البئر القديمة ! .. رسالة من بريد الجمعة عام 1986

 البئر القديمة ! .. رسالة من بريد الجمعة عام 1986

البئر القديمة ! .. رسالة من بريد الجمعة عام 1986


هناك نوع من الرجال الذين قال عنهم شكسبير في رائعته يوليوس قيصر: "إن بعض الرجال يصعدون درجات السلم فما أن يصلوا إلى أعلاه.. حتى يزدروا هذه الدرجات التي صعدت بهم إلى القمة !".

فما أكثر ما نرى من أشباه هؤلاء الرجال في حياتنا العامة والخاصة على السواء! وما أكثر ما يسيئون إلى الحياة والمثل العليا وإلى قيم التضحية والإيثار والوفاء بجحودهم ونكرانهم!.

 عبد الوهاب مطاوع


 

سأبدأ قصتي من البداية فأقول إنني أحببت خلال دراستي بكلية الطب زميلا لي، وتعاهدنا على الزواج ووضعت كل أمالي فيه.. كانت ظروفنا تختلف إلى حد كبير.. فأنا شخصية متفائلة بطبعي أؤمن بأنه ليس هناك مستحيل.. والدنيا أمامي جميلة دائما مهما حدث فيها.. وفي أشد الأوقات ضيقا أتفاءل وأقول دائما إن بعد العسر يسرا، ورغم أني خجول إلا أني أحب الناس ولا أضمر لأحد شرا، وقد نشأت في بيت مستقر لا يعرف العواصف ولا المنازعات، ورباني أبي على الصدق والعفاف و الروابط الأسرية المتينة.

 

أما هو فلقد نشأ في بيت مفكك.. الأب فيه على قدر كبير من الأنانية ويؤمن بأن المال هو كل شيء.. لذلك تحولت حياتهم الأسرية إلى جحيم ووقع الطلاق بين الأب والأم، ونحن مازلنا ندرس في كلية الطب. وتأزم خطيبي كثيرا، وبدأ يتعثر في دراسته وخصوصا بعد أن تزوج أبوه من أخرى وأنجب طفلا أصغر من سن أحفاده.

وفي هذه الأيام واجهت معه أياما صعبة ووقفت إلى جواره وأكدت له أني أحبه لشخصه لا لأي شيء آخر.. و كافحت مع  أهلي الذين رفضوا الاعتراف بالخطوبة.. ورفضت كل من تقدموا لي للزواج خلال هذه المرحلة.

 

وكرست حیاتی، له كنت أشجعه على اجتياز هذه المحنة ومواصلة الدراسة كنت أنقل له المحاضرات .. "وأحجز" له في المدرجات وأشرح له ما غاب عنه في الدروس.. وكدت أهمل دراستی إهمالا تاما من أجله ومع ذلك فلقد كان يرسب وکنت أنجح لأنه كان مهزوما داخليا من ظروفه.. ولم أتخل عنه رغم ذلك.

 وفي هذه الفترة كثرت أخطاؤه وتحملتها بصبر غريب كأن يشرد بعيدا عني، ويتعرف على فتيات أخريات، وينجذب إليهن فأصبر إلى أن يعود.. وكان يعود في كل مرة فيعتذر، وأصفح عنه ولا يتأثر رصيده لدي من الحب أبدا.

وواصلت الكفاح معه وتخرجت في كلية الطب وعملت كطبيبة وهو مازال يتعثر في دراسته وتعذبت معه حتى استطاع في النهاية أن ينهي دراسته بتفوق باهر، وأن يتخرج في الكلية وبدأت رحلة الكفاح مع أسرتي لكي تقبل إتمام الزواج حتى سلموا جميعا بأن حبي له حب صادق، وتزوجنا وكان قد حقق نجاحا عمليا طيبا وكون نفسه في فترة قصيرة، فطلب مني اعتزال العمل والتفرغ للبيت فلم أعارض لأنه يؤمن بأن وجود الزوجة في البيت يحقق له الاستقرار ولعلي رحبت برغبته لأني أيضا من المؤمنات بأن رسالة المرأة بعد تعليمها هي بيتها وأسرتها إلا في حالات الضرورة.

 

وطلب مني زوجي الحبيب أن نؤجل الإنجاب حتى يتمكن من توفير المستوى الاجتماعي اللائق برعاية طفل وتعليمه فقبلت رغم أننا نعيش في مستوى مادي رائع بالنسبة لمن حولنا. وربما أكون قد اقتنعت بأسبابه وهو أنه لا يريد أن ينجب أطفالا يعرضهم للحرمان کما تعرض هو.

ومضت حياتي معه وأنا سعيدة به، وأحس أني قد وصلت إلى بر الأمان بعد رحلة كفاح استمرت عشر سنوات ابتداء من مرحلة الدراسة حتى استقرت دعائم أسرتنا. ألبي لزوجي كل طلباته. بل وأغالي في ذلك إلى حد التدليل.. لا أسمح لنفسي أن يراني إلا وأنا نظيفة معتدلة الملبس، وبيتي دائما في غاية الجمال والنظافة ومطبخي دائما يلمع كأنه معروض للبيع وطعامی شهي بشهادته هو قبل غيره.

لكن يا سيدی يبدو أن دوام الحال من المحال كما يقولون.

 

فمنذ عامين تغير زوجي كثيرا فأصبح متقلب المزاج إلى درجة كبيرة يغضب لأتفه شيء.. ويسارع إلى النكد من كل طريق.. صامت دائما وأتعذب بصمته فإذا استرضيته يتهمني بأني أغضبته في الشيء الفلاني أو الشيء العلاني.. وعندما أبكي وأقسم له أني لم أقصد إغضابه وأني لم أكذب عليه في حياتي مرة، يرق قلبه لى ويحاول إرضائی.. وهو متقلب كليل الشتاء. عندما يحب يحب كالسيل الجارف ويكون نهرا من الحنان والعطاء، وعندما يغضب يكون في منتهى القسوة والجحود.. ولا وسط بين الحالين.. ومع أنه من نوع الرجال الذين لا يرفعون أصواتهم عند الغضب إلا أن كلماته تكون أشد قسوة من طعن السكاكين.

 

ثم بلغت الأزمة قمتها منذ أسابيع حين صارحني بأنه أصبح لا يحبني وأنه لا يستطيع أن يعاشر زوجة لا يحبها. فانهرت وسألته عن أسباب ذلك فقال كلاما طويلا ملخصه: أنني زوجة فارغة من الداخل! لأني كرست حياتي له ولبيتي وليس للقراءة وللاطلاع ولأني لا أعرف المجتمعات ولا أحبها! سألت نفسي كيف أكون فارغة وقد حصلت على بكالوريوس الطب وكنت ناجحة في دراستی وفي عملي، إلى أن تركت العمل باختياري إرضاء له، وكيف أكون فارغة وقد وقفت إلى جواره في كل محنه الدراسية والعائلية حتى تجاوزها بعد عناء لا يعلم ألا الله حجمه، وأنا صامدة معه وصابرة عليه وعلى تقلباته حتى شق طريقه وساعدته على أن يكون طبيبا ناجحا.



 

ولكاتبة هذه الرسالة أقول:

إن الخطأ هو أن تكوني غير نفسك التي فطرت عليها.. والصواب هو ألا تغيري من طريقك في الحياة ومن نظرتك المتفائلة المحبة لها. فالحق أني أستشعر من رسالتك أن القضية ليست قضية سطحية أو تفاهة أو "فراغ من الداخل" کما تقولين وإنما هي في تصوري أعمق من ذلك بكثير!

فالكارثة أننا حين يجف نبع الحب في قلوبنا نجهد أنفسنا في تسقط الأخطاء وتلمس الأسباب لإقناع أنفسنا قبل غيرنا باستحالة الحياة مع الطرف الآخر، لسبب منطقي بسيط هو أن "عين الرضا عن كل عيب كليلة.. وعين السخط تبدى المساويا"!.

 

وعين السخط أو عين البطر هنا هي التي تتكلم وترى فيك هذا الفراغ.. ولو أنصفت لرأت فيك قمة التضحية.. وقمة العطاء.. وقمة الحب والوفاء؟ فلقد كافحت معه كفاح الأبطال لكي يجتاز محنه وعثراته.. وتمسكت به رغم كل شيء.. وضحيت راضية بعملك ودورك في الحياة كطبيبة لتكوني له وحده ولبيته .. وضحيت بحقك في إنجاب الأطفال إرضاء له رغم أنك تستطيعان إعالة طفل أو أكثر . فأي تضحيات أبلغ من ذلك؟.. وأي تفاني في حياة الآخر.. أكبر من ذلك.

إنني أخشى يا سيدتي أن يكون زوجك هذا - وأرجو ألا أظلمه - من نوع الرجال الذين قال عنهم شكسبير في رائعته يوليوس قيصر: "إن بعض الرجال يصعدون درجات السلم فما أن يصلوا إلى أعلاه.. حتى يزدروا هذه الدرجات التي صعدت بهم إلى القمة !".

 

فما أكثر ما نرى من أشباه هؤلاء الرجال في حياتنا العامة والخاصة على السواء! وما أكثر ما يسيئون إلى الحياة والمثل العليا وإلى قيم التضحية والإيثار والوفاء بجحودهم ونكرانهم!.

وأخشى يا سيدتي وأرجو ألا أظلمه مرة أخرى من أن تكون شكواه من السطحية وفراغ الداخل هذه هي نوع من البطر واختلاق الأسباب والمعاذير ! لأننا حين نتزوج لا نتزوج من دوائر معارف ولا من موسوعات علمية وثقافية وإنما من بشر نسكن إليهن ونبادلهن المشاعر والحنان والاهتمام، لأن زادنا العقلي نستطيع أن نحصل عليه بسهولة من أي كتاب.. أو من أي مكتبة صغيرة بالبيت.

 

ولأن المطلوب فقط هو أن يكون هناك خيط رفيع من التفاهم والمزاج المتقارب لو أمكن بين الشريكين، يسمح بتواصل الأفكار وتبادل بعض الاهتمامات بين الزوجين، وليس المطلوب أن يتماثل الزوجان في كل شيء كقوالب الطوب، ولا من المطلوب أن يمضيا العمر في مناقشات جدلية مستمرة عن الوجود.. والعدم ! أو النظريات العملية أو الفلسفية أو في السياسة الخارجية، وليس من الضروري أن يكون كل زوجين هما مستر ومسز کوری مکتشفی الراديوم! وأن يمضيا العمر في أبحاث مشتركة!.

ولا أظن أن طبيبة مثلك حتى ولو كانت معتزلة يمكن أن تكون بينها وبين زوجها الطبيب الناشيء! هوة فكرية سحيقة.. تهدد حياتها بالانهيار. إلا أن تكون هناك مبررات أخرى، فنجاح الزواج واستمراره لا يرتبط أبدا بالمستوى العلمي للزوجين.. بل لعله في بلادنا على العكس من ذلك في بعض الأحيان ولعل زواج البسطاء الذين لا يشغلون أنفسهم كثيرا بمثل هذه "الكلاكيع" أكثر دواما واستقرارا وأقل عرضة للتقلبات والعواصف من زواج غيرهم من العباقرة!.

 

وعموما فنحن في بيوتنا وبين أبنائنا لسنا بعلماء ولا مفکرین ولا أدباء ولا قادة عظام، ولا مسئولين كبار ولا رجال أعمال كبار، ولا محامين ولا مهندسين ولا فنانين مشاهير، وإنما نحن في أسرنا أزواج وآباء فقط.. وينبغي ألا نكون غير ذلك. ومأساة البعض منا أنهم يحملون معهم شخصياتهم العامة ومناصبهم إلى بيوتهم فتفسد حياتهم الزوجية غالبا. وتفسد علاقاتهم الأسرية.. ويصعب التعامل معهم في كثير من الأحيان.. فتراهم ناجحين في حياتهم العامة ومرموقين.. وفاشلين في حياتهم الخاصة وتعساء!

 

وأنت فيما يبدو لي من رسالتك شخصية رومانسية عاطفية، وزوجك فيما يبدو لي شخص عملي أكثر منه رومانسيا، وأنت شخصية انفعالية إلى حد ما.. وهو في اعتقادي شخصية عقلانية خفيض الصوت.. لكن كلماته عند الغضب تكون كطعن الخناجر ولا بأس بهذا الاختلاف، لأنه من طبيعة الحياة لكني أخشى عادة من تصرفات هذا النوع الأخير من الرجال في حياتهم الخاصة أكثر مما أخشى من تصرفات "الجعجاعين" ذوى الأصوات العالية .. لأن هؤلاء يفرغون انفعالاتهم في حبال حناجرهم، أما هؤلاء فيبدون كالسطح الهادئ الذي "تمور "العواصف تحته ثم ينفجر مرة واحدة .. فتذر كل شيء!

 

إنني لا أريد بذلك أن أثير مخاوفك.. لكنني أريد لك فقط.. أن تتبیني خطأك وأن تتجنبي تصعيد الموقف معه.. وأن تصبري علیه کما تعودت خلال ۱۲ سنة، وأنت تنتظرين بصبرك المعهود إلى أن يعود إلى طبيعته، لأني أستشعر صدق رغبتك فيه وعندما تمضي هذه الأزمة بإذن الله فقد يكون الوقت قد حان لأن تنجبا طفلا يرسخ دعائم أسرتكما الصغيرة، ويمتص بعض هذا الطوفان من المشاعر التي تغمرينه بها والذي أضجره فيما يبدو.. والله في خلقه شئون..

فقولي له كل ذلك يا سيدتي.. وقولي له نيابة عني إن هناك مثلا روسيا قديما يقول: لا تبصق في البئر القديمة.. فقد تحتاج يوما إلى الشرب من مياهها!.

ومن المؤكد أنه سوف يعود إلى الشرب من مياهها!.. مهما تباعد عنها لأن بعض الناس لا يعرفون قيمة ما في أيديهم إلا إذا فقدوه، ولأنه مهما رأی وعاشر.. فلن يجد من يغمره بكل هذا الحب والعطاء الذي يتفجر فيك تجاهه.. فاصبري واحتسبي.. فإن موعدك السعادة.. وقريبا بإذن الله !!


 ·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1986

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي

 


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات