الملاك النائم .. رسالة من بريد الجمعة عام 1993

 

الملاك النائم .. رسالة من بريد الجمعة عام 1993

 

استحلفك بالله ألا تهمل خطابي هذا أو تتجنبه لأني في أشد الحاجة إلى كلمة منك تخفف عني ما أنا فيه ولكلمة أو كلمات من قرائك الذين مروا بنفس التجربة فينقلون إلي

خبرتهم معها ويساعدونني على مواجهتها.

وبعد فأنا سيدة في الثلاثين من عمري تزوجت بعد قصة حب اعترضتها العقبات والصعوبات الكثيرة وتغلبنا عليها في النهاية وتزوجت ممن أحببت وأحسست بأن الحياة قد عوضتني عن كل ما لقيته من عناء , وبلغت سعادتي ذروتها حين دب جنين الحب في بطني بعد زواجنا مباشرة ووهبني الله طفلا جميلا ملأ حياتنا ودرج في بيتنا بعد شهور فظهر ذكاؤه وخفة ظله منقطعة النظير, وأصبح هذا الطفل بعد قليل محور حياتي كلها أعيش له ومن أجله .. فإذا مرضت تحاملت على نفسي ولم أستسلم للفراش لكي أنهض وأقوم له بكل شئونه وألبي له طلباته وأضحك معه وأداعبه , وأدعو ربي دائما أن يطيل في عمري لأربي هذا الطفل وأحميه من أي إحساس بالحرمان .

ثم يتمادى بي الخيال فأتخليه وقد كبر وانتقل من الطفولة إلى الصبا إلى الشباب وتعلم أرقى تعليم وشغل أكبر المناصب .. وبلغ طفلي من العمر ثلاث سنوات فكان يدهشني بتصرفاته وذكائه فهو رجل صغير يملأ علي حياتي وليس طفلا عمره ثلاث سنوات , وهو معي في معظم الأوقات يحدثني ويساعدني في أعمال البيت ويحضر لي الدواء إذا كنت مريضة أو متعبة , كما أنه طفل محبوب من كل من يراه ويتعامل معه بطريقة عجيبة .. وقد سعدت به كثيرا واطمأن جانبي وخفف عني وجوده كل ما يعترض طريقنا من عقبات .. إذ كلما واجهتنا أية عقبة أو مشكلة قلت لنفسي الحمد لله أننا نحن الثلاثة معا والحب يجمع بيننا.

 

 وفي آخر أيام شهر أغسطس الماضي كنت مع زوجي في انتظار زيارة من أهله في المساء .. واستيقظ ابني الحبيب من نومه بعد الظهر ليستعد للزيارة .. فنهض من فراشه يرقص ويغني ويضحكني بتقليده لأحد المطربين الشباب , ويملأ البيت بالصخب اللذيذ ثم جلس في حضني بعض الوقت ممسكا بيدي واستأذنني في أن ينزل إلى حديقة الشارع المجاورة للعمارة ليلعب بها مع أصدقائه بعض الوقت إلى حين وصول أقارب أبيه , وسمحت له بذلك وتركته يغادر شقتنا في الدور العاشر مع رجل كان عندنا وقتها وأغلقا الباب وراءهما فإذا بي أسمع بعد لحظة واحدة صراخا عاليا من الرجل الذي اصطحب ابني , فخرجت أنا وزوجي لنعرف ما حدث .. فإذا بنا نرى الرجل ممسكا بباب المصعد المفتوح .. وابني ليس موجودا معه!

ووقفت ذاهلة وغيرة قادرة على استيعاب الموقف أو فهمه .. وأحسست بفقد الوعي وأنا مستيقظة وسألت زوجي عما حدث فلم يجب بشئ وإنما جري مهرولا على السلالم فجريت وراءه وأنا أصرخ ابني .. ابني !!

بغير أن أعرف ما حدث حتى وصلت إلى مدخل العمارة ووجدت أشخاصا كثيرين وزوجي يصرخ صراخا يمزق القلب فأدركت هول الكارثة التي وقعت ولم أتخيلها لحظة واحدة .. واخرجوا ابني الحبيب الجميل من فوق المصعد ونظرت إليه فوجدته كالملاك النائم لا يصدق أحد حين يراه أنه سقط من الدور العاشر إلى الهاوية في الدور الأرضي .. فجسمه سليم ووجهه ملائكي وهادئ .. ولم أصدق أبدا أنه قد رحل عن الحياة وأسرعت به إلى مركز طبي قريب من بيتنا وأنا على يقين من أنه على قيد الحياة لكنه مغمى عليه من أثر الصدمة وفحصوه سريعا في المركز الطبي ثم قالوا في عطف : عودي به إلى البيت يا سيدتي فرجعت به وأنا أقبله القبلة الأخيرة ولا أتخيل ولا أصدق أنه سيفارقني وهو ابن عمري وحياتي إلى الأبد وأنه لن ينام في حضني كل ليلة كما كان يفعل أو أني سأعود إلى البيت ذات يوم فلا يقابلني بالأحضان والقبلات وبضحكة السعادة النابعة من القلب التي تملأ وجهه.

إنني لا أصدق شيئا مما يدور حولي يا سيدي وأرجوك ألا تتهمني بأني كافرة فأنا مؤمنة بالله سبحانه وتعالى وأعرف جيدا أن لله ما أعطي ولله ما أخذ لكني عبده ضعيفة في النهاية ولا أستطيع تحمل ما حدث ولن أكفر بربي وحاشاي أن أفعل لكني أم وأفكاري الحزينة تغلبني على أمري كثيرا فأجد نفسي أتساءل بغير كلام لماذا يحرم طفل صغير كطفلي من أمه وتحرم أم مثلي من طفلها ؟ صحيح أن هناك حكمة لله سبحانه وتعالى في ذلك لكني لست عالمة دين ولا فقهية وإنما أم مكلومة وحزينة وكل ما أرجوه من ربي هو أن يقرب يومي حتى ألقى ابني الحبيب بين يديه .. ولقد قرأت في بابك رسالة الأم الحزينة التي فقدت ابنها الشاب في بريد الجمعة منذ أسابيع وأؤيدها بكل ألمي في دعائها إلى الله أن يعجل للأم بأجلها قبل أن يأخذ فلذة كبدها .. فادع الله لنا بذلك يا سيدي وشكرا لك على صبرك على رسالتي لأني أكتب لك كما أتكلم مع نفسي .. ولأني لم أتكلم مع أحد منذ وقعت الكارثة في حياتنا ولا أفعل شيئا سوى البكاء الصامت والصلاة.

 إنني أرجو منك في النهاية أن تسأل لي رجال الدين عن مصير الأطفال الصغار الذين يرحلون عن الحياة وأين يكون مأواهم في العالم الآخر ؟! .. كما أرجو أن يدعو لي الله قراؤك بلقاء ابني الحبيب وأن يجمع شملنا في رحابه .. وأخيرا كيف يُفتح باب المصعد وهو غير موجود وكيف يقبل هذا الاهمال من شركة من أكبر الشركات ومن المسئول عنه ؟ ومعذرة لاضطراب أفكاري وحيرتي والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

 

جميع الحقوق محفوظة لمدونة "من الأدب الإنساني لعبد الوهاب مطاوع"

abdelwahabmetawe.blogspot.com

 

ولكـــاتـــبة هـــذه الـــرســـالــة أقــول :

 

بل سأدعو لك بأفضل مما أردت مني وأقرب إلى مرضاة ربك , فأدعو لك بالصبر وبأن يمسح الله على جراحك وآلامك ويطفئ نيرانها ويخفف عنها لهيبها , وبأن يعوضك ربك عمن فقدت ويجزيك عن بلائك بخيري الدنيا والآخرة بإذن الله .. فالصبر هو دواؤك يا سيدتي وليس تمني الموت الذي نهينا عنه مهما كانت جراحنا وآلامنا ؟. والإمام أبو حامد الغزالي يقول : إننا مأمورون بالصبر على كل ما نكره لكن كل بلاء يقدر الإنسان على دفعه عن نفسه فإنه لا يؤمر بالصبر عليه كمن ساءه ترك الماء مع طول العطش فإنه لا يؤمر بالصبر عليه بل بإزالة الألم .. إنما يكون الصبر على الألم الذي لا يملك المرء دفعه عنه . وأي ألم لا يملك الإنسان دفعه عن نفسه أكثر من ألم الثكل خففه الله عنك وعن كل المبتلين ؟ وأي جزاء وأي بشرى للصابرين عليه أكبر من جزائك وبشراك عنه رب العالمين ؟

 

لقد كتبت كثيرا عن حكمة الألم الإنساني وعن الحكمة الإلهية التي تخفى عن الأفهام في فقد الأعزاء صغارا وكبارا ولا أريد أن أكرر ما قلته عنهما بل إني لأعتذر صادقا لكل المجروحين ومن سوف تنكأ رسالتك هذه جراحهم القريبة عن نشرها.

فو الله إني قد أردت عدم نشرها استجابة لطلب البعض منهم لكني لم أستطع أن أرفض رجاءك أو أن أضن عليك بمشاركتك أحزانك وهو ما لا أملك لك للأسف سواها .

ثم أجيب عن تساؤلك عن مصير الأطفال الصغار الذين يرحلون عن الحياة ولم يرتكبوا إثما ولم يقترفوا خطيئة بأن مآلهم الجنة ونعم المصير إن شاء الله بإجماع المفسرين .. وأنهم عند ربهم في جنات وعيون .. كما يرى بعض المفسرين أنهم سقاة الجنة المقصودون بالآية الكريمة من سورة الواقعة :"يطوف عليهم ولدان مخلدون * بأكواب وأباريق وكأس من معين"

وبعد ذلك أقول لك يا سيدتي أنه لا خلاص للإنسان من أحزانه إلا بالتوجه إلى الله تعالى .. والتسليم بقضائه وقدره .. وإعانة النفس على تحمل تصاريف القدر بالتشاغل عن الأحزان والإنخراط في العمل والنشاطات الاجتماعية المختلفة، والتماس أسباب التسرية عن النفس بكل وسيلة مشروعة .. لأن المحزون إنما يحتاج إلى التسرية عنه بأكثر مما يحتاج إليها الخالي .

والخطأ الذي نرتكبه في حق أنفسنا هو أن نستسلم للأحزان بلا نهاية فنضاعف من خسائرنا بدلا من أن نقلل منها , وبغير أن يعوضنا الاستسلام للحزن عمن فقدنا , والحياة لابد أن تستمر في النهاية مهما كانت الآلام والأحزان ولن يضيرنا إن نحن أنسحبنا وانطوينا على أحزاننا وجراحنا لكن ذلك يضر بنا نحن ويقلل من قدرتنا على احتواء الألم والتكيف معه وأنت مازلت في مقتبل العمر .. ولسوف يعوضك ربك عن الملاك الراحل .. بملائكة آخرين ترفرف أجنحتهم الصغيرة على أحزانك فتطفئ نيرانها بإذن الله .. فاصبري يا سيدتي "إنما الصبر عند الصدمة الأولى" كما جاء في الحديث الشريف .. ولسوف يدخل ما يشق علينا احتماله الآن لقرب العهد في دائرة الاحتمال الإنساني للألم بعد حين فاصبري وتقبلي أقدارك وأعيني نفسك عليها .. وتوجهي إلى ربك بدعاء سيدنا أيوب "إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين" وبدعاء سيدنا يعقوب حين لاموه على حزنه على فقد يوسف "إنما أشكو بثي وحزني إلى الله" .. فيرفع عنك ربك ما مسك من ضر .. ويخفف من آلامك ويجزيك عمن فقدت خير الجزاء إن شاء الله.

نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" أكتوبر 1993

كتابة النص من مصدره / بسنت محمود

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي

 

Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات