الكلمات الممرورة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1999
من الذي قال إن أحكام العقل لابد أن تتعارض دائماً مع أحكام القلب؟ إنهما كثيراً ما يتوافقان وتوافقهما من علامات التوفيق الإلهي للموعودين بالسعادة في الأرض، غير أن أحد أسباب الشقاء الإنساني هو أننا قد نضيع من أيدينا في بعض الأحيان فرص السعادة الحقيقة التي تتوافق فيها أحكام العقل مع أحكام القلب، لأننا ننكص عن طلبها في الوقت المناسب ونتحمل تبعات ذلك بشجاعة.
عبد الوهاب مطاوع
بريد الجمعة
أنا فتاة في الخامسة والعشرين من عمري على قدر
متوسط من الجمال وقدر كبير من العلم، فأنا خريجة إحدى الكليات المرموقة وأجيد عدة
لغات كما أنني متدينة إلى حد كبير وأؤدي كل الفروض الدينية وأرعى الله في تصرفاتي ..
وأبي رجل ناجح كل هدفه في الحياة أن يوفر لنا ما نتمناه.. أما أمي فهي سيدة لا
توصف بأفضل من أنها أم بكل معنى الكلمة.. وأنا إحدى ابنتين رزق بهما أبواي، فعشنا
معاً حياة سعيدة كأسرة مترابطة ومتحابة والحمد لله. ولكي أصل معك إلى ما أرغب في
استشارتك فيه، فإنه يجب أن أرجع إلى الوراء عشرين سنة.. حيث كانت لي خالة تصغر أمي
بعام واحد، وحدث أن تعرضت مع زوجها لحادث سيارة أليم أودى بحياتهما معاً ولم ينج
من الحادث المؤلم سوى طفلهما الوحيد وكان في الثالثة من عمره في ذلك الوقت، ولما
كان أبي يرغب بشدة في أن يكون له ولد بعد أن رزق بابنتين، فلقد أصر على أن ينتقل
هذا الطفل البريء للعيش معنا وأصبح منذ ذلك الحين أخاً لنا، وأصبحنا نحن الثلاثة
سواسية بالنسبة لأبي وأمي، واعتدت أن أسمع أمي تشير إليه في حديثها معي أو مع
شقيقتي بكلمة "أخوك" فإذا أرادت أن تنبهه إلى موعد المذاكرة طلبت مني أن
أبلغ "أخي" بضرورة أداء الواجب المدرسي واستذكار الدروس، وإذا مرض قالت
لي: أعطي أخاك الدواء في موعده.. فلم نشعر في يوم من الأيام بأي فارق بيننا وبينه،
وأحببناه كما تحب الأخت أخاها وأحبنا هو حباً عميقاً وصامتاً في أغلب الأحيان لأنه
قليل الكلام.
ومرت بنا السنون وبلغنا سن الشباب وفهم الأطفال
السابقون حقائق الحياة، فلاحظت أن مشاعر الأخوة التي يحملها لي "أخي"
هذا قد بدأت تتحول لديه إلى إعجاب مكتوم بي، وأدركت ما طرأ على مشاعره من تطورات
بالنسبة لي، لكني لم أعطه أية إشارة إلى فهمي لذلك، إلى أن جاء اليوم الذي استجمع
فيه كل شجاعته وصارحني بما خشيت دوماً أن يصارحني به، ووجدت نفسي أهرب من المواجهة
وأقول له على الفور إنه أصغر مني بعامين، لكن ذلك لم يكن يعنيه في كثير أو قليل،
وظل على حبه لي يظهره لي تارة، ويكتمه في صدره تارة أخرى، وظللت أنا على موقفي منه
وهو أن ما يجمعني به هو مشاعر الإخوة وحدها، بالرغم من حبي لصحبته وجلسته وضحكته
واهتمامي بكل شئونه.
ومضت فترة ظننت خلالها أنه قد برأ من الهوى.. وظننتني أنا قد نسيت ما حدث ورجعنا شقيقين محبين كما كنا دائماً.. وتمت خطبتي لشخص يكبرني ببضع سنوات وتجمعنا معاً عوامل مشتركة عديدة كالمستوى الاجتماعي والثقافي والمادي فضلاً عن مركزه ومستقبله الذي تحلم به أية فتاة. وأقمنا حفلاً كبيراً للخطبة في مكان عام ورأيتني في هذا الحفل سعيدة وكل من حولي سعداء مثلي.. حتى أخي هذا رأيته سعيداً بي وهنأني من قلبه وقدم لي هدية ثمينة من نقوده الخاصة لأن له مالاً ورثه عن أبويه ويعمل عملاً مرموقاً. ومضت الأسابيع والشهور بعد الخطبة فوجدتني لا أحس بالاقتراب ممن سوف أرتبط به إلى نهاية العمر بالرغم من حبه لي، واقتناعي العقلي به، وعلى الناحية الأخرى فلقد شعرت بأن حمى هواي قد عادت "لأخي" هذا مرة أخرى. وظهر لي أنها لم تفارقه من الأصل خلال الفترة التي ظننته قد برأ فيها منها، ورأيته يتعذب في صمت..
ولكاتبة هذه الرسالة أقول:
ومن الذي قال إن أحكام العقل لابد أن تتعارض
دائماً مع أحكام القلب؟ إنهما كثيراً ما يتوافقان وتوافقهما من علامات التوفيق
الإلهي للموعودين بالسعادة في الأرض، غير أن أحد أسباب الشقاء الإنساني هو أننا قد
نضيع من أيدينا في بعض الأحيان فرص السعادة الحقيقة التي تتوافق فيها أحكام العقل
مع أحكام القلب، لأننا ننكص عن طلبها في الوقت المناسب ونتحمل تبعات ذلك بشجاعة،
أو لأننا في أحيان أخرى قد نفضل أن ندور حول رغباتنا بدلاً من الاعتراف بها
لأنفسنا والمجاهرة بما نرغبه منها ولو تحملنا في سبيل ذلك بعض العناء كضريبة ضرورية
لنيل ما نريد، أو لأننا قد نغمغم لأنفسنا بما نرغبه أحياناً ونترقب من الأقدار أن
تهبه لنا بغير أن نبدو نحن ساعين إليه أو متلهفين عليه، لأننا نخجل من طلبه أو
المجاهرة به.. و "الخياط العظيم لا يقص كثيراً" كما يقول لنا الحكيم
الصيني القديم لو- تسو. وإنما يمضي إلى هدفه المحدد بلا تردد فلا يقطع إلا ما
يتطلبه تحقيق هذا الهدف، أما نحن فإننا "نقص كثيراً" في اتجاهات مختلفة
وبعيدة عن الهدف الذي نتمناه صامتين وننتظر من "يرغمنا" على السعادة
التي نريدها في أعماقنا.. وما تروينه لي في رسالتك هذه مثال جديد على
"القص" بعيداً عن الهدف المنشود، مما لا يثمر دائماً سوى ضياع الجهد
والوقت الثمين بلا طائل، فأنت تكادين لا تنكرين أن مشاعرك العاطفية تجاه ابن خالتك
لم تعد هي نفس المشاعر "الأخوية" السابقة بأي حال من الأحوال، ولا
تنكرين أنك قد بدأت تتجاوبين معه عاطفياً وتشعرين بأنه كما تقولين "جزء لا
يتجزأ من قلبك" وتؤكدين أنك لا تستطيعين تركه وحيداً، لكنك من ناحية ثانية
ترجعين إلى "القص" في الاتجاه البعيد عن الهدف وتقولين إنه لا مجال للحب
بينكما لأنه "أخوك" ولأنه يصغرك في السن!!
والحقيقة التي ينبغي لك أن تعترفي بها لنفسك
وتتحملي تبعاتها بشجاعة أدبية هو أن ما يربطك بهذا الشاب الآن لا علاقة له
بالمشاعر "الأخوية" ولا بما يربط الأخ بأخته.. غير أنك تجفلين من
الإقرار بذلك لأن تجاوبك العاطفي معه لم يبدأ للأسف إلا بعد أن ارتبطت بغيره وتمت
خطبتك له، وإلا بعد أن أتيحت لك فرصة اختبار المشاعر والمقارنة بين ما تشعرين به
تجاهه.. وما لم تشعري بمثله تجاه خطيبك، وبالتالي فإن الإقرار بالحقيقة سوف تكون
له تداعيات غير هينة على المستوى العائلي والاجتماعي، منها ما سوف تشعرين به من
حرج تجاه هذا الخطيب الذي لم يرغمك على القبول به، وتجاه أبويك اللذين
لم يفرضاه عليك، وما يترتب على كل ذلك من أعباء فسخ الخطبة وتحمل اللوم العائلي من
أسرة الخطيب وأسرتك على السواء.. وليس حديثك عن اختيار العقل الذي يتعارض مع
اختيار القلب سوى ضرب آخر من خداع النفس، لأن فتاك لا يصغرك في السن سوى بعامين
فقط لا غير وهما فارق هين في السن يمكن احتماله ولا يؤثر جدياً على نجاح العلاقة
الزوجية إذا استقرت سفينتك في مرفئه.. كما أنه يماثلك في المستوى العائلي
والاجتماعي والعلمي، ويفضل غيره بما ينطوي عليه لك من مشاعر أصيلة عميقة لا يبدو
معها في الأفق القريب أي احتمال لأن تتحول عنك أو تسلم باليأس منك.. كما أن علاقتك
العائلية به أبدية، ولسوف يظل موجوداً بشكل أو بآخر في أفق حياتك العائلية إذا
تزوجت غيره.. وقد ينذر ذلك بتحول المشاعر المكتومة الآن إلى علنية غداً، وقد يرشحك
هذا للضعف العاطفي معه في المستقبل، ويورثك الندم على أنك لم تتحملي العاصفة
مبكراً وتصححي مسار حياتك من قبل البداية، فلماذا كل هذا العناء وتصحيح الأخطاء في
بدايتها أيسر كثيراً من محاولة تصحيحها بعد الزواج والإنجاب؟!
إن حياتك الآن من صنع يديك وعقلك وأفكارك..
وتستطيعين أن تحسني الاختيار لها، أو العكس، ولست بناصحك بأن تتسرعي بفسخ خطبتك
الحالية ومواجهة العاصفة العائلية التي لا مفر منها، وإنما سأنصحك فقط بأن تواجهي
نفسك مواجهة صريحة وحاسمة، وأن تجري معها حواراً عقلانياً هادئاً تحددي بعده حقيقة
مشاعرك تجاه هذا الشاب المتيم بك، وحقيقة رغباتك بشأن حياتك، فإذا أسفرت المواجهة
عن رغبتك في استكمال المشوار مع خطيبك ومحاولة بعث شرارة العاطفة في قلبك تجاهه،
فعليك أن تتوجهي بجماع نفسك إلى هذه المحاولة وأن تكفي عن كل ما يشرد بك بعيداً
عنها أو يشوش عليها من قبيل الكلمات والهمسات الحميمة مع ابن خالتك وقضاء الأوقات
الطويلة معه.. والتغلغل في تفاصيل حياته وشئونه.. إلخ.. أما إذا أسفرت عن الاعتراف
لنفسك بأنك تبادلين هذا الشاب مشاعره.. ويصعب عليك الافتراق عنه، فلابد أيضاً من
أن تمضي في الطريق الذي يجمع بينك وبينه بالرباط المقدس وأن تتحملي تبعات هذا
الاختيار بشجاعة وتدفعي ضريبته راضية.. فذلك أكرم وأفضل لك من التمزق العاطفي بين
خطيبك وبين هذا الشاب الذي يبدو أنه قدرك في الحياة كما أنك أنت بالمثل قدره، وهو
أيضاً أكرم وأفضل لخطيبك من أن ترتبطي به ومشاعرك العاطفية تتجه إلى غيره مما قد
يرشحك للخطأ معه في المستقبل.
لقد كان الأديب الفرنسي بلزاك يقول إن ميلاد الحب
كولادة طفل.. عسير لكنه بهيج!
فلتكن إذن العاصفة العائلية الناجمة عن فسخ الخطبة
إذا استقر اختيارك على ابن خالتك، هي آلام هذه الولادة.. ولتكن بهجتها هي العزاء
لك عنها.. وفي كل الأحوال فإني لا أنصحك أبداً بالارتباط بشاب ما مهما تكن
ميزاته.. ورضاء العقل عنه، ومشاعرك العاطفية أسيرة لدى شاب آخر لا يعترض عليه
العقل كذلك، وتتوافر فيه أيضاً كل المزايا ولا يعيبه "ظاهرياً" في نظرك
سوى أنه يصغرك بعامين.. وإنك تخجلين من الاعتراف لنفسك بحبه بعد أن رفضته من قبل
وارتبطت بغيره وعلم الجميع بهذا الارتباط المعلن.
شارك في الإعداد / محمد محمود
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر