الخوف .. رسالة من بريد الجمعة عام 1991
عفوا .. فإني
أريد أن انشر هذه الرسالة بنص كلماتها غير المألوفة في رسائل بريد الجمعة لأنها
تضفي بعدا ضروريا لفهم مناخ المشكلة وتصور حالة شائعة بكل أسف في بعض العلاقات
الأسرية والزوجية .
ولنقرا معا كلمات الرسالة :
أكتب إليك وأنا في حالة مروعة وبشعة لتسعفني برد
شاف .. فأنا زوجة غير موفقة منذ ربع قرن زوجي يعمل "......." "مهنة
حرة جامعية" وهو "سافل وقذر" وتحملت منه كل شيء من أجل ثلاثة أبناء
ذكور يدرسون بالجامعة والمدرسة الثانوية.
وقد بلغت
الخامسة والأربعين من عمري منذ أيام ففوجئت بابني الأكبر الذي سينهي دراسته العملية
بعد شهر والذي ينتظره مستقبل مرموق وعشت حياتي أشجعه واستحثه على أن ينهي دراسته
بسلام لیبدأ حياته ولأتنفس الصعداء ففوجئت به یوم عید میلادی ينظر إلي بعداوة
بالغة ويقول لي بالحرف الواحد أن علي ألا انتظر منه شيئا بعد تخرجه لا شيئا أدبيا ولاشینا
ماديا وليس لي أن أمني نفسي بذلك أو أن أطالبه برد ما قدمت له ولأخوته لأنه يعد الأيام
الباقية على تخرجه ليتزوج ويبتعد عنا.
هكذا يا سيدي بدون مناسبة وبدون مقدمات أو أسباب
والأدهى من ذلك أن شقيقه الطالب الجامعي هو الأخر أيده في كل ما قال وشجعه عليه .
فانقد لساني من الدهشة والغم والقهر ولم انطق بكلمة واحدة ولم أنم ليلتها ولا في الليلة التالية .. وأسرعت اكتب إليك لتنجدني .. لقد تذكرت مأساة الأم الكريمة التي تنكر لها أبناؤها بعد رحلة عمر شاقة والتي نشرتها بعنوان المنطقة المحرمة .. فعرفت في تلك اللحظة مصیری کأم ضحت بنفسها من اجل أولادها .. فلد قطعت دراستي الجامعية لکی أتفرغ لتربيتهم وعشت مع رجل حقير ، وتحملت الحياة معه لكي أجنبهم الحياة مع زوجة أب تحطمهم وهذه هي " المكافأة " يا سیدي , حتى في عيد الأم لم يقل لي أحدهم كلمة تهنئه .. فليت الحكومة تلغيه وتريحنا منه .. فأولادي " سفلة وعاقون" مع أن أمي لو كانت على قيد الحياة لحملتها فوق رأسي طول العمر .
أما ابني الذي
صدمني بما قال .. فقد انتظرت أن يغیر سلوكه بعدها فلم يفعل .. وأكثر ما يثير جنوني
هو أنه قد فعل ما فعل بدون مقدمات وبدون أسباب .. وإنما فقط كما قال : لكيلا أفاجأ
بذلك حین يأتي وقته!
لقد جعل ابني هذا وأولادي معه حياتي كلها سوادا حالکا و عرفت أن مصيري سیکون أسوأ من مصير كاتبة رسالة "المنطقة المحرمة" إذ سيموت "الرجل" واتقاضی معاش نقابته وأعيش وحيدة ما بقي لي من عمر ويتخلى عني أولادي الذين أضعت عمري وشبابي من أجلهم .. إنه جيل فاسد حقير .. فلماذا لا تكتب عن هذه المشكلة كل أسبوع .. ولماذا لا تكتب في كل عدد عن هذه النوعية الحقيرة من الأزواج الذين يرفضون الطلاق ويصرون على تكوين أسر فاشلة كهذه الأسرة .. ثم تكون هذه هي النتيجة .. إنني افقد صوابي فهل عندك كلمة تهدئني؟
ولكاتبة هذه الرسالة أقول :
يا سيدتي لا تتعجلي الأمور قبل وقوعها ولا تسبقي الأحداث ، فالحق إن إحساسنا المرضى بالمستقبل وخوفنا الدائم من المجهول وبلا مبرر هو المسئول دائما عن معظم متاعبنا .. فإذا كنا دائما نطالب بعض البشر بألا يفسدوا حياتهم لحساب ماض راح وانقضى .. فنحن نطلبهم أيضا
بألا يزيدوا
من معاناة الحاضر بالخوف من مستقبل تصور لهم وساوسهم أنه سيكون أكثر إيلاما من
الحاضر الذي لا نحس الرضا عنه .
فالمستقبل أولا وأخيرا في علم الغيب يا سيدتي
وهو بيد الله وحده وليس معقودا بيمين أحد غيره .. وهناك عدالة إلهية لا تمیل موازينها
ولا تتخلى أبدا عمن أرضى ضميره وأدی واجبة للحياة ، وأطاع ربه ورجا ستره وعفوه في
الدارين .. فثقي بربك أولا وتخففي من مخاوفك وهواجسك .. فلست تعرفين على وجه
التحديد ماذا سوف تحمل إليك أمواج الحياة في المستقبل .. فلربما مثلا انصلح حال
"الرجل" وكفر عن كل مكان منه وعوضك في نهاية الرحلة عن متاعب البداية
ومحطات الطريق .
ولربما أيضا افاق سريعا هذا الابن المتعجل القاسي وأدرك كم صادم مشاعر أمه بهذه الكلمات الجارحة التي لا مبرر لها ولا ضرورة خاصة في مناسبة كمناسبة يوم ميلادك .. وعرف أين وقعت كلماته الجافة الجارحة من قلب الأم المتلهف إلى أن يعوضها أبناؤها بقربهم وحنانهم وعرفانهم لها عما تحملته وعانته وبذلته من أجلهم والمؤكد أنه سيعود إلى نفسه سريعا هو وشقيقاه .. وإلا لحكموا على أنفسهم بالحرمان من السعادة الحقيقية في رحلة حياتهم ولعاشوا حياتهم كلها وفي نفوسهم غصة تفسد عليهم "بغير سبب واضح" لهم قيمة الأشياء ومعنى السعادة .. إلى أن يدركوا متأخرين أنهم إنما يدفعون للحياة فاتورة العقوق والجحود والنكران لمن كانت صدرا حنونا لهم فلم يبروها ولم يؤدوا إليها حقوقها.
فإذا كان لي من رجاء عندك بعد ذلك فهو فقط أن تحاولي دائما إدراك الخيط الرفيع بین بر أبنائك بك وعرفانهم لك ، وبين حقهم المشروع في أن يخططوا لحياتهم الخاصة في المستقبل بغير أن يتعارض ذلك مع ما يحملونه لك من حب ومن دين عليهم واجب الأداء لك حين يستطيعون الوفاء به وكل ذلك من هموم المستقبل التي يشقي الإنسان نفسه بها بلا طائل إذا استدعاها للحضور قبل أوانها وقبل أن تتهيأ الظروف التي تطرحها للمناقشة , فهوني على نفسك يا سيدتي واشعری أبناءك أنك لن تكوني في حاجة إليهم لكنهم هم الذين سيحتاجون دائما وحتى النهاية إلى عطفك وتأييدك النفسي لهم ورضاك عنهم وإلا تسوف تتخبط بهم خطواتهم في الحياة إلى ما لا نهاية ولن يعرفوا لراحة القلب والضمير طعما حتى آخر العمر ، إنها مشكلتهم هم يا سيدتي وليست مشكلتك أنت .. فليختاروا لأنفسهم إذن ما يرونها جديرة به من السعادة أو من الشقاء ولا تشغلي نفسك أنت بهذه القضية ، وعيشي حياتك راضية عما قدمت .. ومنتظرة لجائزتك ممن يملك وحده منح الجوائز وليس أحد غيره . أما الكتابة عن تلك النوعية من الأزواج التي ترفض الطلاق فهذا موضوع آخر فات أوان مناقشته الآن ولا داعی لمضاعفة الآلام باجترار أحزان الماضي لتتحالف مع مخاوف المستقبل معا وتفسد علينا ما بقى لدينا من قدرة على احتمل الحاضر .. مع خالص تمنياتي القلبية لك بحاضر طيب ومستقبل واعد بكل خير إن شاء الله.
راجعها وأعدها للنشر/ نيفـين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر