إزيك .. يا " ادلعدي " .. بقلم عبد الوهاب مطاوع "كتاب أرجوك أعطني عمرك"

 إِزَّيَّكـ .. يا " ادّلْعَدِي " .. بقلم عبد الوهاب مطاوع "كتاب أرجوك أعطني عمرك"


إِزَّيَّكـ .. يا " ادّلْعَدِي " .. بقلم عبد الوهاب مطاوع "كتاب أرجوك أعطني عمرك"


أنت لم تجرب هذا الإحساس المرير بعد .. وأرجو لك ألا تجربه ..
أن تشعر أن كل شيء قد أصبح وراءك .. وليس أمامك .. وأن كل الأشياء الجميلة , واللحظات السعيدة والأماكن التي شهدتْ أجمل الذكريات ..كلها قد أصبحت ماضياً بعيداً , ولا سبيل إلى استرجاعه إلا في الخيال .. وحتى هذا الخيال نفسه قد يعز عليك في بعض الأحيان أن تستمتع به إلا استمتاعاً صامتاً تسترجع به الأوقات السعيدة وتتحاور مع شخوصها وذكرياتها بغير كلام ..لأن مَنْ حولك لا يدرون بها , ولم يعاصروها معك , ولا يعرفون شخوصها ..فإذا تحدثْتَ إليهم عنها لم تستشعر فيهم حرارة التجاوب معها ..ولم تجد لما تتحدث عنه الصدى الذي تتوقعه منهم , فتنطوي على ذكرياتك وتعايشها وحدك , وتهرب إليها كلما ضاقتْ نفسك بغربتك النفسية والمكانية ..وبوحدتك وببعد الأحباء والأصدقاء .. فتصبح بذلك كمن قال عنه الأديب المغربي المعاصر محمد شكري في روايته الشهيرة " الشطار " : " لم يعد يستمد بهجة الحياة إلا من الماضي ! " فإذا التقيتَ بالصدفة بشخص يرتبط بهذا الماضي السعيد بشكل أو بآخر تشبثتَ به كما يتشبث الغريق بطوق النجاة , وحاولتَ أن تَسْتَرْوِحَ معه عطر تلك الأيام الخالية ..والذكريات السعيدة ..والأماكن الجميلة التي ارتبطتْ عندك دائماً بأجمل فترات العمر !


وأحسب أن ذلك المحامي الفرنسي العجوز الذي التقيتُ به في باريس منذ فترة قصيرة قد أحس بكل هذه المشاعر والأشجان حين التقى بي ووجد عندي بعض الصدى لذكرياته الجميلة عن القاهرة , وشوارعها وملاهيها ومغانيها القديمة !
فلقد كنتُ على موعد مع بعض الأصدقاء في مطعم مصري هناك بدعوة من سيدة مصرية تقيم بباريس منذ 25 عاماً وتملك فيها محلين تجاريين , وجاءت السيدة المصرية مصحوبة برجل فرنسي في الثامنة والسبعين من عمره , قدّمَتْهُ إلينا كمحاميها الذي يتولى شئونها القانونية هناك , وحيّانا الرجل بالفرنسية بحرارة بدت لي غير مألوفة بالنسبة لطبائع الفرنسيين مع الأغراب الذين يلتقون بهم لأول مرة , وجمعتنا المائدة , ففوجئتُ بالرجل يقول لي بالعربية باسماً : " إزيك يا ادلعدي " ! ..
وضحكتُ للتعبير الشعبي المصري الذي كاد ينقرض الآن على ألسنة النساء في الأحياء الشعبية بالقاهرة , وقدرتُ أن أحد المصريين المقيمين بباريس ربما يكون قد حَفّظَهُ هذا التعبير الدارج على سبيل المزاح ..لكنّ تقديري خاب حين وجدتُ الرجل ينطق في الحديث بعد ذلك بالعامية المصرية القديمة التي اختفت بعض مفرداتها الآن من الألسنة , ويروي لنا عن حياته وذكرياته السعيدة في مصر والقاهرة وشوارعها ومقاهيها وملاهيها القديمة , واكتشفتُ أن الرجل قد تعمد أن يحييني بهذه العبارة الدارجة ليلفت نظري إلى أنه " ابن بلد " مصري , يفهم لغة أولاد البلد ويتكلم بها لأنه ولد بمصر وتعلم بها , حتى أصبح محامياً لدى المحاكم المختلطة القديمة التي كانت تختص بالنظر في القضايا والنزاعات بين الأجانب بعضهم وبعض , وبينهم وبين المصريين قبل إلغاء الامتيازات الأجنبية في مصر وتوحيد القضاء ..
كما عرفتُ أيضاً أنه قد عاش بمصر حتى سن السابعة والثلاثين , ثم أُخْرِجَ منها حين وقع العدوان الثلاثي على مصر سنة 1956 , وقامت السلطات المصرية بترحيل رعايا الدول المعتدية , وكان هو يحتفظ بالجنسية الفرنسية تبعاً لأبيه ولم ينتبه لضرورة الحصول على الجنسية المصرية إلا بعد فوات الأوان , فوجد نفسه بين يوم وليلة على ظهر باخرة متجهة إلى مارسيليا , ووجد نفسه أيضاً مطالباً بأن يبدأ حياته في فرنسا من الصفر , بعد أن كان في مصر من علية القوم وأبناء الذوات , فكافح كفاحاً مريراً في مجتمع قاس لكي يجد لنفسه مكاناً فيه , وكلما ضاقت نفسه بوحدته ومعاناته اتجه بذهنه إلى مصر التي كان يعيش فيها حياة مرفهة سعيدة , فيقيم في فيلا واسعة بمصر الجديدة ويظفر باحترام المجتمع , وحنان دادة فضيلة التي ربته وأرضعته ويعتبرها أمه الثانية , وعطف عم صالح جنايني الفيلا الذي كان يحمله على كتفه ويتجول به في شوارع مصر الجديدة ويروي له الحكايات الجميلة حتى ينام بين يديه في الحديقة , ويستمتع بأوقاته وحياته في مغاني القاهرة القديمة ...وأماكنها الجميلة كأوبرج الأهرام , وكازينو الحلمية بالاس وكازينو سان سوسي , وروف فندق كارلتون ومقهى الفيشاوي القديم ..ومطعم خريستو بالهرم .


وتدفق الرجل في حديث الذكريات الجميلة عن مصر والقاهرة ..وكلما وجد لَدَيّ علماً بالأماكن التي يتحدث عنها لمعتْ عيناه في اهتمام شديد وسألني عنها : أما زالت موجودة كما هي ؟ ويسعد حين أجيبه بالإيجاب , ويأسف حين أقول له إن بعضها قد زال من الوجود وحلت مكانه عمارات حديثة أو محلات جديدة .
واقتحم الرجل قلوبنا بحديثه الحار عن مصر وحبه الصادق لها , وأدهشني أنه لم يرجع إليها قط بعد ذلك خلال الواحد وأربعين سنة الماضية ..ووجدتُ تفسيراً لذلك حين قال لي إن معظم أهله قد تفرقوا فوق الكرة الأرضية , وأنه لم يَعُد له من يرجع إليه في مصر بعد وفاة أبويه ..كما أن معركة الحياة في فرنسا قد شغلتْهُ بلقمة العيش والكفاح المرير عن كل شيء حتى تسرب العمر من بين يديه , ولم تبقَ له إلا الذكريات التي أعدناها نحن إلى ذاكرته بلقائه بنا !
وكأنما قد عثر الرجل على ضالته فينا بعد طول الغياب ..فلم يتوقف عن الحديث لحظة , ولم يَدَعْ شيئاً في مصر لم يتحدث عنه , فحتى النكات المصرية القديمة رواها لنا وأضحكنا عليها بعاميته المصرية التي بدت غريبة بعض الشيء على آذاننا لانقراض بعض مفرداتها الآن , وحتى عبارات الغزل التي كان أولاد البلد يحيُّون بها جمال بنت البلد العابرة بالطريق تتهادى في ملاءتها اللف ..مازال يذكرها ويرددها ويضحك لها بسعادة ويسألني عنها بحنين : أما زالت تلك الملاءة اللف موجودة في القاهرة ؟ ويأسف حين أجيبه بأنها انقرضت منها أو كادت .


وانتهت السهرة الجميلة وليس في ذاكرتنا سوى هذا المحامي الفرنسي العجوز الذي يُجسِّدُ لنا صورة " الأفندي المصري " في الأربعينيات والخمسينيات بحكاياته ولهجته وعباراته ..
وبعد يومين اتصلتْ بي السيدة المصرية لتبلغني بأن المسيو " ليون " يدعوني وأصدقائي إلى العشاء في بيته ويلح في ذلك إلحاحاً شديداً, وأنه سوف يتصل بي لهذا الهدف , فلم تمض لحظات حتى اتصل بي مؤكداً الدعوة .
وفي الموعد المحدد ذهبنا إلى مسكنه في أحد أطراف باريس , فاستقبلنا وهو يتألق بدماء الحيوية والنشاط والأناقة الفرنسية ..ووجدناه قد أعد لنا بنفسه مائدة " حافلة " حرص على أن يخصني منها بطبق من الطعام النباتي الخالي من اللحوم أو الدواجن أو الأسماك , احتراماً " لنباتيتي " الوليدة منذ حوالي العام !
وراح يتنقل بيننا في نشاط يداعب هذا .. ويشاكس ذاك , ثم اتجه إلى الكاسيت ووضع فيه شريطاً , فإذا بأنغام أغنية مصرية قديمة كانت شائعة في الملاهي الليلية منذ حوالي 50 عاماً تنساب في جو المكان وتلقي عليه ظلالاً شفيفة من شجن الذكرى ..إنها أغنية " لاموني الناس على حبي ..لاموني الناس ..وكان الذنب مش ذنبي ...ومال الناس ؟ "
فمن أين حصل على هذه الأغنية القديمة ؟ كيف احتفظ بها كل هذه السنين ؟ ومن أين حصل أيضاً على هذه الأغاني الجميلة لأم كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم حافظ ؟
وانقضى الوقت سريعاً فلم نكد نشعر بمروره , واقتربت الساعة من الواحدة صباحاً , وحان وقت الرحيل , فشكرتُ الداعي بكلمة قصيرة ورجوتُ له الصحة والسعادة إلى أن نلتقي مرة أخرى بباريس في الزيارة القادمة بإذن الله ..
فإذا بملامح وجه الرجل الضاحكة تتجمد للحظات ثم تتحول تدريجيًّا إلى ملامح جادة ..ثم حزينة ..وإذا به يقول لنا إننا لا ندري كم أسعدناه بهذا الوقت القصير الذي أمضيناه معه ..واعدناه به إلى الحياة ..وأشعرناه بأنه ليس وحيداً وغريباً في مجتمع " غريب " ..لكن لأن لكل شيء دائماً نهاية ..فها نحن سوف نعود لبلادنا وأهلنا وأصدقائنا ..ويبقى هو وحيداً بلا أهل ولا أصدقاء لا ذكريات !
ثم طفرت دمعتان حائرتان من عينيه ..فأضفتا على وجهه طابعاً من الحزن النبيل , فانحفرتْ صورته في ذاكرتي ومستْ قلبي وقلوب الحاضرين معي , وحل الصمت الثقيل على المكان للحظات .
لقد أضحكنا الرجل طوال السهرة حتى طفر الدمع من عيوننا في بعض اللحظات ..وهاهو يبكينا في ختامها أيضاً حتى يترقرق الدمع في عيون الحاضرين !


وودعناه وداعاً حاراً لم يفلح خلاله احدنا أن يعيد الرجل إلى مرحه السابق , وغادرنا الشقة وصدورنا تجيش بالإشفاق عليه , فما أن انفردت بالصديقين المصريين المقيمين بباريس واللذين رافقاني إلى هذه السهرة , حتى طلبتُ منهما فيما يشبه الرجاء ألا يدعا هذا الرجل لوحدته طويلاً بعد عودتي لمصر , وبأن يُشْعِراه بمودتهما له , واهتمامهما بأمره , فيدعواه ولو مرة كل شهر إلى اللقاء بهما وبأصدقائهما من المصريين المقيمين هناك , ووعدني الصديقان خيرا ً ..وأرجو أن يفيا بالوعد .
واسترجعتُ خلال رحلة العودة في ليل باريس وجه الرجل في ختام السهرة وحزنه النبيل ..والدمعتين المتجمدتين في عينيه ..فتذكرتُ ما رواه العالم المؤرخ الأديب الدكتور " أحمد أمين " في كتابه الممتع " حياتي " حين سافر إلى اسطنبول مع زميله المؤرخ " عبد الحميد العبادي " في مهمة علمية لدراسة بعض المخطوطات العربية القديمة في مكتبات المدينة التركية , فحرص احمد أمين على البحث عن أستاذه القديم بمدرسة القضاء الشرعي " علي بك فوزي " الذي هاجر من مصر قبل عشرين عاماً واستقر باسطنبول وحيداً بلا أهل ولا زوجة ولا أبناء , وكيف سعد الرجل سعادة طاغية بلقاء تلميذه القديم وزميله , واستنجزهما الوعد بأن يلتقيا به كل يوم خلال وجودهما في اسطنبول , وكيف أنِس الرجل لهما ووجد فيهما مهرباً له من وحشته ووحدته .
ثم حانت لحظة الرحيل , فزاراه للاستئذان في السفر عائديْن لبلدهما , فإذا بالدمع يطفر من عين الرجل ..ويقول لهما : أنتما تستأذناني في فقد حياتي بعد أن كنتُ قد استرجعتها معكما !


وأحسبُ أن هذا الإحساس الأليم نفسه هو ما كان يساور المحامي الفرنسي العجوز ونحن نستأذنه في الانصراف بعد سهرة سعيدة عاش خلالها في أجواء ماضٍ جميل ذهب وانقضى .. وهيهات له أن يعود إلا في شجن الذكرى .
لقد أصبح الرجل كبطل رواية محمد شكري وككثيرين غيره ممن أوغل بهم قطار العمر وخلتْ حياتهم الحاضرة من أسباب البهجة والإيناس , فلم يعودوا يستمدون بهجة الحياة إلا من الذكرى وأصداء الماضي البعيد ..
ألم أقل لك من البداية إنه إحساس مرير ..أرجو ألا تجربه ذات يوم ؟

رابط الجزء الثاني من المقال بعنوان الرقص بالعصا

·       نشرت في كتاب أرجوك أعطني عمرك الفصل الـ 12

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي

Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات