ولا أبالي ! .. بقلم عبد الوهاب مطاوع "كتاب قدمت أعذاري"

 

ولا أبالي !

كلما جاء شهر رمضان رجعت إلى الاستغراق في كتب السيرة والفقه والتاريخ الإسلامي فلا أقرأ سواها حتى تنتهي أيام الشهر الكريم .. أما الذكر الحكيم فهو رفيقي طوال أيام العام "أنظر" فيه كل حين .. وأجاهد لحفظ ما يسمح به العمر من "جواهره" .. أعمل في ذلك بنصيحة أحد الصالحين لتلميذه حين قال له : أحفظ منه ما استطعت .. فإن عجزت فكن دائم النظر فيه ! وكذلك أفعل منذ سنوات طويلة .

سعدت حين اكتشفت أنني مازلت قادرا على حفظ بعض هذه "الجواهر" وعلى إضافة بضع أبيات جديدة من الشعر الرصين إلى محفوظاتي القديمة من حين إلى آخر وكنت قد ظننت أنني قد فقدت هذه القدرة مع تقدم العمر ووهن الذاكرة !

أردد لنفسي ما حفظت من الجواهر الجديدة من حين لآخر سعيدا بما استطعت وأتذكر في كل مرة قول الرسول الكريم : "ليس منا من لم يتغن بالقرآن" .. وأهتف لنفسي صامتا : صدقت يا رسول الله .. وهل الصلاة الجهرية إلا تغنيا بالقرآن يطرب له القلب الخاشع ! 

قرأت في السيرة العطرة أن الرسول الكريم كان يرتجز مع المسلمين وهم يحفرون الخندق ويرفع صوته مع المرتجزين أي المرددين، وكان هناك رجل اسمه جعيل فلم يرض الرسول عن اسمه وسماه عَمْراً ، فكان الرجال يرتجزون أثناء حفر الخندق كما يفعل أبناء الصعيد وهم يعملون بأعمال البناء، ويغنون :

سماه من بعد جعيل عَمْراً

فيردد وراءهم الرسول الكريم رافعا صوته : "عَمْراً"

ويرتجز المسلمون :

وكان للبائس يوما ظهراً

فيردد الرسول وراءهم : "ظهرا"

وفي هذا الجو البهيج راحوا يعملون ورسول الله صلوات الله وسلامه عليه يحضر معهم ويجرف الأرض ويسويها ويحمل الأتربة ويشاركهم الترجيع ! 

كلما ازداد الإنسان فهما لدينه ازداد إقبالا على الحياة وانتفاعا بها .. واستمتاعا بمتعها المشروعة العديدة، وقويت همته أيضا على استثمار رحلته القصيرة في الأرض فيما يقربه من ربه ويرشحه للسعادة الأبدية في الدار الآخرة .

فمن أين جاءنا البعض بهذا التصور المريض للحياة وكأنها رحلة كآبة وجهامة وسواد وسكون وجمود و"موت" .. في انتظار الموت ؟ إن دائرة المباح للإنسان في الحياة "عريضة" ونصوص القرآن تؤكد أن الله سبحانه وتعالى قد سخر للناس ما في الأرض جميعا وما في السماء، ومن حقهم أن ينتفعوا بما سخره لهم إلا ما ورد النص صراحة بتحريمه وهو قليل من كثير وكثير، وليس من حق أحد أن يضيف إليه أو يوسع من دائرته .. فرسولنا الكريم يقول لنا : ما أحل الله في كتابه فهو حلال وما حرم فهو حرام وما سكت عنه فهو عفو .. فاقبلوا من الله عافيته فإنه لم يكن لينسى شيئا .

والمؤمنون هم "الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش" "الشورى 37" وماعداها . . فالحياة متسعة .. والأرض واسعة لمن يريد أن يعمل ويستمتع ويفيد ويستفيد .. والمؤمنون الحقيقيون أهل عمل وعلم وإقبال على الحياة وتفاؤل بها وأهل بشر واستبشار وسماحة وعفو والتماس للأعذار للآخرين لا أهل مسارعة إلى إدانتهم والحكم عليهم . ولا أهل كآبة وجهامة وكسل .. فقد كان رسول الله كما قرأت في كتب السيرة طلق المحيا .. مشرق الوجه، دمث الطبع دون جفوة ودون رخاوة .. إذا خلا بنفسه تواصلت أحزانه وهمومه بدعوته، وإذا خرج إلى الناس تلقاهم بالبشر والترحاب وقال معلما البشر : "تبسمك في وجه أخيك صدقة" وقال لهم "بشروا ولا تنفروا".. وما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما كما روت السيدة عائشة رضي الله عنها .

وكان يحث المسلمين على "البصر بزمانهم" وفهم حقائقه ومراعاتها والتجاوب معها .. أي يحثهم على المعاصرة وعدم الجمود أو التحجر أمام حقائق العصر فقال - صدق القائل ـ "رحم الله امرءا بصيرا بزمانه" .

وقال لهم : عليكم من الأعمال ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا، أي تعبدوا قدر طاقتكم ولا تسرفوا على أنفسكم في شيء حتى لو كان العبادة .. بل اعتدلوا واعدلوا في أمور دينكم ودنياكم . 

 تذكرت الآن قصة رويت عن العظيم عمر بن الخطاب، ولابد أن تتوقع مني أن أحدثك عنه في هذا المجال وقد علمت عني من قبل أني مفتون بشخصيته، أما القصة فتقول : إنه جاء إليه وفد من أهل مصر يشكون إليه عدم التزام البعض بتعاليم دينهم الالتزام الكافي من وجهة نظرهم فتفحصهم قليلا ثم سألهم واحدا وراء الآخر : هل أنت ملتزم بتعاليم دينك كما تتمنى لنفسك ؟

فأجابوه جميعا بالنفي، فنهرهم وقال لهم :

إن الله يعلم أن سيكون لنا سيئات ثم قرأ عليهم قول الحق سبحانه : "وإن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم" "النساء 31"

وهذا حق لا ريب فيه فالأخطاء درجتان كبائر .. وصغائر أما الصغائر فتمحوها العبادات تلقائيا .. وأما الكبائر التي تتفاوت بين عقوق الوالدين وشهادة الزور وأكل أموال الناس بالباطل والقتل فهذه وحدها هي التي لا يمحوها إلا صدق الندم والاستغفار .

ولا ينقطع رجاء بعد ذلك أبدا في رحمة الله وعفوه وإن ثقلت الخطايا في الميزان .. فهو القائل في الحديث القدسي جل شأنه : "يا بن آدم إنك إن دعوتني ورجوتني غفرت لك ما كان منك ولا أبالي .. يا بن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ، يا بن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بی شيئا لأتيتك بقراب الأرض مغفرة" رواه الترمذي .

وحكمة قبول التوبة وإن ثقلت الخطايا حكمة تجل على أفهام البشر .. إذ ماذا يدعو الخاطئ للتطهر من خطاياه والكف عنها والعودة إلى الطريق القويم إذا علم وتأكد تماما أن باب السماء قد أوصد في وجهه نهائيا مهما فعل أو كفر عن خطاياه ؟!! .

وماذا يصيب الحياة من مثل هذا الخاطئ البائس من أي أمل في المغفرة إلا مزيدا من الخطايا والشرور ؟

لهذا فتح الحق سبحانه وتعالى أبواب رحمته على مصراعيها تدعو الخائفين للدخول، وبهدي من هذا الإيمان الصحيح قال الإمام أبو حنيفة - رضي الله عنه – "إن المؤمن بقلبه المذعن في نفسه يكون مؤمنا عند الله .. وإن لم يكن كذلك عند بعض الناس" .

والهدف من ذلك كله هو ألا ييأس أحد من رحمة الله فينطلق في الحياة كالوحوش الضارية يوزع أذاه على الجميع، ولم لا وهو لا أمل له في عفو ولا مغفرة إن توقف الآن عما يفعل ؟!

إن الإنسان اليائس من الحياة تهون عليه الحياة ويسترخص الموت فيقع أو قد يقع في هاوية الانتحار ويبوء بإثمه الذي لا يدفع أحد جريرته سواه، أما اليائس من رحمة الله فهو شر على الحياة كلها وعلى البشر الأبرياء الذين يدفعون رغما عنهم ضريبة هذا القنوط من رحمة الله.

ومن هنا كانت حكمة التوبة وأبوابها المفتوحة دائما ولو بعد فوات الأوان لكل العصاة .

والمؤمنون الحقيقيون يفرحون بتوبة التائب كما تفرح بها السماء ولا يعيرون أحدا بما كان منه في ماضي الزمان .

وهم أهل ظرف وسماحة وذوق رفيع في التعامل مع الآخرين وليسوا أبدا أهل غلظة وجفاء وكآبة وقتامة .. يعملون ويتعبدون ويخدمون الحياة ويغرسون نخيلا لا تجنى ثماره إلا الأجيال القادمة كما يحثهم على ذلك دينهم .. ويستمتعون بأوقاتهم وبالصداقة الخالصة لوجه الله ويروحون عن قلوبهم ساعة بعد أخرى حتى لا تكل قلوبهم، لأن القلوب إذا كلت عميت .. كما جاء في الأثر .

تذكرت الآن فجأة قصة طريفة قرأتها في كتب التراث تناسب هذا المقام : فلقد روت الكتب أن عبد الله بن رواحه كان يبيت ذات ليلة إلى جوار زوجته في الليلة المخصصة لها فتسلل بعد نومها إلى زوجة أخرى له فوقع عليها، وانتبهت الزوجة الأولى من نومها فلم تجده إلى جوارها فنهضت غاضبة تبحث عنه وهى ممسكة بسكين في يدها .. فإذا به عائد من الخارج كأنما كان في الخلاء.. وسألته أين كان فتهرب من الإجابة ، فأرادت أن تحرجه لتتأكد من شكوكها فطلبت منه أن يقرأ عليها بعض آيات الذكر الحكيم دون أن يغتسل أولا لأنها تعرف جيدا أنه لا يقرأه إلا المطهرون .. فلم يتردد ابن رواحه وقرأ عليها بعض أبيات الشعر العربي القديم مترنما بها كما يفعل من يقرأ القرآن الكريم .. فأدركت أنها ظلمته وقالت له : آمنت بالله .. وكذبت بصري!

وفي اليوم التالي غدا ابن رواحه إلى رسول الله وروى له ما فعل فضحك حتى بدت نواجذه ولم يعلق بشيء وضحك معه صحابته الأكرمون !

ولست أعرف لماذا تذكرت أيضا ما رواه الأستاذ محمد رشيد رضا صاحب تفسير المنار عن أستاذه الشيخ الإمام محمد عبده، حين زاره ذات مرة في دار الإفتاء فتأخر به العمل فيها طويلا حتى كادت الشمس تغيب، ثم خرجا معا فسارا على الأقدام واشترى الإمام بعض البسكويت وقدم منه لرفيقه و"جعل يأكل منه بلطف خلال سيره" على حد وصفه، فقال له صاحب المنار : أمفتي الديار يأكل في الطريق ؟! فأجابه الشيخ الإمام : سئل الحكيم ديوجين : لماذا تأكل في الطريق ؟ فأجابهم : لأني أجوع في الطريق ثم أضاف مبتسما : "فاتنا غداء البيت .. فلا بأس بأن نسد جوعنا حتى نصل إليه" .

رحمه الله مصلحا عظيما أيقظ الشعور الديني في عصره ودعا المسلمين إلى تحكيم العقل في أمورهم لأن الدين إنما عرف بالعقل وحثهم على ألا يعتمدوا على الفخر بماضيهم بل يبنوا حاضرهم ومستقبلهم متسلحين في ذلك بأكبر أسلحة الدنيا وهو العلم وبأكبر عمدة في الأخلاق وهو الدين.

غرقت في بحور قراءات رمضان من القفزة الأولى، مع أن أيام الشهر الكريم لم تكد تبدأ .. ولم نكد نتنسم نسائمه .. لكنه هكذا حال المحبين دائما يغيبون ويغيبون حتى يخيل إليك أنهم قد برئوا من الهوى فإذا تلاقوا هيئ إليك من اللحظة الأولى أنهم لم يفترقوا من قبل لحظة واحدة .

نقلها من كتاب قدمت أعذاري وراجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات