الرقص بالعصا .. بقلم / عبد الوهاب مطاوع "كتاب أرجوك أعطني عمرك"

 الرقص بالعصا .. بقلم / عبد الوهاب مطاوع

الرقص بالعصا .. بقلم / عبد الوهاب مطاوع

 علمني صديقي المحامي الفرنسي الذي يقترب من سن الثمانين درساً جديداً من دروس الحياة !

فلقد رجعتُ إلى مصر وكتبت عنه المقال السابق بمجلة الشباب بعنوان " إزيك يا ادلعدي " إشارة إلى العبارة التي استقبلني بها حين تعرفت به لكي يقنعني بأنه مازال يتذكر العبارات العامية المصرية ولغة أولاد البلد .

ثم جرفتني مشاغل الحياة , فلم أدر ذات يوم إلا وهذا المحامي الفرنسي يتصل ببيتي في غيابي ويبادر ابنتي – التي ردت عليه – بحديث ضاحك بالعامية المصرية يطلبُ منها في نهايته أن تشكرني على ما كتبته عنه , لأنه  قد قرأ " المكال " في باريس وسعد به كثيرا , وعلمتُ من الأصدقاء المشتركين أنه قام بتصويره 30 صورة وزّعها على أصدقائه ومعارفه , مؤكداً لهم أنه المقصود بهذا المقال .

 

ثم مضتْ شهور ورجعتِ السيدة المصرية التي عرَّفتني به في زيارة لبلدها , فإذا بها تحمل إليَّ خطاباً قصيراً منه باللغة العربية يبثني فيه أشواقه ويسأل متى يتجدد اللقاء , ومع الخطاب هدية ..تأملتها طويلاً وضحكتُ لها كثيراً , فلقد أرسل إليّ قميصاً من اللون الأخضر الزاهي .. و " كرافت " خضراء اللون زاهية .. كأنما يقول لي بهديته : إنه مازال شابّاً بِغَضِّ النظر عن حكم السنين , ويحب أن يكون الأصدقاء شبابا مثله !

ولم أتعجب لذلك كثيراً ..فهو يرتدي مثل هذه الألوان الزاهية .. ويسير على قدميه بنشاط وحيوية .. ويفتح أزرار قميصه عن صدره حتى الزر الثالث ..ويتعامل مع الحياة بروح الشباب , وليس بمنطق الكهول أمثالنا !

واحتفظتُ بهديته رمزاً للشباب الضائع ولم أفكر بالطبع في استعمالها !

 

ثم سافرتُ إلى باريس في الشهر الماضي , فحملتُ إليه هدية رمزية صغيرة من مصر كان من بينها " سلايدز " لمشاهد متنوعة من مصر التسعينات ليقارن بينها وبين مصر الأربعينات التي كان يعرفها , وصورة من العدد الأول من جريدة الأهرام الصادر عام 1876 , سَعِدَ بها كثيراً واعتبرها " كنزاً " ثميناً .. ثم دعاني للعشاء في مسكنه مع شلة الأصدقاء .. وكلف سيدة فرنسية نباتية بإعداد مائدة من الطعام النباتي البحت إكراماً لي , واجتمعنا في مسكنه ..فقدم لي صديقين من أصدقائه القدامى , كانا يعيشان مثله في مصر قبل أن  يهاجرا منها في الخمسينيات , يبلغ أحدهما الثانية والثمانين من عمره .. وتبارَى الثلاثة في الحديث معنا عن مصر وأم كلثوم ومحمد عبد الوهاب .. وتفوق الصديق الذي تخطى الثمانين من عمره في الاستشهاد خلال حديثه بالأمثال العامية المصرية التي يحفظ الكثير منها ..حتى " حذرني " صديقي المحامي الفرنسي ضاحكاً منه قائلاً : إن هذا الرجل إذا حييتَهُ بتحية فإنه يُجيبك على تحيتك بمَثل عامي من محفوظاته القديمة , أو ببيت من الشعر العربي القديم الذي مازال يحفظه !

 

وروى الصديق الثالث أنه كان يتفوق على نظرائه من تلامذة الفصل في المرحلة الثانوية في حفظ الشعر العربي , حتى تعجب لذلك مدرس اللغة العربية ولام زملاءه قائلاً : أليس من العيب عليكم أن يحفظ هذا " الأجنبي " ما تعجزون أنتم عن حفظه من الشعر العربي ؟ فيجيبه التلاميذ ضاحكين : أصله خواجة لئيم يا بيه !

وانتهت السهرة بين حديث الذكريات الممتع .. والمقارنة بين صوت عبد الوهاب في شبابه , وصوته في مرحلة الكهولة , وبين أغاني أم كلثوم القديمة في بداية حياتها وأغانيها في المرحلة الأخيرة من عمرها .

 

وأبلغني المحامي الفرنسي الصديق بأنه قد حزم أمره أخيراً وقرر أن يرجع لزيارة مصر في سبتمبر القادم ليرى الأرض التي عاش فيها طفولته وصباه وشبابه لأول مرة بعد 42 عاماً من الغياب عنها ! وقال لي : إن أول عنوان سوف يبحث عنه في القاهرة هو : 55 شارع العباسية , حيث كان يقع بيت الأسرة بفنائه الترابي الواسع , وحيث كان يلعب الكرة مع قرنائه من الصغار , وإن كان يعرف بالطبع أن البيت قد تحول إلى مدرسة ابتدائية أو ما يشبه ذلك .. وأما بقية العناوين ..فهي عناوين مَنْ بقي على قيد الحياة من أقاربه ورفاق شبابه .

 

وتكرر مشهد الوداع الذي تتندى فيه عيناه بالدمع النبيل عند الفراق , فكأنما يشعر فيه بأنه يفارق رموز ذكرياته الجميلة في مصر وصباه وشبابه فيها ..وغادرتُ باريس وأنا أستعيد في مخيلتي الحديث الذي اعتبرْتُهُ درساً جديداً من دروس الحياة التي قد ينقضي العمر كله بغير أن يستوعب المرء كل خبرتها .. فلقد روى لي هذا المحامي الفرنسي – الذي يبلغ من العمر الآن 79 عاما – أنه يقضي نهاره في مكتبه يمارس أعماله القانونية .. ويتعامل مع عملائه ومساعديه بجدية وحزم , ثم يرجع إلى مسكنه في الخامسة والنصف مساءً , فيضع حقيبة أوراقه في مكانها التقليدي , ويقضي ساعتين كاملتين في سماع الموسيقى والأغاني المصرية القديمة قبل أن يتناول عشاءه في السابعة والنصف , ثم يجلس أمام التلفزيون ليشاهد نشرة أخبار الثامنة التي يحرص معظم الفرنسيين على متابعتها , ويتابع بعدها بعض البرامج الأخرى لمدة ساعتين أخريين , ويدخل غرفة نومه في العاشرة , ويستسلم للنوم على أنغام الموسيقى الهادئة .. ويصحو في السادسة صباحاً ليبدأ يوماً جديداً من حياته مفعماً بالنشاط والحيوية والإقبال على الحياة !

****** 

وأما " الدرس " فيكمن في الساعتين اللتين يقضيهما في سماع الموسيقى والأغاني المصرية القديمة .. إذ إنه يضع في المسجل شريطاً لا أدري كيف استطاع الحصول عليه في باريس , يتضمن عزفاً بالمزمار البلدي لبعض القطع الموسيقية الشعبية التي تصاحب عادة رقص الخيل في مصر ..ويستمع إليه أكثر من مرة , وقد يستخفه الطرب خلال ذلك فيرقص على أنغامه بالعصا وهو وحيد في مسكنه , وليس مُهِمًّا أن يشاهده الجيران من النافذة المفتوحة وهو يرقص رافعاً العصا على طريقة أولاد البلد .. ولا أن يظنوا به الجنون .. وإنما المهم هو أن يفرغ شحنة التوتر التي تجمعتْ داخله خلال يوم العمل الطويل , وأن يشعر بالابتهاج والاستمتاع بالحياة خلال هاتين الساعتين قبل أن يجلس إلى مائدة العشاء .

 

وبعد وجبة المزمار البلدي والرقص بالعصا يأتي دور الطرب الأصيل , فيسمع أغنية أم كلثوم القديمة " أنا في انتظارك " .. أو كما يسميها هو " أنا في الانتظار " , ويطرب كثيراً وقد يصفق وحيداً بين المقاطع ..أو يصيح قائلاً : " الله يا ست " , أو " عَظَمَة على عظمة على عظمة " ..كما كان يردد جمهور " كوكب الشرق " عند استحسانهم لغنائها !

 

ولقد روى لي صديقي المحامي الفرنسي ذلك , فَوشَتْ ملامحي – فيما يبدو – بما أعتبره عدم تصديق لما يرويه , فغادر غرفة المعيشة ليضع شريط المزمار البلدي في المسجل ..ثم غاب في غرفة نومه للحظات , ورجع حاملاً عصا كتلك التي يستعملها راقصو الفنون الشعبية , وتَرَقبَ بداية معزوفة جديدة من الشريط ثم راح يتمايل على أنغامها باستمتاع شديد شاهراً العصا , حتى أتم الرقصة كاملة وسط ضحكاتنا .. وتصفيقنا ..وإعجابنا بروحه الشابة وقلبه الطروب !

ثم قال لنا في النهاية : إنه يستعين بهاتين الساعتين من الطرب والموسيقى على وحدته وجفاف العمل , وتوترات الحياة المختلفة !

وأيدتُهُ بحماس في فلسفته الخاصة في هذه الحياة , وتذكرتُ كلمة الشاعر الألماني " نيتشه " التي تقول : إن الإنسان في وحدته أقرب ما يكون إلى الجنون !

وتمنيتُ لو استطاع كل إنسان أن يمارس في حياته الخاصة بعض هذا الجنون العاقل الذي يغسل الأحزان , ويجدد الحيوية , ويغرس البهجة في الروح المتجهمة ولا يضر أحداً ! ..فهو " جنون مفيد " يعين الإنسان على همومه .. ويساعده على الابتهاج بالحياة بغير أن يقترف إثماً أو يرتكب معصية .

 

ولقد كان لمعظم المشاهير والعباقرة لمحات من هذا " الجنون المفيد " في حياتهم الخاصة الذي نسميه نحن " بالهوايات " المختلفة ! فكان اينشتاين يعزف على الكمان عزفاً رديئاً يستمتع به للغاية رغم نشازه , ويعزف بشكل أفضل قليلاً على البيانو , وكان رئيس الوزراء البريطاني العتيد " ونستون تشرشل " يرتدي في عطلة نهاية الأسبوع عفريتة العمال ويبني بيديه سوراً من الطوب حول بيته الكبير في الريف الانجليزي ..ويرسم بالألوان المائية أيضاً .

 

وكان الجنرال " فرانكو " – ديكتاتور أسبانيا – يتشاغل عن همومه ومسئولياته بالرسم دون أن تكون له أية موهبة فنية فيه ..

 

كما كان الفيلسوف الألماني شوبنهاور يقضي كل يوم نصف ساعة في العزف على آلة الفلوت , وبضع دقائق يوميًّا في التشاحن مع صاحبة المسكن الذي يقيم فيه , ولا يعتبر يومه قد اكتمل إلا إذا فعل ذلك ! وغير هؤلاء كثيرون كثيرون .. والمغزى في النهاية هو أن كل إنسان في الحياة يحتاج إلى " عصا " يستعين بها على وحدته وهمومه , ويتشاغل بها عن مسئولياته وأحزانه وإحباطاته .. ويفرغ فيها شحنة التوتر والقلق التي تتجمع في أعماقه خلال معركة الحياة .

فأين " عصاك " يا صديقي ؟

رابط مقال إزيك يا ادلعدي

·       نشرت في كتاب أرجوك أعطني عمرك

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي 


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات