في القطار .. بقلم عبد الوهاب مطاوع "كتاب حكايات شارعنا"
أخرج من
البيت مبتهجا في صحبة أبي في غبشة الفجر ، والدنيا مازالت نائمة .. فاليوم هو
اليوم الموعود الذي ظللت أنتظره في لهفة منذ بدأت الإجازة الصيفية ، وبعد طول
انتظار جاء موعد سفر أبي إلى الإسكندرية ، لكي يزور كبار تجارها من المصريين
والأجانب في محالهم وشركاتهم .. ويتعاقد على ما يريد شراءه منهم ، ويدفع لهم
مستحقاتهم .. ثم يرجع مظفرًا إلى أسرته في المساء حاملاً علبة "الجاتوه"
الكبيرة من محال الإسكندرية التي تشتهر به ، إلى جانب بعض خبز "التوست"
كبير الحجم الذي تجيد أفران اليونانيين بالثغر صناعته .. ونترقبه نحن بلهفة شديدة ..
ولقد جاء دوري في مصاحبة أبي إلى هذه الرحلة الخطيرة.
فلقد كان
يستجيب لإلحاحنا عليه خلال إجازة الصيف ، فيأخذ أحد الأبناء معه في كل رحلة طوال
أشهر الصيف.
وفي محطة
القطار بمدينتي أنتظر بقلب سعيد موعد السفر وأتعجب لماذا الإصرار كل مرة على ركوب أول
قطار يغادر المدينة إلى دمنهور في الخمسة والثلث صباحًا ..مع أن هناك مواعيد أخرى أكثر ملائمة في السابعة والثامنة ؟
وتمضي رحلة القطار سريعة .. ونغادره في محطة دمنهور ، فيتجه أبي إلى "بوفيه" المحطة .. ويطلب الشاي والبسكويت .. إلى أن يجيء موعد القطار المتجه للإسكندرية .. وتثقل علي فترة الانتظار هذه التي تصل إلى نحو الساعة، ثم يجيء الفرج مع اقتراب صوت القطار المنتظر .. وأنهض في حماس مع أبي لركوبه ، ونشق طريقنا في الممر الضيق أمام دواوين العربة ، ويطل أبي في كل ديوان عسى أن يجد فيه مكانا خاليًا .. إلى أن نجد الديوان الذي يتسع لنا فندخل ونجلس ، ويتحرك القطار في طريقه السعيد .. ويغلبني النوم فأغفل عما حولي بعض الوقت بتأثير الاستيقاظ المبكر والنوم المضطرب ليلة السفر ، ثم أتنبه فجأة، فأجد أبي مشتبكا في مناقشات حامية مع بقية ركاب الديوان وبعضهم من المصريين .. والبعض الآخر من ذوي الوجوه المحمرة من الأجانب المقيمين بمصر ، وتلتقط أذناي كلمات غريبة من نوع الحكومة .. البرلمان .. الوفد .. النحاس باشا .. الملك .. كريم ثابت .. الإنجليز .. نجيب الهلالي .. سعد باشا زغلول قال : لا .. فائدة ! . . إلخ .
ويستقر في وجداني أن الرجال الكبار لا بد لهم حين يركبون القطار أن يتحدثوا عن أحوال البلد ، ويتبادلوا الآراء في مستقبلها ، وأستمع بإعجاب خفي إلى ما يبدي أبي من آراء .. وأجدني أؤيده فيها على طول الخط .. ليس لأنني أعي ما يقال وأؤمن به .. وإنما لأنه أبي .. ولا بد أن يكون رأيه هو الحق الذي لا يأتيه الباطل من أمامه أو من خلفه .. ولهذا أضيق بمعارضة أحد الركاب لما يبديه أبي من رأى .. وأكاد أشتبك في النقاش ، لأقنعه بما في رأي أبي من وجاهة .. ثم أرد نفسي عما ترغب مراعاة للموقف .. غير أنه تفلت مني ذات مرة كلمة "لا" تعقيبا على اعتراض الراكب في ما قاله أبي ، من أن الأحزاب قد أضاعت البلد بتطاحنها فيما بينها ، بدلاً من أن توحد جهودها لإجلاء الإنجليز عن مصر ، ينظر إلي أبي بحزم .. وأشعر أنا بالخجل الشديد، فأرجع إلى التزام الصمت .. ويبتسم الراكب المعارض ، ويسأل أبي عن سني ومرحلتي الدراسية ، ويقول لي إنه سعيد بتحمسي لتأييد أبي في آرائه ، لكنه يطلب مني الاستماع جيدًا للآراء المختلفة كلها دون تعصب ضد أي رأي .. لكي أحيط بكل جوانب الموقف قبل إبداء الرأي .. وأنظر إليه في خجل ، وقد زال على الفور من نفسي ما شعرات به تجاهه من ضغينة عارضة ، وأتعلم الدرس الذي صاحبني فيما بعد معظم سنوات عمري .. وهو أن أسمع أكثر مما أتكلم .. وأن أسمع جيدا و باهتمام، قبل التطوع بإبداء أي رأي .. وأن ألتزم الصمت في مجالس الكبار إذا أردت حقا أن أتعلم منهم ، وأستفيد من خبراتهم !
كتبها من مصدرها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر