الفصل الاخير .. رسالة من بريد الجمعة عام 2002
عبد الوهاب مطاوع
هل تذكر
كاتبة رسالة الضوء المبهر التي نشرتها في19 نوفمبر عام 1999 ؟
لقد كتبتها
لك تروي لك فيها قصتها مع الحياة وكيف أنها الابنة الوسطى الأثيرة لدى أبويها,
وكانت متفوقة دراسيا على الدوام والتحقت بكلية الصيدلة وفاجأتها وهي في السنة
النهائية من الكلية حالة من الخوف المرضي المستمر لم تجد لها تفسيرا ثم تخرجت
وعملت لبضعة شهور في صيدلية قريبة من منزل والدها وشجعها صاحب الصيدلية على تجاوز
خوفها وأقنعها أنه اختبار لها من ربها, إلى أن جاء ذات يوم صيدلي شاب إلى الصيدلية
التي تعمل بها وكانت تعرف والده, وسألها ما إذا كانت تقبل منه الزواج أم لا وكان
مطلقا لعدم الإنجاب فقبلت به بعد تردد وتزوجت منه وسعدت معه.
وبالرغم من
سعادتها مع زوجها فلقد ظل الخوف المرضي يلاحقها ولكن بدرجة أخف.. ومضت الحياة لها
مع زوجها وأنجبت له طفلين قالت لك عنهما في رسالتها إنهما قد تقاسما بالعدل فيما
بينهما جمال القمر, وتوالت الأيام جميلة واعدة لم يزعجها خلالها شيء سوى أن طفلها
الرضيع ولسبب لا تعرفه لم يكن يقبل الرضاعة من أحد ثدييها, ويرضع بصعوبة من الثدي
الآخر, وأنها تشعر خلال الرضاعة ببعض الألم في صدرها.
وبعد تزايد
الألم واستشارة الطبيب قررت أن تفطم رضيعها وعمره 8 أشهر ووعدها الطبيب بأن يختفي
الألم بعد أن يجف صدرها من اللبن وفطمته بالفعل, لكن الألم لم يختف.. كما لم ينقطع
اللبن.
وفي هذه
المرحلة قررت هي وزوجها الانتقال من الحي الذي يقيمان فيه إلى حي أجمل وبدآ يبحثان
عن شقة ملائمة وطال بهما البحث حتى أوشكا علي اليأس بالرغم من كثرة المعروض.
وذات ليلة
رأت في نومها نورا مبهرا يضيء شقتها وتغشى منه العيون ونهضت من نومها مستبشرة خيرا
بقرب العثور على الشقة المأمولة, وبعد يومين فقط من هذا الحلم الجميل وفقها الله
في العثور علي شقة أقرب ما تكون إلى القصر منها إلي الشقة السكنية واتفقت هي
وزوجها مع صاحبها على كل شيء.. وخرجت وهي تتيه كما قالت لك في رسالتها زهوا
بحياتها وتنظر إلى نفسها فترى أنها قد ازدادت جمالا وإلى حياتها فتري لها زوجا
تحسدها عليه الأخريات وطفلين يلفتان النظر بجمالهما وشقة فاخرة وسيارة جميلة
وصيدلية ناجحة وعمرها 28 عاما فقط, وفي غمرة هذا الإحساس الشامل بالرضا والزهو وجدت
نفسها فجأة تستعيد إحساسها بالخوف الغامض, وتتساءل في إشفاق: ترى ماذا ستأخذ مني
يا رب لكي تتزن المعادلة ؟
وبعد يومين
فقط من هذا التساؤل شعرت ببعض الألم في صدرها وتوجهت إلى الطبيب. وبعد فحوص عديدة
واجهها الطبيب بلا أي محاولة للتخفيف عنها بأن المرض اللعين قد هاجمها في صدرها
وبأن الحالة متأخرة ستة أشهر عن موعد الاكتشاف الملائم, وأنه إذا كان زوجها يريد
لها الحياة فعليه إدخالها المستشفى غدا على الأكثر لإجراء جراحة استئصال عاجلة بلا
أي تأخير!
وفي نفس
اليوم دخلت المستشفى وتم إعدادها للجراحة بسرعة وتمت الجراحة بسلام ومرت بعدها
فترة عصيبة حتى استردت قواها الخائرة ووجدت نفسها كما كتبت لك غارقة في طوفان من
المشاعر الفياضة التي غمرها بها الجميع وبعد ذلك تلقت العلاج الكيماوي واستغرقت
المحنة العصيبة شهرين خرجت بعدها بعدة تأملات وخواطر أرادت أن تشركك وقراءك فيها,
وهي أنها قد وجدت فيما وقع لها تفسيرا لذلك الحلم الغريب عن الضوء المبهر وظنته
وقتها بشارة العثور على الشقة الملائمة وأدركت أن هذا التفسير لم يكن صحيحا وان
الضوء المبهر كان إشارة مسبقة إلى نور الله الذي غمر قلبها يوم الجراحة وجعلها لا
تحتاج إلى أي أحد سواه. كما لاحظت أيضا أنها حين علمت بخبر مرضها وانخرط زوجها في
البكاء لم تبك وإنما اجتاحها شعور بالأمان والاطمئنان وزال عنها الخوف الغامض الذي
روت لك عنه, وهكذا فقد وجدت نفسها بعد الجراحة مستبشرة ومبتهجة وقالت للجراح
الكبير إنها وزوجها سوف يهزمان المرض بالسعادة وأدركت من المحنة ـ كما قالت ـ أنها
كانت مغرورة بشبابها وصغر سنها وشكرت ربها أن نبهها إلى ذلك في الوقت الملائم
وأملت أن يمنحها الله الوقت والعمر لكي تزور بيت الله الحرام, ورجتك وقراءك أن
تدعوا لها الله بالشفاء, واختتمت رسالتها بأن طلبت أن تلتقي بك مع زوجها في مكتبك.
هل تذكر هذه
الرسالة إنني زوجها وأكتب إليك الآن لأقول لك أن الزمن قد توقف وهربت الكلمات
مني.. بعد أن رحلت بهجة حياتي إلى بارئها وتركتني وحيدا يوم 15 أكتوبر الماضي ولست
أعرف كيف ستمضي بي الحياة, فلقد كنت أتمنى الذرية الصالحة فرزقني الله منها بأجمل
ولدين.
إنني أكتب
إليك لأنها كانت تحب هذا الباب حبا شديدا ولعلك تذكر يوم استقبلتنا في مكتبك بعد
نشر الرسالة كيف كانت في قمة الابتهاج والسعادة للقاء معك ولقد أحسنت أنت اختيار
العنوان لرسالتها الأولي.. لأنها كانت بالفعل ضوءا مبهرا أضاء حياتي ثم ذهب بعد
معاناة شديدة مع المرض وأكتب هذا الخطاب لأني أعلم أن روحها ستسعد بأن يدعو لها
أصدقاؤها قراء هذا الباب الطيب الذي طالما
أحبته
وتفاعلت مع آلام وأحزان قرائه, بالرحمة والمغفرة فأرجو أن تدعو لها الله أن يجعل
الجنة مثوى هذه المؤمنة الصالحة التي أكرمني بها الله في الدنيا وأن يجمعني بها
ربي في مستقر رحمته إن شاء الله. والسلام عليكم ورحمة الله.
ولكاتب هذه الرسالة أقول:
يا إلهي ..
أهكذا جاءت النهاية سريعا وانطوت صفحة هذه الزوجة الملائكية الطيبة مع الحياة ؟
لقد تذكرت
رسالتها الأولى ووقائعها المثيرة للتأمل.. وتذكرت زيارتك لي معها وروحها الوضاءة
المستبشرة وابتسامتها البهيجة ونفسها الراضية بكل ما تحمله لها أنواء الحياة..
واستعدت حديثها وتأملاتها وابتهاجها بزوجها وطفليها وأسرتها وشكرها لربها علي كل
ما أنعم به عليها.. فحتى محنة المرض كانت ترى فيها جوانبها الإيجابية ودروسها..
واقترابها من ربها خلالها واطمئنانها على مستقبل طفليها بالرغم من النذر والغيوم
ثقة منها في ربها.. رحمها الله رحمة واسعة ورعى ولديها من بعدها وأسعد روحها
بالدعاء الصادق لها.
إن بعض البشر
النورانيين يستشعرون بطريقة غامضة قصر رحلتهم مع الحياة, وما كان هذا الخوف
المجهول الذي يهاجمها من حين لآخر.. إلا إرهاصا بما يترصدها من أقدار حزينة يرحمها
الله.. وما كان ذلك الضوء المبهر الذي تغشى منه الأبصار إلا إشارة إلهية لما تلاه
من أحداث وآلام.. ولقد ذكرتني رسالتك هذه بما حملته إلي من هذا النبأ الحزين بما
قرأته ذات يوم على لوحة للرسام جيروديه تيريزيون بمتحف اللوفر على لسان الجميلة
أتالا التي يحملها حبيبها والكاهن إلى مثواها الأخير: مررت بالحياة كالزهرة.. وجفت
أوراقي سريعا كأعشاب الحقول!
.. ولا عجب
في ذلك فأمثال زوجتك الراحلة لا يعيشون الحياة وإنما يمرون بها كالزهرة الجميلة
التي تنفث أريجها في المكان.. ثم تمضي إلى سبيلها.. يرحمها الله.. أحبته وتفاعلت
مع آلام وأحزان قرائه, بالرحمة والمغفرة فأرجو أن تدعو لها الله أن يجعل الجنة
مثوى هذه المؤمنة الصالحة التي أكرمني بها الله في الدنيا وأن يجمعني بها ربي في
مستقر رحمته أن شاء الله. والسلام عليكم ورحمة الله.
رابط رسالة كومة الندم تعقيبا على هذه الرسالة
· نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 2002
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر