المنطقة المحرمة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1991
قرأت لك مرة كلمة لأحد الأدباء الفرنسيين كتب يقول فيها "بولادتي بدأ سوء حظي
في الحياة" ، وأنا يا سيدي واحدة ممن تنطبق عليهم هذه العبارة . فقد ماتت أمي
فور ولادتي فكرهني أبي لذلك وتشاءم مني ثم تزوج بعد فترة من أخرى وعهد بي لجدتي
التركية فرعتني إلى أن بلغ عمري 13 سنة فبدأ أبي يطالب بي وجُن جنون جدتي وجنون
أسرتها ذات النفوذ ، وأسفرت المنازعات والخلافات عن حل سعيد من وجهة نظرهم هو أن
يسرعوا بزواجي وأنا في الرابعة عشرة من عمري خوفًا عليَّ ونظرًا لجمالي اللافت
للنظر ، وهكذا أرغمني أبي على قطع دراستي .. ووجدت نفسي بعد قليل زوجة لرجل يكبرني
بعشرين سنة فكرهته منذ اللحظة الأولى كما كرهت أبي الذي تسبب في توقفي عن الدراسة
.. ولم يكن أمامي خيار آخر سوى أن أنضم إلى أسرة أبي وأصبح خادمة لزوجته فرضيت
بالزواج كأهون الضررين ، لكني لم أسعد به وكان زوجي مهندسًا بإحدى الشركات لكنه
كان بخيلاً كئيب المنظر ورغم بخله فقد أغدق على أهلي بالهدايا والنقود ليتزوجني .
وبعد عام من زواجي كدت أكرر مأساة أمي وأنا أنجب ابني الأول ونجوت منها بمعجزة
وبعدها بعامين أنجبت ابني الثاني وأصبحت أمًا لطفلين قبل أن أبلغ الثامنة عشرة من
عمري ثم فجأة وجدت نفسي أضيق بكل شيء وأرغب في مواصلة دراستي لأعيش حياة فتاة في
سني ورفض زوجي فتمردت عليه لأول مرة وثرت وطالبت بالطلاق وطرقت كل الأبواب للحصول
عليه ورفض بإصرار أن يطلقني كما رفضت أسرتي وأبلغتني بصرامة أنه لا طلاق عندنا
ولابد أن أعيش مع زوجي على أي وضع لأربي الطفلين .. فانفجرت البراكين داخلي وحرمت
نفسي على زوجي نهائيًا بعد 3 سنوات من زواجنا وخيرته بين قبول ذلك أو الطلاق فأبى
إلا أن يضايقني ومرت السنوات على هذا الحال وأنا منطقة محرمة بالنسبة له مهما فعل
وكان قد ترقى مديرًا وانتقلنا إلى شقة فاخرة بالإسكندرية بغير أن يحدث أي تقدم في
حياتنا ثم ماتت جدتي وورثت عنها بعض المال فحزمت أمري واشتريت شقة وأثثتها بأثاث
فاخر وانتقلت إليها وأنا في الثانية والعشرين من عمري ومعي الطفلان ورفعت دعوى
طلاق استمرت في قاعات المحاكم بلا نتيجة لمدة 3 سنوات ويئست من الحصول على الطلاق
ويئس هو من استرجاعي فعشت مع الولدين وحدي واحتويتهما . وحاولت أن أشغل حياتي
بالعمل بشهادتي وهي الإعدادية الإنجليزية فخرجت أبحث عن عمل مناسب فوجدت جمالي
يفتح لي أبوابًا كثيرة لكني رفضت دخولها إذ كنت لا ألبث أن أكتشف أنهم لا يريدون
عملي وإنما يريدون الصحبة ، فعدت إلى بيتي .. وعجزت عن احتمال تكاليف الطفلين
اللذين لم ينفق عليهما أبوهما قرشًا واحدًا منذ انفصلت عنه فأعدتهما إليه وسافرت
إلى لندن للعمل والإقامة ولم أتحمل الابتعاد عنهما أكثر من سنة عدت بعدها
واسترددتهما وقررت أن أستكمل دراستي التي انقطعت بزواجي فالتحقت بمدرسة ليلية
وأصبحت أستذكر دروس الدراسة الثانوية مع الولدين سنة بسنة .. وتقدمنا نحن الثلاثة
إلى امتحان الثانوية العامة في نفس السنة وحصلنا عليها معًا وكانت فرحة لا توصف ..
والتحق ابني الأكبر بكلية عملية والتحقت أنا كطالبة منتسبة مع ابني الأصغر بإحدى
الكليات النظرية وواصلنا الكفاح وبعت خلال ذلك كل ما تبقى من ميراث جدتي ومجوهراتي
وبعد طول انتظار تخرج ابني الأكبر من كليته العملية وعمل عملاً مناسبًا وتخرج ابني
الأصغر وعمل بوظيفة مرموقة أما أنا فقد تعثرت في دراستي الجامعية بكل أسف بسبب مرض
عصبي ألم بي فعجزت عن الحصول على الليسانس . وفرحت فرحة طاغية بانتهاء العبء وتخرج
الولدين وعملهما .. وغبطتني كثيرات على أن مسئوليتي قد انتهت وأنا دون الأربعين
وأستطيع أن أعيش حياتي إذا أردت لكني كنت قد كرست حياتي للولدين ويئست من الحصول
على الطلاق وكففت عن المطالبة به ورضيت بحياتي هكذا حرصًا على مشاعر الولدين ، لكن
فرحتي لم تطل بتخرجهما وعملهما يا سيدي فمنذ تخرجا واستقلا ماديًا عني حتى تغيرت
معاملتهما لي وتباعدا عني بعد أن كنت الأم والصديقة الأولى والوحيدة لهما في
الحياة فقد فوجئت بابني الأصغر يتزوج رغمًا عني من ابنة خياطتي ويمضي في المشروع
غير حافل باعتراضي .. ويؤجر شقة مفروشة ويقيم بها معها ثم بعدها بقليل تعرف ابني
الأكبر وهو الأكثر حنانًا والتصاقًا بي بطبيبة في مثل سنه ورغب في زواجها فزوجتها
له بإرادتي . وهنا بدأت المشكلة فقد مات أبوهما وترك لي معاشًا كبيرًا لكنه حجب
ميراثه الذي يبلغ حوالي ربع المليون جنيه عني وعن ولديه وأخفاه لدى أهله .. وقال
أنه قد فعل ذلك عقابًا لي على كراهيتي له طوال 30 سنة بلا سبب . فكرهني ابناي لذلك
وفوجئت بالأصغر يعد أوراقه فجأة للهجرة إلى أمريكا ثم يصطحب زوجته ويهاجر إليها
دون أدنى التفات لاعتراضي على هجرته وابتعاده عني ، أما ابني الأكبر الذي تزوج
وأنجب طفلاً وكان يزورني بانتظام والذي اعتبرت طفله هو تعويض الحياة لي عن وحدتي ،
فقد عزَّ على البعض أن يحمل لي مشاعر الحب فحيكت المكائد بيننا ووقعت الكارثة منذ
عام حين تهور عليَّ وأتلف الشقة وقاطعني وحرمني من طفله وانهرت ومرضت ببوادر ذبحة
صدرية ونقلت إلى المستشفى فلم يفلح أحد في إقناعه بالسؤال عني في المستشفى .. وها
أنا يا سيدي أعيش في شقتي في الثامنة والأربعين من عمري والوحدة تقتلني وقد مات
الأهل وتنكر لي الابنان وابتعد عني أحدهما بالهجرة ! والآخر بالقطيعة - فماذا أفعل
هل أقتل نفسي وأستريح أرجوك أشِر عليَّ بما أفعل .
· ولكاتبة هذه الرسالة أقول :
في رسالتك الكثير والكثير
مما يستحق أن يتوقف عنده المرء ويعتبر به ابتداء من درس الزواج المبكر غير
المتكافئ .. إلى درس التمرد والمنطقة المحرمة التي استمرت ثلاثين عامًا ! إلى درس
الانتقام بعد الرحيل وقد ينتقم الموتى أحيانًا من الأحياء .. إلى درس جحود الأبناء
الذي هو أشق من عضة الحية الرقطاء على حد تعبير شكسبير إلى دروس أخرى كثيرة لا
أريد أن أشير إليها حتى لا أنكأ جراحًا قديمة لكني لم أفهم بعد كيف يقتص الأب
الراحل من ابنيه بحجب ميراثه عنهما إلا أن يكونا باعداه في حياته ولم يعوضاه
حرمانه منك فآثر ألا يخلف لهما ولا لك ما تهنأون به في مغيبه ، إنه انتقام قاسٍ
على أية حال ومهما كانت مبرراته .. ولا أفهم كيف كرهك ابناك بسببه فإذا كانا قد
فعلا ذلك لاعتقادهما أن مجافاتك لأبيهما طول هذه السنين هي سر حرمانهما من ثروته
فلماذا لم يحاولا التقريب بينكما بعد أن شبا عن الطوق وأصبحا شابين راشدين .. بل
ولماذا لم يؤديا هما حق الأب عليهما فأشعراه بأبوته لهما وتوادا معه بغض النظر عن
خلافكما فإذا كانا لم يفعلا وهو أغلب الظن فالمسئولية مشتركة بينكم جميعًا بغض
النظر عن موضوع الميراث . ولا يحق لهما أن يكرهاك و يجافياك لهذا السبب بل ولا
لغيره من الأسباب ، لأن حق الأم على الأبناء لا يرتبط بأسباب ومن واجبهم أداء حق
الرعاية لها سواء قدمت الأسباب أو لم تفعل لأن الابن إنما يتعامل مع ربه في ذلك
وليس مع أحد غيره . غير أني أخشى يا سيدتي أن يكون بعض ما تعانين منه مع ابنيك
راجعًا إلى أزمة بعض الأمهات اللاتي يكرسن حياتهن لرعاية الأبناء بعد الانفصال عن
الزوج فيحاولن أحيانًا تعويض النقص العاطفي في حياتهن بالتغلغل في حياة الأبناء
والالتصاق الزائد بهم والرغبة غير الواعية في التسلط عليهم .. وعدم القبول النفسي
لنزوعهم الطبيعي نحو الجنس الآخر .. ونحو تكوين أسرة صغيرة والاستقلال بحياتهم عن
حياة الأم . وهي أزمة كثيرات يعشن ظروفك ويعجزن عن إدراك الخيط الرفيع بين نزوع
الأبناء الطبيعي للاستقلال بحياتهم وبين ما يعتبرونه جحودًا وتنكرًا لتضحياتهن من
أجلهم .. فإذا كان الأمر كذلك فلعله يفسر لك رفضك زواج ابنك الأصغر وانزعاجك
الشديد من استمراره في مشروع زواجه غير حافل باعتراضك عليه .. ثم إحساسك بالمرارة
لإقدامه على الهجرة بغير التوقف أمام رغبتك المشروعة في ألا يبتعد عنك .. لكن ذلك
لا يعفيه أبدًا من تقصيره في محاولة استرضائك إلى أن ترضي عن زواجه .. وتقصيره في
نيل موافقتك وقبولك بهجرته ليبني حياته كما يتصورها تقديرًا منك لظروفه وليس رغمًا
عنك فإن كان لا يحرص أيضًا على الاتصال بك ومودتك من مهجره فإن جرمه يكون أشنع
وحسابه عنه مع ربه أشد عسرًا أما الابن الأكبر فبغض النظر عن حقيقة ما جرى .. من
المخطئ ومن المصيب فإن قطيعته لك لا يمكن تبريرها أو الدفاع عنها حتى ولو كنت
المخطئة في النزاع فمن واجبه تجاه ربه قبل أن يكون تجاهك ألا يقطع ما بينك وبينه
أبدًا وألا يباعدك وألا يجافيك .. مهما كانت المبررات .. وهجرته لك وهو على بعد
خطوات منك وحرمانك من طفله أشد مرارة على القلب من هجرة من تفصلك عنه البحار
والمحيطات ذلك أنه قد أصبح الشمعة الوحيدة التي كان ينبغي لها أن تضئ ظلام وحدتك فعسى
أن يشفق على نفسه مما يفعل الآن قبل أن تدور الأيام دورتها ويرد إليه ابنه الجزاء
من جنس العمل .. إذا كان لم يعرف بعد أن جحود الأبناء للآباء والأمهات هو الإثم
الوحيد الذي يعجل الله العقاب لمرتكبه في الدنيا مع ما يدخره له من عقاب أشد في
الآخرة .
فاصبري يا سيدتي .. واشغلي
نفسك بنشاط اجتماعي مفيد .. وزوري واستزيري واشكِ لربك بُعد البعيد وجفوة القريب .
ورددي لابنك الغائب الحاضر
مع الشاعر العربي :
وكنت أذم إليك الزمان
فأصبحت أذم منك الزمانا
وكنت أعدك للنائبات
فها أنا أطلب منك الأمانا
فعسى أن يعود إليك نادمًا .. ومستغفرًا .. ومتنازلاً عن أية مبررات لما فعل .. وشكرًا .
رابط رسالة العودة من كاتبة الرسالة مرة أخرى
رابط رسالة الخوف " تعقيبا على هذه الرسالة"
نشرت في جريدة الأهرام باب بريد الجمعة يناير سنة 1991
راجعها وأعدها للنشر/ نيفـين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر