دائرة الجحيم .. رسالة من بريد الجمعة عام 1988

 

دائرة الجحيم .. رسالة من بريد الجمعة عام 1988

دائرة الجحيم .. رسالة من بريد الجمعة عام 1988


أنا طبيب في الأربعين من عمري اعمل في إحدى الدول العربية وقد نشأت في بيئة ريفية متدينة غاب عائل الأسرة فيها وأنا في العاشرة من عمري فاحتضنتا أمي المكافحة وعشنا بمعاش أبي الضئيل ومرتب آخي الأكبر إلى أن التحقت بكلية الطب وانتقلت الأسرة للإقامة في المدينة ثم تخرجت طبيبا وتزوج أخي الأكبر من فتاة من أسرة طيبة .. فتعرفت خلال الخطوبة على شقيقتها الصغرى وكانت طالبة بكلية الطب وأعجبت بها وتقدمت لخطبتها .. وطالت خطوبتي لها ست سنوات نما خلالها الحب بيني وبينها وتم الزواج ووجدت في زوجتي إنسانة جميلة مخلصة ذكية مرهفة الحس حبها من النوع الصامت الذي لا يتكلم لكنه يعبر عن نفسه بالإحساس والتصرف .. فسعدت بها كثيرا واطمأن بها جانبي بعد رحلة الكفاح الطويلة التي عشتها وتحسنت ظروفنا بعد الزواج فانتقلنا للعمل كطبيبين في إحدى الدول العربية .. وأنجبنا طفلين ومضت بنا الحياة هادئة لا يعكر صفونا فيها شيء حتى الخلافات البسيطة الموجودة تحت كل سقف لكني بدأت ألاحظ أن حساسيتها تزداد يوما بعد يوم وبدأت بمشكلة الأرق الذي ينتابها ليلا ثم بمشكلة الأحلام التي تقول أنها تتحقق فورا ثم تفاقمت بمشكلة أخرى غريبة كادت تفسد حياتنا.

 

فزوجتي يا سيدي تمشي وهى نائمة أو هي تعتقد ذلك وصارحتني بذلك بعد عناء شديد مني لمحاولة معرفة ما تعاني منه بعد أن لاحظت أنها تحاول تجنب النوم ليلا خوفا من أن تمشي وهي نائمة فتاتي عملا يسيء إليها والى اسمها والى زوجها، وقد اعترفت لي بذلك بعد أن لاحظت أنها مهمومة دائما بالبحث عن إجابات لأسئلة غريبة .. هذا الرجل في الطريق لماذا ينظر إليها .. هذا الآخر الذي يتمشى أمام العمارة ذهابا وإيابا لماذا يتمشى أمام عمارتنا نحن بالذات .. سيارة الأجرة هذه لماذا تقف أمام عمارتنا .. هذه الجارة لماذا لم تبتسم في وجهها .. هذه الأسرة التي كانت تسكن في مواجهتنا ولا تعرفها ولا تعرفنا لماذا انتقلت من الشقة المقابلة لنا إلى عمارة أخرى .. هذه المريضة التي دخلت إلى غرفة الفحص بالمستشفى لماذا اتجهت إلى زميلتها ولم تتجه إليها هي .. لابد أن كل هؤلاء رأوها وهي تمشي نائمة ليلا وتأتي فعلا غير لائق أو عرفوا عنها شيئا وأصبحت تشك في كل شخص وفي كل حركة وكل إشارة ورسخت الفكرة في أعماقها حتى أصبحت تعتقد أنها إذا نامت ولو لنصف ساعة في النهار أنها سوف تمشي نائمة.

 

ولم اسكت على هذا الحال وحاولت مرارا أن أفسر لها كل ما تراه يحتاج إلى تفسير واتفقت معها على أن أغلق باب الشقة بالمفتاح وأن أخفيه في مكان لا تعرفه فإذا نهضت ليلا كما تقول لم تستطع الخروج من الشقة.

 وبدأت أنفذ ذلك واستراحت قليلا لكن الأمر لم يتوقف فمثلا لو نهضت من نومها ووجدت فردة الشبشب في غير مكانها إذن فقد سارت وهي نائمة وربما خرجت إلى الشارع واقسم لها أنها لم تخرج وأن طفلنا قد يكون الذي حرك الشبشب من مكانه بلا فائدة .. إذا لماذا ينظر إلي هذا الرجل هكذا.

وتحولت حياتنا إلى جحيم .. وفي أول إجازة لنا عرضتها على أحد أساتذة الطب النفسي في مصر فهدأ من روعها وأكد لها أن ما تعتقده أوهام وتهيؤات وأنها حالة مرضية معروفة وعلاجها معروف، لكنها خرجت من عنده تتساءل وكيف يعرف أنني لم اخرج ليلا ، وتفاقمت المشكلة وانعكست على حياتنا وعلى علاقتنا بشكل كبير وأصبح كل منا لا يطيق أن يكلم الآخر وحار الطفلان الصغيران بيننا.

 إنني متمسك بحبيبتي وشريكة عمري وأم طفلي ولا أفكر سوى في إنقاذها وإنقاذ بيتي وأولادي .. فهل لديك ما تشير به علي وهل لدى الأطباء من قراء الصفحة ما يمكن أن يفيد في هذا الموضوع على أنه مما يزيد من تعقيد المشكلة أن زوجتي وهي طبيبة لا تعتقد في كلام الأطباء أي أن الرفض الداخلي موجود لديها للعلاج فماذا افعل يا سيدي

 

ولكاتب هذه الرسالة أقول :

 أكبر دليل على حاجتها للعلاج النفسي هو رفضها الداخلي وهي الطبيبة للعلاج وعدم إيمانها بما يقوله الأطباء حول مرضها .. إنها فيما أتصور حالة وسواس قهري يلح عليها بأفكار ضلالية أي غير صحيحة تهدد سلامها وتسلمها للقلق النفسي وتصور لها ما تتوقعه أمر واقع لا يقبل التشكيك فيه وهذا عرض نفسي معروف وموصوف وله علاجه لدى المتخصصين فكيف ترفض الطبيبة التي تعرف أن لكل داء دواء إلا الحماقة التي أعيت من يداويها تطبيق هذه القاعدة العلمية على حالتها الشخصية.

.

إنني سأنقل لك كل ما أتلقاه من رسائل من السادة الأطباء النفسيين لتستفيد بها في إقناعها بالتماس العلاج والصبر عليه حتى يؤتي ثماره ولابد أن توطن نفسك على ذلك لأن أوجاع النفس أطول علاجا من أوجاع الجسم، وفي كلا الحالين لابد من أن تتوافر لدى الإنسان إرادة الشفاء والرغبة فيه فواصل كفاحك معها لإنقاذها من نفسها ولا تفقد صبرك عليها لأنها في محنة تحتاج فيها إليك أكثر مما تحتاج إليك في أيام الصفاء .. والسعادة قيمة كبرى تستحق أن نشقى للدفاع عنها حين تتعرض للخطر .. وهكذا الحياة يا صديقي لا أحد يعرف من أين ستهب عليه عواصفها من غوائل الدنيا هل من داخل نفسه أم من الآخرين فلا تفقد الأمل فسوف يتحقق لها الشفاء ويعود طائر السعادة إلى عشكما الصغير مرة أخرى بإذن الله.

رابط رسالة دوائر الجحيم تعقيبا على هذه الرسالة

نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1988

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي

 


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات