العودة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1991

 العودة "تتبع رسالة المنطقة المحرمة".. رسالة من بريد الجمعة عام 1991

العودة "تتبع رسالة المنطقة المحرمة".. رسالة من بريد الجمعة عام 1991


     من أكرم من أم خلقها الله سبحانه وتعالى نبعًا دائمًا للحنان ونهرًا لا يجف أبدًا من العطاء لأبنائها .. وللحياة ؟

عبد الوهاب مطاوع

بريد الجمعة

أنا الأم التعسة التي كتبت إليك منذ شهور تروي لك قصة حياتها مع زوج لم تحبه طوال زواجهما وابنين كرست لهما حياتها فما أن تخرجا وعملا حتى تزوج الأصغر على غير رغبتها ثم هاجر إلى الخارج وتزوج الأكبر ثم انساق وراء بعض الأهواء فقاطعني منذ عامين كاملين وحرمني من رؤية طفلته الوحيدة ، وتركني لوحدتي وأحزاني في شقتي الواسعة بالإسكندرية مع أن مسكنه ليس بعيدًا عن مسكني ، وقد نشرت هذه الرسالة بعنوان "المنطقة المحرمة" ثم نشرت عدة تعقيبات عليها كان آخرها رسالة الخوف التي تخشى فيها أم لها بعض ظروفي من أن تواجه نفس مصيري في المستقبل لما بدر من بعض أبنائها الذكور من علامات للجحود أثارت مخاوفها .. واليوم أكتب لك مرة أخرى لأشكرك على اختيارك لهذه النوعية من المشاكل الهامة ولأروي لك ما جدَّ في قصتي ، فلقد جاء اليوم الأول من شهر رمضان الكريم وكان رمضان الثاني الذي أستقبله وحيدة منذ مقاطعة ابني – سامحه الله – لي مع أن مسكنه لا يبعد عن مسكني كثيرًا ، وجهزت لنفسي طعام الإفطار البسيط الذي يتناسب مع حالتي الصحية .. وأعددت المائدة فوضعت طبق الشوربة والسلاطة الخضراء والعصير وطبق اللحم المسلوق أمامي وجلست أنتظر مدفع إفطار الإسكندرية .. بعد أن أذَّن المؤذن في إذاعة القاهرة لصلاة المغرب وانتهى ، وخيَّم على المكان صمت حزين وتذكرت أيام السعادة التي كانت مائدة رمضان تجمعني فيها مع ابنيْ والأحاديث الجميلة والضحكات التي نقطع بها وقت الانتظار ثم انطلق المدفع ومددت يدي لأرشف أول ملعقة من الشوربة فوجدت دموعي تتساقط بغزارة فيها وتختلط بها فلم أحتمل الجلوس إلى المائدة أكثر من 5 دقائق ثم نهضت عنها وقد عافت نفسي الطعام رغم الصيام وخرجت إلى الشرفة ونظرت طويلاً إلى البحر الذي لا يكف عن الصخب وتطلعت إلى السماء وأشهدت ربي على ما أعانيه من إحساس بالمرارة والوحدة والنكران ومضى وقت طويل وأنا في الشرفة ثم عدت للداخل ومضت السهرة كئيبة ونمت ليلي بغير سحور .. وفي الصباح استيقظت على صوت جرس الشقة فنهضت لأفتحه وأنا أتساءل عمن يدق بابي في هذا الوقت من الصباح فوجدت أمامي ابني الأكبر العاق .. يحمل طفلته ذات العامين .. وقبل أن أنطق بشيء أو أسمع شيئًا فوجئت به وهو على الباب يضع طفلته التي لم أرها منذ ولدت بين يديَّ فتلقفتها ولساني معقود من الدهشة واقترب هو مني خجلاً ومنكسرًا ثم قبَّلني وهو يبكي بكاءً مرًا ودعوته للدخول وجلست طفلته في أحضاني ولا أستطيع أن أرفع عيني عنها .. فروى لي أنه قد تعرَّض أمس أي في اليوم الأول من رمضان الذي أمضيته حزينة باكية لحادث تصادم بشع بسيارته وكانت معه زوجته وطفلته فكسرت ذراع زوجته وتم تجبيسها وأصيبت بشلل مؤقت في وجهها ومازالت في المستشفى وأصيب هو بكدمات شديدة ونجا مع الطفلة بأعجوبة وتهشمت السيارة تمامًا وهي غير مؤمَّن عليها ، وطلب مني السماح لأنه قد تعرَّض لظروف سيئة كثيرة منذ قاطعني ، ثم استأذنني في أن يقيم معي شهر رمضان كله تكفيرًا عن ذنبه لعل الله يغفر له ، فرحبت به وبطفلته التي حرمت منها منذ مولدها ، وبعد أيام خرجت زوجته من المستشفى وجاءت إليَّ بالجبس في ذراعها لتقبل يدي بدموعها ولم أنطق بكلمة عن الماضي وطلبت منهما ألا يفتحا أي حديث عنه ورحبت وسعدت بهما كثيرًا ، وعاد ابني الأكبر ابنًا رائعًا كأنما أدبه ربه فأحسن تأديبه ، فإن كان بعض قلبي مازالت به مرارة منه فإني سعيدة بعودته وبعودة زوجته .. وسعيدة سعادة الدنيا بأسرها بحفيدتي الجميلة التي أعادتني إلى الحياة ، وجعلت لأيامي مذاقًا حلوًا جديدًا خاصة حين تناديني بكلماتها المتقطعة وقد وجدت من واجبي أن أكتب لك مرة أخرى لكي تشاركني فرحتي كما شاركتني من قبل محنتي وشاركني فيها معك قراؤك الأفاضل ، فالفضل بعد الله يرجع إليك في عودة ابني إليَّ .. فقد عرف بالمشكلة بعد نشر الرسالة كثيرون من أصدقائه ورؤسائه وقاطعوه شهورًا .. إلى أن أذن الله له بالهداية وعاد .. وحمدت الله على ذلك وقلت "وأما بنعمة ربك فحدث" ولذا أهمس للأم صاحبة رسالة الخوف ، الخائفة من جحود أبنائها في المستقبل بأن تهدأ وتتخفف من مخاوفها وتدع الأمر لعدالة الإله الواحد القيوم الذي يمهل ولا يهمل ولن يضيعها الله أبدًا بإذن الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

 

·      ولكاتبة هذه الرسالة أقول :

 

من أحسن فإنما يحسن لنفسه قبل أن يحسن للآخرين ، وهكذا فعل ابنك بعودته إليك نادمًا وطالبًا الصفح عنه وعن زوجته فإن كان لأحد فضل في ذلك بعد الله العادل المتعال الذي أذن له بالهداية إنقاذًا لروحه من الهلاك فهو لأصدقائه ورؤسائه الذين قاطعوه حين عرفوا بالمشكلة .. وهذه هي أهمية الرادع الاجتماعي في تقويم الخاطئين وإعادتهم إلى جادة الصواب إذ أن الحياة لا تتعقد إلا حين يهمل البعض استخدام هذا الرادع في دائرة علاقاته .. فينهض مثلاً تحية للمنحرف وهو يعرف بانحرافه .. ويهش للمختلس والمرتشي والكذوب والمستغل والعاق والماجن والمقصر في عمله وواجباته وهو يعلم بكل نقائصه ، فتختلط الحدود بينهم وبين الشرفاء ولا يحسون هم بأي دافع يدفعهم للعودة للطريق القويم ما دام المجتمع الذي يحيط بهم لا ينبذهم بل ويرحب بهم تمامًا كما يرحب بالأسوياء .. وربما انقلبت الآية فنال من ترحيبهم ما لا يناله البسطاء الشرفاء بسبب إمكانياتهم المادية ، لهذا كله فإني أحيي أصدقاء ابنك ورؤساءه الذين عاملوه بما يستحقه في فترة "جاهليته" وحبذا لو تصرف الجميع مع كل المنحرفين بهذا الإحساس الفطري السليم الذي ينفر من الإنحراف الخلقي ويدينه إدانة صامتة باجتناب أهله ونبذهم والحمدلله كثيرًا على ذلك .. وشكرًا لك على إسعادي وإسعاد قراء هذا الباب برسالتك المبهجة هذه .. فإن كان لي أن أطلب منك بعد ذلك شيئًا فهو أن تذيبي ما بقي ببعض قلبك من ذيول المرارة السابقة تجاه ابنك العائد إليك ممدود الذراعين نادمًا لأن الصفح من شيم الكرام ولأن الحياة يا سيدتي أقصر من أن نقصرها بالمرارة والشحناء والأحزان ومن أكرم من أم خلقها الله سبحانه وتعالى نبعًا دائمًا للحنان ونهرًا لا يجف أبدًا من العطاء لأبنائها .. وللحياة ؟

  رابط رسالة المنطقة المحرمة

رابط رسالة الخوف

 نشرت في جريدة الأهرام باب بريد الجمعة سنة 1991

راجعها وأعدها للنشر/ نيفـين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات