دوائر الجحيم .. رسالة من بريد الجمعة عام 1988
شجعني ما قرأته
في رسالة "دائرة الجحيم" على أن اكتب إليك بمأساتي وهي مأساة رجل تجاوز
عمره الافتراضي منذ أحد عشر عاما حين أحلت إلى التقاعد بعد أن وصلت بجدي وإخلاصي إلى
أعلى درجات الوظيفة ونلت عن عملي أعلى وسام يتناسب مع وظيفتي .. وقد منحتني الأقدار
ابنا وابنة تركزت فيهما أمنياتي في أن يضيئا حياتي ويكونا عونا لي في أيامي وكان المأمول
أن تتحقق الأحلام لولا أن ابني الوحيد الذي كنت ادخره ليكون عكازي في شيخوختی قد أصيب
بعرض نفسي عضال هو الفصام فطرقت أنا وأمه أبواب الأطباء ولجأنا للعديد منهم ..
فكانت تتفتح أمامنا أبواب الأمل أحيانا وتتحسن حالاته إذا واظب على العلاج واستمع
لنصح الأطباء ، ثم تضيق أبواب الأمل في وجوهنا فجأة حين يمتنع عن تعاطي العلاج
ويركبه العناد فتعود حالته إلى ما كانت عليه أو أسوأ .
و بعد عذاب
ومعاناة لا أريد الخوض في تفاصيلهما وفقنا الله لطبيب أعاد الهدوء إلى نفسه وتعلقت
آمالنا بابننا من جديد لكنها لم تطل أكثر من ثلاثة شهور انقلب ابني بعدها فجأة إلى
متدين شديد الغلو بمفاهيم خاطئة عن الدين فهو يصوم الدهر ويقوم الليل كله دون
مراعاة لحقوق الوالدين ودون مبالاة بسنهما ومرضهما .. وقد توقف تماما عن تعاطي
العلاج وفشلنا في إقناعه بأن الله قد خلق الطب والأطباء لمقاومة الابتلاء بالمرض
.. فيكون رده الدائم هو أنه سليم تماما وأنه ليس في حاجة إلى الدواء وأن الله قد
انزل عليه هدايته، فماذا يكون الجحيم يا سيدي أكثر من أن افتح عيني على هذا الابن
الوحيد فأجده يفيض رقة وحنانا وطاعة وهدوءا وخلقا ممتازا فلا أكاد اتمتم في سري
حمدا لله يا رب حتى أجده قد انقلب فجأة مهتاجا ينفجر كراهية وعقوقا ويستنزل
اللعنات ويطلب انتقام الخالق من أبويه اللذين قال عنهما جل شأنه
وبالوالدين إحسانا
.. وماذا افعل وأنا على أبواب نهاية الرحلة وأنا أتلقى الصدمات كل يوم في فلذة
كبدي الوحيد الذي لا أملك له شيئا سوى الدعاء إلى الله أن يهديه ليستجيب للعلاج
ويقتنع بأنه يمكن أن يصبح إنسانا سويا إذا استمع لنصح المختصين لأن الله قد جعل
لكل شيء سببا وأودع سره في الأطباء الذين مكن لهم من استكشاف بعض أسرار الجسم
والنفس .
ماذا افعل يا سيدي
وقد ضاقت بي الدنيا وعجزت عن إفهامه أن الإسلام هو دين الوسطية وأن الله قد خلق
لنا الدنيا لنحياها وأن الرسول قد صام وافطر وقام ونام وعامل الناس على اختلاف ألوانهم
ومللهم .. في حين أنه قابع في البيت يرفض الخروج إلى الحياة ويقضي نهاره صائما
وليله قائما حتى الصباح ولا يقطع استغراقه سوى الانفجارات المفاجئة التي تمزق قلبينا
أنا وأمه ؟
ولكاتب هذه الرسالة أقول :
إنك يا سيدي في محنة شديدة أعانك الله عليها
وعلى تحمل آلامها النفسية .. فما أقسى أن يرى الأب فلذة كبده الذي تعلقت به الآمال
ليكون الرفيق والصديق وهو يعاني من غائلة المرض ويتحول إلى مشكلة تؤرق الأب بدلا
من أن يكون ذراعه التي يتوكأ عليها في خريف العمر.
ومشكلة مرضى الفصام بصفة عامة هي مقاومة
الكثيرين منهم للعلاج لاقتناعهم الداخل بأنهم ليسوا مرضى .. والفصام في كلمات بسيطة
هو وقوع الانفصام بين جوانب الشخصية الأساسية، لأن جوانب الشخصية هي التفكير
والعاطفة والإدراك والإرادة والسلوك وحين تعمل هذه الجوانب الخمسة في توافق وتناغم
واتصال بينها يتحقق الاتزان النفسي للإنسان أما حين تنقسم هذه الجوانب بعضها عن
بعض ويذهب كل منها في اتجاه بعيد عن الآخر يصاب المرء بالفصام وهو أنواع عديدة وله
أعراض مختلفة لكنها تتفق بصفة عامة في بعض مظاهر اضطراب التفكير والسلوك والإرادة
والحركة على تميز كل نوع منها بأعراض خاصة فيؤدي الفصام الضلالي مثلا إلى اضطراب
التفكير بصفة خاصة ويؤدي الفصام البسيط إلى اضطراب الإرادة أساسا ويؤدي الفصام
التصلبي إلى اضطراب في الحركة بشكل غالب ز. ويؤدي الفصام الكامل إلى اضطراب في
التفكير والإدراك والعاطفة .
ولأن كل الأنواع
تتفق في اضطراب التفكير فإن معظم المرضى يقاومون العلاج ويعتبرون أنفسهم أصحاء
أسوياء ولا حاجة لهم إلى الدواء والالتزام بتعاليم الأطباء .. ومن هنا تتعقد
المشكلة لكنها ليست مستحيلة الحل لأن الالتزام بالعلاج يحقق نتائج متقدمة جدا وفي أصعب
الحالات فإذا كان ابنك يتستر في رفضه للعلاج بمبررات دينية خاطئة ، فلا تفقد صبرك
عليه ولا أملك في شفائه وواصل الكفاح معه لإقناعه بالانتظام في العلاج لأنه إذا
كان متدينا حقا فعليه أن يطلب العلاج وأن يتأسى في ذلك بالرسول عليه الصلاة
والسلام فقد كان الرسول الكريم يتداوى من المرض ويطلب العلاج عند البشر وهو من نزل
عليه الوحي بالآية الكريمة "وإذا مرضت فهو يشفين" لأن العلاج من عند
البشر والشفاء من عند الله جل شأنه .. وكان يحتجم لتخفيف آلام الصداع وكان كما قلت
أنت يصوم ويفطر ويقوم وينام ويصل ويستروح ويعمل بيديه ويخرج إلى الأسواق ويتعامل
مع البشر ويحفر مع من يحفرون ويخصف نعله بيديه ويرفع ثوبه ويخدم نفسه ويتزوج
النساء فمن رغب عن سنته فليس منه .. فإذا كان متدينا حقا فليتبع سنته وليطلب
العلاج وينتظم فيه.
وإذا قبل
مساعدتي فإني على استعداد لأن ارتب له علاجا منتظما سوف يمن الله عليه بعده
بالشفاء وعليكم بالطمأنينة إن شاء الله.
رابط رسالة زهرات القلوب من الأب سنة 1992
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر