فتاة المكتبة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1993


فتاة المكتبة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1993

فتاة المكتبة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1993

 أريد أن أروي لك قصتي .. وأن أستعين برأيك الصائب على مواجهة ظروفي.

 نشأت في أسرة من سبعة أبناء يحبون بعضهم بعضا بفضل أب حنون وأم قوية لكنها طيبة أيضا .. وقد أغدق علينا أبي "الذي كان يعمل سائقا" من حبه وحنانه الكثير حتى بلغت من العمر ستة عشر عاما فرحل عنا مودعا منا بالحزن والحب والعرفان له بما قدمة لنا في حياته .. وتجهمت لنا الحياة بعد رحيله كثيرا فعرفنا شظف العيش وقسوته ونحن أربع فتيات وثلاثة إخوة كلنا في مراحل التعليم المختلفة وكان نصيبي وأنا سادسة الأبناء في الترتيب أن أتحمل مسئولية الأسرة حتى لا تتوقف مسيرة اخوتي في التعليم , فاستأجرنا محلا بالقرب من مسكننا وبدأنا فيه تجارة صغيرة للأدوات المكتبية , ووقفت في هذه المكتبة الصغيرة وأنا في بداية المرحلة الثانوية , ونظمت حياتي ووقتي بحيث لا تعوق دراستي .. وبعد شهور قليلة أصبحت المكتبة هي مورد دخل أسرتي الوحيد وأستقرت حياتنا بعض الشئ , وما أن بدا لنا أننا قد بدأنا نتحمل ظروفنا القاسية حتى فوجئنا بوفاة أخي الأكبر وهو في ريعان شبابه رحمه الله , فكانت الصدمة الأخرى القاسية التي زلزلت كياننا بعد وفاة أبي وانهارت معها أمي لكن الحياة كان لابد لها أن تمضي رغم الأحزان والصعوبات , فبدأنا نتماسك من جديد .. ويبذل كل منا جهده لمساعدة الأسرة من جانبه والتخفيف عن أمنا , ومضت الأيام بحلوها ومرها وتعاونا جميعا على ظروفنا وواصلنا التعليم وتزوجت شقيقتان لي أرهقنا أنفسنا غاية الارهاق لكي نشرفهما أمام أسرتي زوجيهما , ثم بدأنا مرحلة أخرى من المعاناة مع مرض أختي الثالثة وأمي وخرج الشقيقان اللذان بقيا على قيد الحياة كل في اتجاه , ليساعدا في تحمل عبء مسئولية الأسرة , ونفقات العلاج , لكن حظي كان أوفر من حظهما في العمل , فلم يستطيعا الاسهام إلا بأقل القليل في مسئولية الأسرة وتحملا بصعوبة مسئولية اعالة نفسيهما , وتنبهت أمي في وسط ذلك كله إلى أن العمر يسرقني ولم أرتبط بعد بأحد أو أبدأ مشروعا للزواج , وللحقيقة فإنه لم يتقدم لي من يستطيع ولو بقدر ضئيل أن يتحمل معي مسئولية أمي وأختي.

 ومنذ شهرين فاتحني جاري الذي يلمس ظروفنا جيدا ويتعاطف معنا بأنه رشحني لشاب ممتاز يعمل بوظيفة مرموقة استشاره في اختيار عروس له .. وطلبت من جاري أن أراه قبل أن أبدي رأيي في الأمر , ورأيته مع جاري الطيب وبموافقة أمي ووجدت نفسي أمام شاب رزين متدين طيب القلب وصريح للغاية وقد حدثني عن كل صغيرة وكبيرة في حياته بصدق واخلاص , وروي لي أنه تزوج من قبل لكن زوجته قد خانته وسرقته خلال 3 شهور فقط من الزواج , فطلقها منذ عامين وفقد ثقته بالحياة وأصيب بأزمة نفسية قاسية لم يخرجه منها سوى سيادتكم .. فلقد كتب إليك بقصته وردتت عليه أن خيانة زوجته عار عليها هي وليست عارا لك أنت , وإن من خانتك وسرقتك وغدرت بك خلال أسابيع قليلة من الزواج لا تستحق منك لحظة أسى واحدة , بل عليك أن تشكر ربك الذي أنقذك منها وكشفها لك وأنت في بداية حياتك وقبل أن تنجبا ويكون للزواج ضحايا تتحمل مسئوليتهم حتى آخر العمر .. كما بشرته في ردك بأن الله سبحانه وتعالى سوف يعوضه عما لقي من غدر وخيانة وخسة بالزوجة الصالحة التي تنسيه آلامه وتعيد إليه ثقته في نفسه وفي الخير والحياة .

وصارحني هذا الشاب بأن أزمته لم تتوقف فقط عند صدمته في زوجته السابقة , فلقد أخفى أسباب الطلاق الحقيقية عن أمه فلم تعرف بما فعلت وحزنت فقط لسوء حظه ولهمومه إلى أن سمعت حديثا عابرا بينه وبين شقيقه حول هذا الأمر .. عرفت منه ما كان من أمر زوجته معه , فسقطت مريضة لساعتها وأصيبت بالشلل حزنا على ابنها الطيب المصلي الذي لم يؤذ أحدا في حياته فآذته تلك السيدة وطعنته في كرامته وكسرت قلبه .

وأحسست حين سمعت منه كل ذلك وتأكدت من صحته أنني قد أصبحت "مسئولة" عن هذا الشاب الطيب وعن إسعاده وإعادة الثقة له في الحياة .. وكانت أمي على سفر فانتظرت عودتها مع شقيقي لاصارحهما بموافقتي على الارتباط به بل وبرغبتي الشديدة في ذلك , والتقى شقيقي به فصارحه الشاب بكل شئ كما صارحني من قبل , فما أن علمت أمي بقصة زواجه السابق حتى رفضته باصرار ودون نقاش .. وعاد شقيقي من لقائه به فلم يتوقف طويلا عند قصة زواجه السابق , لكنه توقف عند حديث الشاب عن أمه المريضه التي لا يستطيع أن يتخلى عنها وكيف كانت محور حديثه معه , وانتهى إلى رفضه اشفاقا علي من خدمة أمه المشلولة بعد الزواج .

وأنا يا سيدي لا أرى في زواجه السابق , ولا في وجود أمه المريضة معنا بعد الزواج ما يحول دون زواجي به وسعادتي معه .. بل لعلي آمل أن يجزيني الله سبحانه وتعالى عن خدمة أم زوجي خير الجزاء فيكتب لي السعادة والاستقرار والأمان في حياتي الجديدة .

كما أرغب بصدق في أن أكون تلك الزوجة الصالحة التي ستنسيه آلامه والتي بشرته بها في ردك عليه منذ عامين .. وأمي ترفض الحديث في الأمر من الأصل وتغلق باب النقاش فيه .. وأنا أناشدك أن تكتب كلمة تقول لها فيها أن الزواج السابق ليس جريمة وأن خدمة أم الزوج المريضة ليست عقبة تحول دون السعادة والهناء.

لقد حزن هذا الشاب حزنا كبيرا حين عرف برأي أخي وأمي فيه , وأنا أشعر أنني لن أجد سعادتي مع شخص آخر سواه .. فهل تساعدني في اقناع أمي وأخي به ؟.. مع عظيم شكري وتقديري لك .

جميع الحقوق محفوظة لمدونة "من الأدب الإنساني لعبد الوهاب مطاوع"

abdelwahabmetawe.blogspot.com

 

ولكــاتـــبة هـــذه الــرســالــة أقـــول :

 

كلما زاد حبنا .. زاد خوفنا على من نحب !

هذه حقيقة نفسية معروفة .. وهى تعبر عن نفسها تماما في قصتك .. فرفض أمك لزواجك من هذا الشاب الطيب مبعثه في الأصل حبها لك وخوفها عليك من الارتباط بإنسان ترى أو تتخوف من أن يكون إقدامه على الطلاق بعد شهور من زواجه الأول مؤشرا لاستسهاله الطلاق في المستقبل والجرأة عليه .. وهذا هو التفسير الوحيد المقبول لتخوف بعض الآباء والأمهات من ارتباط أبنائهم وبناتهم بأشخاص سبق لهم الزواج ولم ينجبوا من قبل وهو تفسير له أسبابه المنطقية المفهومة لدى الآباء والامهات الذين يطلبون لأبنائهم دائما الأفضل والأرفع , ويتمنون لو استطاعوا أن يحصنوا أبناءهم بكل أنواع الاحتياطات والتأمينات ضد غدر الأيام , لكنه من ناحية أخرى تفسير قابل للنقاش ولا يصلح أن يكون حكما عاما نطلقه على كل من صادف أو صادفت سوء الحظ في زواج سابق .. بل لعله لا يصدق إلا على حالات قليلة جدا يتكرر فيها الزواج والطلاق لأكثر من مرة خلال فترة قصيرة من العمر وبغير أسباب قهرية لا مفر منها .. ففي هذه الحالات فقط يحق لنا التخوف من استسهال الطلاق والجرأة عليه .. ويحق لنا أيضا أن نتحرى جدية راغب الزواج واستفادته من دروس الفشل السابق قبل أن نمنح تأييدنا له.

 أما في حالة فتاك فليس هناك ما يدعو أبدا لمثل هذا التخوف ولا تفسير لما لقيه من غدر وآلام في زواجه السابق سوى سوء الحظ وسوء الاختيار اللذين ربطا حياته لفترة بمن لم تكن تستحقه .

ولقد قلت مرارا أن من واجه سوء الحظ والفشل في تجربة زواجه الأولى .. رجلا كان أم سيدة يكون عادة أحرص على نجاح زواجه من الثاني ممن لم تسبق له تجربة الزواج ولم يتجرع مرارة الفشل والاحباط , كما أنه ليس من العدل ولا من الرحمة في شئ في أن نجلد انسانا بخطأ غيره في حقة أو بعدم رعايته لحدود ربه في علاقته به , فهو ضحية وليس جانيا , والعقاب إن كان ثمة عقاب ينبغي أن يتوجه للجاني وليس لضحيته , والحق أنني لا أرى مبررا مقبولا لرفض أمك له سوى تمنياتها المفهمومة لك ككل الأمهات بأن تعطيك الحياة أفضل ما تقدمه للآخريات , فهو شاب طيب القلب نقي السريرة ولقد تألمت لقصته المحزنه حين قرأتها في رسالته وتمنيت له مخلصا أن يهبه الله سبحانه وتعالى من تعرف له قدره وتمسح عنه أحزانه وآلامه وتعيد إليه ثقته في نفسه وفى الحياة , وأحسب أنك ستكونين جائزة السماء التي تعوضه عن كل ما عانى في تجربته الأولى بروحك المعطاءة واحساسك الفطري "بالمسئولية" عن كل من يرتبطون بك , وأرجو أن تراجع أمك نفسها طويلا في رفضها له وأن تسلم لك بحقك في الاختيار خاصة وقد بلغت من العمر ما يؤهلك لحسن الاختيار , وأضافت المسئولية التي تتحملينها بأمانه عن أسرتك منذ الصغر إلى عمرك الحقيقي خبرة ثمينة بالحياة ونفوس البشر .

أما رفض شقيقك له إشفاقا عليك من عناء خدمة أمه المريضه , فهو أيضا مبعثه الحب لك والخوف عليك , وهو رفض يحق لك أن تعتزي به إلى جانب اعتزازك برفض أمك لأنهما يترجمان حبهما لك وهمهما بأمرك .

لكنه من حقك أيضا بعد الاعتزاز والشكر أن تستأذنيهما في مناقشته والاختلاف معه . فأنت وحدك رغم تقديري لرأي أمك وشقيقك التي تملكين أن تقرري ما إذا كنت تستطيعين تحمل أمانة رعاية أم فتاك بغير ضجر أم لا بعد الزواج , وحديث فتاك عن أمه الذي أزعج شقيقك , ينبئ عن أمانة هذا الشاب وسلامة فطرته وقيمه الدينية والأخلاقية , ولو أعاد شقيقك التفكير في هذا الحديث لوجد فيه ما كان ينبغي أن يحفزه على الموافقة , وليس على الاعتراض , فمن لا يتخلى عن واجبه تجاه أمه المريضه لن يتخلى عن زوجته التي ترعى ربها في علاقتها بها وتحسن معاملتها وتخلص له ولها العطاء .

ومع مثل هذا الشاب له أن يأمن على شقيقته وأن يطمئن إلى أنه لن يظلمها ولن يغدر بها .. ونصيحتي لك في النهاية هي ألا تيأسي عن محاولة اقناع أمك بفتاك وبرغبتك فيه واطمئنانك إليه . فهي بقوة شخصيتها حجر الزاوية في هذا الموقف , وإذا اقتنعت بأنك ستجدين سعادتك مع هذا الشاب , كما آمل فلن يتمسك شقيقك بمعارضته طويلا وسوف يتنازل عنها اكراما لك وآملا في سعادتك .. فلقد عارض حبا لك .. وسوف يتنازل عن معارضته أيضا حبا ووفاء لك .

وأصعب الأهداف إنما تتحقق في النهاية يا آنستي بالمثابرة والدأب والصبر والاستمرار في بذل الجهد لتحقيقها .. فلا تتوقفي ولا تيأسي .. وسوف يكلل الله جهودك بالنجاح والسعادة والأمان بإذن الله .

نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" ديسمبر 1993

كتابة النص من مصدره / بسنت محمود

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي

 

 

Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات