عطر الأحباء .. بقلم عبد الوهاب مطاوع "كتاب صديقي ما أعظمك"

 

عطر الأحباء .. بقلم عبد الوهاب مطاوع "كتاب صديقي ما أعظمك"


عطر الأحباء 

 

صائم أنا .. اعتدت أن أبدأ الصيام قبيل الفجر بلحظات .. وأن أبدأ الشعور بالجوع والحاجة إلى تسلية الصيام بما يشغلني عنه بعد الفجر بلحظات أخرى ! أفضل وسائلي لذلك هي القراءة في القرآن وكتب السيرة والتاريخ الإسلامي التي أركز قراءاتي خلال شهر رمضان كل سنة فيها .. فأتنقل بين صفحاتها أرشف رحيقها .. وأتشمم من بين سطورها عطر الأحباء القدامى.

 اكتشف من جديد أني أطرب لكل آيات القرآن وأضيف إلى فهمي لها في كل مرة أعماقاً جديدة .. ومع ذلك فإن لبعضها في وجداني رنينا خاصا لا يتغير مع مر السنين "إنما أشكو بثي وحزني إلى الله"

لماذا تمس هذه الآية دائماً قلبي ؟ إنها جزء من آية كريمة في سورة يوسف جاءت على لسان سيدنا يعقوب حين لامه أبناؤه على حزنه الدائم على ابنه الغائب يوسف حتى أبيضت عيناه .. أقرأ كلمة "بثي" وأحس بمعناها ومع أني لم أتعرف عليها من قبل .. أجد في حروفها معنى مرتبطًا بالألم الذي يهمس به الإنسان لصاحبه ، فأرجع إلى القاموس فأجد فيه ما يؤكد صدق إحساسي .. "البث" أشد الحزن الذي لا يصبر عليه صاحبه فيه أي يتحدث به ! .

 عرفت الآن فقط لماذا بكى عمر بن الخطاب حين قرأها بعد أن ولى أمر الناس وهو يؤم المصلين في صلاة الفجر فبكى حتى ابتلت لحيته الشهباء من شدة همه بأمر الناس ! وتفلت مني الخاطرة رغماً عني .. من لنا في عالمنا الإسلامي ببعض من يغلبهم البكاء من شدة همهم بأمورنا .

 

 أقرأ سيرة الرسول الكريم فأطرب لكل دروسها وقيمها ومعانيها لكني أتوقف دائماً عند بعض مشاهدها التي تؤثر في وجداني فأرى بعين الخيال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في ظل بستان بالطائف التي تكبد مشقة السفر إليها ليدعو قبيلة ثقيف إلى دين الله فأنكروا دعوته وشغب عليه سفهاؤهم ، فانتحى جانبا إلى البستان ورفع رأسه إلى السماء وناجى ربه شاكيا له ضعف قوته وقلة حيلته وهوانه على الناس فيكن له القلب المثقل على بعد الذكرى وطول البعاد .. أو أراه بعد أن نصر الله دينه يمشي وقد لبس ثوباً غليظا فجاء أعرابي فجذبه من الثوب بعنف حتى أثر في عنقه وقال له يا محمد أعطني من مال الله الذي عندك فيضحك محمد - صلى الله عليه وسلم .. ويأمر له بعطاء ، أو هو بعد أن دفع رجلاً في بطنه بجريدة من النخل وجاءه الرجل يطلب أن يقتص منه فكشف النبي بطنه للرجل وأعطاه الجريدة ليضربه بها فقبل الرجل بطن النبي وقال : بل أردت أن يرتدع الجبابرة من بعدك .. أو أراه وقد بعث يشتري بعض ما يحتاج إليه بيته من يهودي على أن يؤجل الدفع فيرفض اليهودي أن يبيعه قائلاً : ما لمحمد زرع ولا ضرع فمن أين سيسدد ؟ فاهتف صامتا فلا نامت أعين الجبناء ! أو أسمع أم المؤمنين عائشة حين سئلت كيف كان رسول الله في بيته فتقول : كان بشرًا كالبشر يصلح نعله ويرقع ثوبه ويخدم نفسه أو أجده يقول لرجل ناداه : يا سيدنا وابن سيدنا وخيرنا وابن خيرنا فيقول له : لا يستهوينكم الشيطان .. أنا محمد بن عبد الله .. عبد الله ورسوله .. والله ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي.

 

 أو أراه - وأحر قلباه - يبكي ولده وينزف قلبه دما ولا يقول ما يغضب ربه وقد سبقه كل أبنائه وبناته إلى دار البقاء ما عدا فاطمة التي لحقت به بعد ٦ شهور من وفاته ، أو أراه يوم غزوة مؤتة يبكي مولاه زيد بن حارثة عند استشهاده وتراه ابنة زيد فتكف عن نواحها وتسأله : ماذا أرى فيجيبها : صديقاً يبكي صديقه . ويسجل الواقعة المفكر الانجليزي توماس كارلايل في كتابه الأبطال دليلاً على رحمته وعظمته .

 

بأبي أنت وأمي يا رسول الله

ما من مرة قرأت فيها هذه العبارة .. إلا وجاش صدري بالانفعال وأنا أتخيل الصحابة الأكرمين يهتفون بها من قلوبهم في بعض المواقف ، فتكثف في كلمات نبيلة كل معاني الفداء والإيثار والوفاء والحب .. وينقلني حديث الوفاء إلى حديث الأحباب من صحابة رسول الله .. فأجدني أكن حباً خاصا لأبي بكر وحكمته وورعه ورحمته .. ومن بين كل أحواله تقفز دائماً إلى مخيلتي صورته حين هرع إليه بعض رجال قريش عقب معجزة الإسراء والمعراج يقولون له : يزعم صاحبك أنه سری بليل من مكة إلى القدس فيجيبهم مطمئنا : إن كان قال فقد صدق ! ثم يستطرد : إني صدقته في خبر السماء فكيف لا أصدقه فيما يخبركم به ؟ فيكتسب أبو بكر اسمه الذي اشتهر به .. الصديق الذي يصدق صاحبه في كل ما يقول ويبلغ ، أما أرق أحواله عندي فهو حين ذهب الرسول إليه في بيته يبلغه أنه قد أمر بالهجرة فلا يجيبه أبو بكر إلا بالبكاء وبكلمة واحدة معبرة عن كل المعاني هي : والصحبة .. يا رسول الله .. فيخرجان معا بأمر ربهما .

 

وتستغرقني قراءات رمضان فأتأكد أكثر من أي وقت مضى من أني مفتون بشخصية عمر بن الخطاب .. الذي يخافه الشيطان، كما قال له مداعبا الرسول الكريم -  فأحب فيه شدته في الحق وعدله بين الناس وتسويته بين الجميع وأتابع بانبهار شديد درته أي مقرعته وهي تضرب ظهور المتزمتين والمتكلفين .. والمنافقين وأقول ما أحوجنا إليها الآن فيجيئني صوتها من بطون الكتب نغماً ساحراً وهي تضرب رجلاً وجد تمرة على الأرض فطاف في السوق يرفعها ويصيح لمن هذه التمرة الضائعة ؟ حتى جاءه صوت عمر مع صوت درته قائلاً : كلها يا ذا الورع البارد .. ليس هذا ورعا إنه التكلف !.

 أو أتابعها وهى تقرع ظهر رجل رآه عمر يسير متماوتا فسأل عنه فقيل له إنه ناسك فعلاه بالدرة وقال له : اعتدل ولا تمت علينا ديننا .. إن الخشوع مكانه القلب لا الوجه .. أما هذا فنفاق ، وغير ذلك كثير .

 

أحب في عثمان حياءه الذي قال له عنه الرسول ما معناه : إن الملائكة لتستحي منك يا عثمان .. وأجفل كلما تذكرت مصرعه وهو صائم محصور في بيته مأسوف عليه من كل قلب مؤمن .. وأحب في علي سبقه للإيمان وعلمه وورعه وشجاعته وعدل قضائه وبلاغته ثم أقفز قفزة واسعة إلى عصر عمر بن العزيز .. فيتكرر إعجابي بعدله وزهده .. وأعجب له كيف بدأ عهده بإلغاء مبدأ التجريم بسبب الخلاف في الرأي، ومازال بيننا بعد هذه القرون من لا يزالون يعتمدون مبدأ تجريم الخلاف في الرأي ، وأعجب لثورته الاجتماعية التي رسخ بها مبدأ أن الدولة مسئولة عن كل فقير ومحتاج ومريض وأن دورها هو أن تعطي لا أن تأخذ .

 أما قمة إعجابي بعقليته المتفتحة فيجيء حين أقرأ ما رواه عنه أبو حيان التوحيدي في كتاب "الإمتاع والمؤانسة" : "وأفضل من ذلك قول عمر بن عبد العزيز ذات مرة : والله أني لأشتري المحادثة أي الحوار والمشورة وتبادل الرأي من عبيد الله بن عبد الله بن مسعود بألف دينار من بين مال المسلمين ! ، فقيل له : أتقول هذا يا أمير المؤمنين مع شدة تحريك وتنزهك ؟ فقال عمر : أين يذهب بكم والله أني لأعود برأيه ونصحه وهدايته على بيت مال المسلمين بألوف وألوف الدنانير .. إن في المحادثة تلقيحا للعقول وترويعا للقلب وتنقيحا للأدب وتسريحا للهم" .. عسى أن أكون قد سرحت بعض همك .. كم الساعة الآن من

فضلك ؟

نقلها من كتاب صديقي ما أعظمك وراجعها وأعدها للنشر / نيفين علي 


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات