زهرات القلوب .. رسالة من بريد الجمعة عام 1992
هل تذكر مأساتي التي رأيت أن
تطلق عليها عنوان "دوائر الجحيم" .. إنها مأساة والد في أخريات أيام
حياته يصاب في فلذة كبده ووحيده بأن يشاء الله جلت قدرته أن يمرض هذا الوحيد مرضا
نفسيا شخصه الاخصائيون بأنه انفصام بارانوي، وقد مرت على هذه المأساة قرابة
السنوات العشر .. كنت أسأل الله خلالها صباح مساء أن يتم عليه بالشفاء أو أن يأذن
لي سبحانه بالرحيل عن الدنيا، وهي أنانية مني للهروب بجلدي من جحيم الحياة ولكنه
تعالى جلت قدرته ولحكمة خافية مد في أجلي وأطال في عمري وبالتالي اشتد عذابي بسبب
مرض ابني ومن أجله , وكنت أبلغ أرذل العمر والمأساة حية متجددة ما بين علاج يتقبله
هذا الابن أحيانا فتخف وطأة المرض نوعا ما , وما بين عناده في رفض العلاج لأنه لا
يعترف بمرضه أحيانا أخرى وتكون هنا الطامة الكبرى.
جميع الحقوق محفوظة لمدونة "من الأدب الإنساني
لعبد الوهاب مطاوع"
abdelwahabmetawe.blogspot.com
صحيح أن بريد الجمعة يحمل
للقراء من المآسي ما تنوء به العصبة أولو القوة من الأشداء , لكن مرضا يصيب العقل
لشاب في أحلى سنوات عمره فيحيله شيخا محطما يعيش بدون أمل ولا مستقبل ولا كيان .. هو
في واقع الأمر مأساة تتضاءل بجانبها كل مأساة أو هكذا يعتقد من يده في النار وإني
ألجأ إليك مرة أخرى لأني وأمه في حيرة من أمرنا .. فماذا نفعل، ففي نوبات مرضه
وهياجه يواجهنا بأنه يكرهنا كراهة التحريم لأننا تسببنا في ادخاله مستشفى للأمراض
النفسية ثلاثة أسابيع مرتين في سنتين متتاليتين , ومن ثم تسببنا في عدم اكماله
دراسته حيث كان قد وصل للسنة النهائية بكليته .. وفي الوقت ذاته إذا عنَ لي أو لأمه
أن نسافر أو أن نخرج لزيارة أو لأي سبب يشكو من أننا نهمله ولا نراعي ظروفه , إن
ابني يعتقد أنه لو تيسرت له معيشة مستقلة فسوف يكون في ذلك الشفاء التام , وهو أمر
ليس من السهولة تحقيقه حيث يحول دون ذلك قلب الأم من ناحية والقصور المادي من
ناحية أخرى , وفي المجتمعات المتقدمة توجد البيوت البديلة التي تستوعب أمثال ابني
أما في بلادنا فلا يوجد سوى المستشفيات التي تزيد الطين بلة وقد تزيد المرض شدة
إلى جانب التكلفة التي تصل إلى حد التعجيز.
فهل أجد لديكم حلا يخفف من لوعة أب يعيش في رعب
مستمر حيث تهاجم النوبة هذا الابن فجأة بدون مقدمات أو بمعايير خفيفة فيثور ثورة
عارمة ويكيل للوالدين اللعنات ثم قد يهدأ بعدها وكأن شيئا لم يكن .. إنه بركان في
ثوب شاب في الثلاثين كان مثالا في كمال الخلق وشدة الذكاء والتفوق في الدراسة قبل
أن يمرض هذا المرض اللعين ولا حول ولا قوة إلا بالله .
ولــكــاتــب هــذه الـرسـالـة أقــول :
أذكرها بالطبع يا سيدي وأرثي
لحالكما ولحال أمثالكما من الآباء والأمهات المكلومين في زهرات قلوبهم .. وأتساءل
معك ألا من حل وسط بين المستشفيات الخاصة بتكلفتها العالية وبين هذا الجحيم المتصل
الذي تعيش فيه كل أسرة مبتلاه بهذا البلاء الذي تهون معه عذابات كثيرة من عذابات
الحياة , وإلى أن أتلقى جوابا على تساؤلي أرجو أن تتصل بي مساء الاثنين القادم ,
وشكرا .
نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" يوليو
1992
كتابة النص من مصدره / بسنت
محمود
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر