الخواطر .. رسالة من بريد الجمعة عام 1998

 



الكاتب الفرنسي بسكال يقول لنا في كتابه "الخواطر" إن للطبيعة كمالات لكي تظهر لنا أنها صورة الله في أرضه ولها أيضا نقائص لكي تذكرهم بأنها صورته فقط وأن الكمال له وحده.

ومأساة البعض منا أنه لا يشارك الطبيعة هذه الحكمة ويؤمن إيمانا عجيبا بأنه صورة نادرة من صور الكمال الذي لا يتحقق إلا للذات الإلهية ولهذا فلا معنى لأي شكوى منه.. ولا تفسير لها إلا بجحود الطرف الآخر وتذكره لعطائه له.

عبد الوهاب مطاوع


هذه ليست مشكلة لها بداية وعقدة أطلب منك حلها .. وإنما هي خواطر تدور في ذهني وأريد أن تشاركني التفكير فيها .. ولعلي أجد بعض الراحة في ذلك .. وقبل أن أبدأ هذه التأملات أقول لك في البداية إنني زوج في أواخر الأربعينات من العمر وأب لطفلين لم يبلغ أكبرهما العاشرة, وصحتي طيبة والحمد لله ورياضي ومستقيم وأخاف ربي وأؤدي فروضي في أوقاتها وأعمل في دولة عربية منذ عامين وزوجتي وطفلاي يقيمان معي, وأما زوجتي فهي خريجة جامعية ومن أسرة طيبة ورومانسية وعصبية وربة بيت .. أما هذه الخواطر فهي على النحو التالي:

 

·      هل يمكن لزوج أن يبدأ حياته الزوجية منذ الليلة الأولى واليوم الأول من الزواج بالنكد؟!

·      هل يمكن لزوجة أن تتحدث في التليفون يوميا لأكثر من ست ساعات مع صديقاتها وإذا أبديت أية ملاحظة على ذلك قالت لي إن جهة العمل هي التي تدفع فاتورة التليفون ناسية أنني أتحدث عنها هي وعن غيابها المعنوي عني خلال هذه الساعات وليس عن فاتورة التليفون؟

·      هل يمكن لزوجة أن تقول لزوجها وهو يداعبها قبل العشاء أنت كل تفكيرك منحصر في الفراش , مع أنه تمر علينا فترات لا يكون بيننا خلالها شئ مما تنعتني به ومع أنني في الأربعينات وهي في الثلاثينات؟

·      هل يمكن لزوجة أن تتعلل لزوجها حين يرغبها بأنها متعبة من شغل البيت مع أن هذا البيت عبارة عن حجرتين "وريسيبشن" ولدينا كل إمكانيات البيت الحديثة من غسالة فول أتوماتيك لأحدث مكنسة كهربائية لكل الأجهزة الأخرى ومع أنها لا تعمل ومتفرغه للبيت؟!

·      هل يمكن لزوج أن يصحو من نومه على رائحة للسيجارة تعبق غرفة النوم لأن زوجته تفطر على سيجارة في الفراش , وفشلت كل محاولاته لإقناع زوجته بأضرار التدخين خاصة في غرفة النوم .. ومع أنه لا يدخن في البيت وقد يمضي يومين بلا سيجارة واحدة في حين تسجد زوجته أمام السيجارة وتتعبد فيها؟!

·      هل يمكن لزوجته أن تهتم بأطفالها على حساب اهتمامها بزوجها وتعودهم ذلك فيلازمونها في كل مكان حتى في المطبخ, فإذا أبدى الزوج أية ملاحظة على ذلك تساءلت في استنكار عما يشكو منه وهو يأكل ويشرب وملابسه نظيفة .. وكأن ذلك هو كل ما يحتاج إليه زوجها منها؟!

·      هل يمكن لزوجة أن تقاطع زوجها وتكشر عن أنيابها في وجهه وتظل ثلاثة أيام على الأقل لا تتحدث معه إلا بشكل رسمي جاف لأنه أخطأ وأبدى ملاحظة عابرة عن عدم نظافة البيت أو عن ترتيبه؟!

·      هل هناك زوج يعمل في دولة عربية منذ عامين ويكمل مصروف البيت بسلفه من البنك ولم يدخر أي مبلغ من دخله لأن زوجته تحب الحياة الناعمة وتحب الإنفاق والصرف والشراء وتكره التوفير والتقشف وتعتبر زوجها فقيرا لأنها لا تقارنه بزملائه وإنما بمن يعملون بشركات البترول أو المقاولات ومن أمضوا في الغربة 15 أو 20 عاما؟!

 


ولــكــاتــب هـــذه الـرسـالـة أقــول:

خواطرك تثير قضية مهمة هي قضية سوء التفاهم الأزلي بين زوجين يشعر كل منهما بأنه يؤدي إلى الطرف الآخر كل حقوقه على الوجه الأكمل .. ويرى في الوقت نفسه أنه لا ينال من شريكه ما يحتاج إليه ويتوقعه منه!

وفي قصتك أو خواطرك هذه فإنك تضع يدك على أحد أهم أسباب التعاسة الزوجية وهو تفضيل الزوجة في بعض الأحيان لأن تكون ربة بيت بالنسبة لزوجها أكثر منها زوجة كاملة له تشاركه مشاعره العاطفية والحسية واهتماماته وأوقاته ورؤيته للحياة وأهدافه فيها.

وهو الخطأ المقابل لإكتفاء الزوج في حالات أخرى بأن يكون بالنسبة لزوجته رب الأسرة المسئول عنها ومن الناحية المادية والإجتماعية أكثر منه زوجا لها وشريكا لمشاعرها وقلبها واحتياجاتها النفسية والعاطفية.

 

والمفارقة الحقيقية في كلتا الحالتين هي اعتقاد كل منهما أنه يؤدي واجبه تجاه شريكة على الوجه الأكمل, وتعجبه لشكوى الآخر منه في الوقت الذي يعتبر فيه نفسه صورة من صور الكمال في أداء واجباته والتزاماته.

والكاتب الفرنسي بسكال يقول لنا في كتابه "الخواطر" إن للطبيعة كمالات لكي تظهر لنا أنها صورة الله في أرضه ولها أيضا نقائص لكي تذكرهم بأنها صورته فقط وأن الكمال له وحده.

ومأساة البعض منا أنه لا يشارك الطبيعة هذه الحكمة ويؤمن إيمانا عجيبا بأنه صورة نادرة من صور الكمال الذي لا يتحقق إلا للذات الإلهية ولهذا فلا معنى لأي شكوى منه.. ولا تفسير لها إلا بجحود الطرف الآخر وتذكره لعطائه له.

ومأساة البعض الآخر منا هي أنهم يشاركون الأديب الفرنسي أندريه جيد اعتقاده بأن "الذين سيفهمونني لم يولدوا بعد"

مع أن هؤلاء وهؤلاء ليسوا صور للكمال ولا هم ألغاز وأحاجي يتعذر فهمها على شركاء الحياة وإنما هو دائما التقدير المغالى فيه للذات والميل الغريزي لإبراء النفس من كل عيب ورجم الآخرين بالعيوب والنواقص .

 

وفي تصوري أن اعتقاد الإنسان بأنه مبرأ من كل العيوب لا يرجع فقط إلى حسن ظنه بنفسه واطمئنانه الغافل إلى أنه ليس في الإمكان أبدع مما كان, وإنما يرجع أيضا في جانب كبير منه إلى التكاسل العقلي عن الإقرار بهذه العيوب ذلك أن الاعتراف بها يتطلب منه أن ينشغل بإصلاح نفسه وبمجاهدة طبائعه وعاداته المزعجة للآخرين والتخلص من عيوبه ونقائصه.

وكل ذلك يتطلب جهدا نفسيا.. ومغالبة شديدة لأهواء النفس واستسلامها الغافل لسلطان العادة لا يقدر عليها إلا أصحاب القلوب الحية والأسهل دائما هو أن يستنيم الإنسان إلى ما هو فيه بدلا من رياضه النفس على ما تكره وحملها على ما يرضى عنه الآخرون.

 

ومن نتائج هذا الكسل العقلي والعاطفي عن إصلاح العيوب وتحسين الطباع وتغيير العادات التي ينتقدها الآخرون أن تتحول العلاقة الزوجية في كثير من الأحيان مع افتقاد الحب الحقيقي وروح الإنصاف فيها إلى سجال بين طرفين يضع كل منهما يده على إحدى عينيه لكيلا يرى عيوبه وأخطاءه ويفتح حدقة العين الأخرى لأقصى مدى ليفتش بها عن عيوب الطرف الآخر وينابذه بها ويضيف إليها ما يبتدعه خياله إن لم يجد ما يشفي غليله منها وقد يستمر حوار العين الواحدة هذا إلى ما لا نهاية فينطوي كل طرف للآخر على المرارة والضغينة إلى أن تتعمق الغربة النفسية بينهما ويفاجأ أحدهما بأن شريكه قد تحول عنه عاطفيا ونفسيا تحولا نهائيا ولم يعد قادرا على تحمل الحياة معه يوما آخر, وعند هذه اللحظة فقط قد يولول صارخا ويتهم شريكه بالغدر ونقض عهود الوفاء, مع أن المقدمات قد ظلت تتفاعل ببطء أمام عينيه سنوات طوالا.. وتكاسل هو عقليا عن الالتفات إليها والتنبه لمؤشراتها.. مستغرقا في وهم كمال الذات ومركزا العين الوحيدة المفتوحة على عيوب شريك الحياة .

 

ومن تخفى عليه عيوب نفسه لا يستطيع علاجها إذ كيف يصلح المرء عيبا لا يعترف به أو يسد نقصا لا يراه أو يراه لكنه لا يرغب في الاشتغال بسده لكيلا يكلف نفسه بعض العناء .

فشكرا لك علي خواطرك التي أثارت هذه التأملات ونصيحتي لك أن تحاول التواؤم مع حياتك بقدر الإمكان رعاية لحق طفليك عليك وألا تكف عن المحاولة مع زوجتك لإخراجها من حالة الخمول العاطفي والعقلي التي تستسلم لها الآن ولا عن محاولة تذكيرها بأن الإنسان يحتاج كل حين إلى تجديد حياته وتنبيه مشاعره وإحياء عواطفه , بمشاركة شريكة حياته له في أوقاته ورغباته واهتماماته .. وأيضا في النشاط الحسي الذي لا غنى عنه للعلاقة الزوجية السليمة مع تذكيرها أيضا بحق طفليها عليها في أن تؤمن مستقبلهما ببعض المدخرات الملائمة بدلا من انسياقها وراء حب الذات الذي يغريها بالاستنامة إلى الحياة الناعمة وكراهية التوفير وممارسة حب الإنفاق والشراء .. فالأم الرءوم لا تكون أنانية أبدا فتنعم بالحياة اللاهية على حساب مستقبل أطفالها والزوجة الحكيمة كذلك لا تنشغل بأولادها ولا بصديقاتها عن زوجها مهما تكن االظروف مع إعلان غرفة النوم منطقة محرمة بالنسبة للتدخين مادامت عاجزة للأسف عن التخلص من هذه الآفة اللعينة استمرارا للعجز عن مجاهدة النفس وحملها على ما فيه صالحها وصالح الجميع.

رابط رسالة الفوازير تعقيبا على هذه الرسالة

رابط رسالة نظرية الأرض تعقيبا على هذه الرسالة

 ·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1998

كتابة النص من مصدره / بسنت محمود

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات