسن عشرتنا ويتعلق أمله باستمرار الحياة معنا إلى
النهاية.
ومع تقديري لأهمية الاعتبارات
الإنسانية والعاطفية في هذا الشأن , فإنها ينبغي ألا تحجب عنا الحقيقية التي لا
مفر لنا من مواجهتها , إذا رغبنا حقا فى أن نحيا حياتنا بطريقة صحيحة وليس لنا على
أية حال أن نختار لأحد حياته .. فإذا شاء أن يعيش حياته مستغنيا عن بعض احتياجاته
الإنسانية, وقادرا على تحمل ذلك بإعلاء المشاعر وتغيير هدف الدافع الحسي إلى أشياء
مماثلة ليست حسية لكنها أعظم قيمة إنسانية .. فلتهنأ له الحياة كما اختارها وليس
من حقنا أن ندين اختياره, وإذا سلم لنفسه بعجزه عن احتمال الحياة مع مثل هذا النقص
الجوهري فيها وسعى لتغييرها .. فليس من حقنا أيضا أن نلومه أو نطالبه بالتضحية من
أجل غيره، خاصة إذا كانت لا تربطه بشريك الحياة اعتبارات الأبناء , كما هو الحال
معك.
وهذا هو السر "السيكولوجي"
الغامض في أننا لا نلمس عادة وعلى عكس المتوقع إشفاقا من الزوجة المحرومة على
زوجها المبتلى بأقداره وإنما نلمس على العكس روحا "عدائية" غير مفهمومة
تجاهه مشوبه فى معظم الأحيان بشئ من الاحتقار له ! ولقد ظللت لفترة اتعجب لهذه
الروح العدائية تجاه الزوج المبتلى ولعدم استعداد الزوجة النفسي لالتماس أي عذر له
فى معظم الأحوال مع أنه لا ذنب له فى ابتلائه ,ولا لوم عليه إلا فى إصراره على
إرغام زوجته أو حتى إغرائها باستمرار الحياة معه على هذا النحو, مع إدراكه لخطورة
ذلك النفسية والصحية والأخلاقية عليها.
أقول ظللت أتعجب لذلك إلى أن قرأت في بعض كتب
علم النفس الحديثة عن "العداوة الحسية" التي تنشأ لا إراديا بين الزوجين
إذا استشعر أحدهما مسئولية الطرف الآخر عن عدم إرضاء مشاعره الحسية وكيف تعبر هذه
العداوة عن نفسها فى انفجارات دورية من الغضب والكراهية تهدأ حينا, وتتأجج حينا
آخر مشوبة بمشاعر الازدراء اللا إرادية, وكيف أن مشاعر الازدراء هذه هي المقابل
المعكوس لمشاعر الاحترام التي كانت المرأة تود أن تمنحها للرجل الذى يلبي
احتياجاتها , كما أنها أيضا المقابل المضاد لرغبتها الأنثوية الغريزية فى الانقياد
له.
ولأننا ينبغي لنا في النهاية أن
نعترف بصحة ما يقوله لنا علماء النفس المحدثون من أن الزواج إنما ينشأ أصلا عن
الدافع الحسي ويقوم على أساسه , مهما يكن تقديرنا وإعلاؤنا للاعتبارات العاطفية
والإنسانية والاجتماعية الأخرى للزواج, ولأن الفيلسوف الفرنسي جان لاكروا يقول لنا
إن الحب بغير الغريزة خيال فاضل وإن الغريزة بغير الحب إباحية حيوانية , فإننا
نفهم على الفور.. لماذا تناوبتك انفجارات الغضب والكراهية من حين لآخر طوال حياتك
الزوجية مع زوجك كما نفهم أيضا سر اتهامك للرجال بصفة عامة بالأنانية على ضوء ما
يقوله لنا أيضا علماء النفس من أن الكبت الطويل لابد أن يصحبه غضب وكراهية للنوع
الآخر المسئول في خيال المحروم عن حرمانه وأن هذه المشاعر المتابينة هي المسئولة
غالبا عن ظهور النوع المعروف من النساء فى علم النفس بإسم "كاره الرجال"
لأنهم المسئولون عن حرمانهن من حقهن الطبيعي فى الزواج والأمومة والأنوثة, وهو
المقابل المعادل للنوع الآخر من الرجال المعروف بإسم "كاره النساء"
لمسئوليتهن "العامة" عن عذابه وتعاسته وحرمانه من السعادة كما ندرك أيضا
أن افتقاد زواجك للدافع الأساسي الذي يدفع إليه قد وضعه فى مهب الريح منذ البداية.
وبغض النظر عن المرارة البادية
فى سؤالك عما إذا كان زوجك سيحتمل حياته معك للنهاية كما يطالبك الآن باحتمالها,
أم أنه كان سيلقي بك في عرض الطريق من البداية , فإني أقول لك يا سيدتي إن الوضع
يختلف بين الرجل والمرأة في هذا الشأن لأن الرجل حتى لو عجز عن احتمال الحياة على
هذا النحو مع المرأة التى يحبها وتحبه وترغب فى استمرار العشرة بينهما رغم نواقصها
, فإنه يستطيع عند الضرورة أن يستخدم رخصته المشروعة فى الزواج من غيرها بموافقة
زوجته الأولى لكي يلبي احتياجاته الإنسانية بالطريق المشروع وبغير أن يتخلى عمن
تحبه, أما المرأة فإنها لا تستطيع تعويض ما تفتقده فى شريك حياتها إلا بغير الطريق
المشروع الذى تأباه على نفسها كل زوجة فاضلة متدينة مثلك.
لهذا فلا مفر من احتمال آلام
الجراحة إذا رغبت فى حل حاسم لمحنتك والصبر عليها إلى أن يإذن الله باسترداد النفس
لعافيتها, وليس من حق زوجك إذا رغبت فى ذلك , ورغم تقديري لعذابه الذي لا يدرك
عمقه سواه أن يعترض على رغبتك فى الانفصال عنه ولا أن يتعلل بالحب الذى يحمله لك
لاستمرار حياة زوجية لا تلبي احتياجاتك الإنسانية ولا تعصمك من الفتنة بل إن هذا
الحب نفسه إذا كان صادقا هو الذي ينبغي له أن يدفعه لأن يطلق سراحك بإحسان مكتفيا
بما نهله من نبع الحب فى ظلالك فى السنوات الماضية ومقدرا لك دوافعك لما اخترت
ويستطيع هو إذا شاء أن يجد شريكة أخرى ترغب فى زواج الإيناس الذي يملك أن يقدمه
إليها, وتسعد به مادمت أنت قد عجزت عن احتماله, إذ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها فى
النهاية.
فواجهي نفسك أنت أولا يا سيدتي
بلا خداع ولا انخداع بمغريات العطاء والهدايا والمعاملة الطيبة , إذا رغبت فى حل
المشكلة حلا جذريا, أما إذا لم ترغبي في ذلك فلا لوم عليك فيما تختارين ولكن بشرط
الرضا الحقيقي بحياتك ونواقصها والكف عن تعذيب النفس إلى ما لا نهاية بالتطلع
المحموم إلا ما حرمت منه .. شكرا.
نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" ديسمبر 1996
كتابة النص من مصدره / بسنت
محمود
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر