كومة الندم .. رسالة من بريد الجمعة عام 2002
منذ
قرأت رسالة الفصل الأخير للزوج الذي رحلت زوجته الطيبة المؤمنة بقضاء الله عن
الحياة بعد معاناة أليمة مع المرض, وأنا أريد أن اكتب إليك لأسمع منك ما يريح
صدري, فأنا شاب عمري ثلاثون عاما, نشأت نشأة صالحة بين أب يرعى الله في أمور حياته
وأم تستهدي بفطرتها السليمة في كل شئ, وحرصت على تعليمنا جميعا حتى تخرجنا, وفي
عامي الجامعي الأخير كان أحد أخوتي يعمل في دولة عربية, وكنت أتردد على شقته
القريبة منا لمتابعة تشطيبها في غيابه, وخلال ترددي على هذه الشقة لاحظت أن فتاة
صغيرة وجميلة تسكن في العمارة المقابلة للشقة تنظر إلي باهتمام ملحوظ, فأسعدني ذلك
لكني لم أحاول الحديث معها مراعاة لحيائها وصغر سنها, وتكرر ذهابي إلى الشقة
ورؤيتي لهذه الفتاة الصغيرة, إلى أن تشجعت ذات مرة وألقيت عليها تحية الصباح,
فابتهجت بذلك كثيرا, وردت علي التحية بحرارة.. فازددت إعجابا بجمالها الطفولي وبراءتها
وأكثرت من ترددي على الشقة, وبدأت أتجاذب معها أطراف الحديث, واستمر الحال على هذا
النحو ستة أشهر, إلى أن ذهبت إلى شقة أخي ذات يوم ونظرت في اتجاه شقة الفتاة فوجدتها
مغلقة, ولا أثر فيها للحياة.
وسألت عن سكانها فعلمت أن الأسرة التي تشغلها قد
رحلت إلي بلدتها بالصعيد وتم إغلاق الشقة ولا أحد يعرف عنوانها.. واكتأبت لذلك
لكنني لم أجد بدا من الاستسلام للأمر الواقع, فركزت جهدي في إنهاء دراستي وتوقفت
عن زيارة شقة أخي المغترب نهائيا وأديت امتحاني وتخرجت وعملت لفترة في مصر, ثم
سافرت للعمل في الدولة العربية التي يقيم بها أخي, وهذه الفتاة لا تغيب عن خاطري
أبدا.. ورجعت في أول إجازة بعد عامين مدخرا ما يكفي لبدء مشروع ارتباط وكان أخي قد
أوصاني قبل السفر بالاطمئنان على شقته, فتوجهت إليها فإذا بي أجد شقة فتاة القلب
الصغيرة مفتوحة.. وبعض الملابس منشورة في شرفتها فخفق قلبي بشدة وترقبت ظهورها إلى
أن ظهرت وابتهجت كثيرا برؤيتي.. وفاتحتها برغبتي في الارتباط بها.. فطلبت مني
التقدم لوالدها, لكنها حذرتني من أنه سوف يرفض طلبي غالبا لأنه يفضل أن تتزوج
بناته من أبناء الجنوب, فترددت في الإقدام على هذه الخطوة وطالبتها بأن تؤمن هي لي
أولا موافقته قبل التقدم إليه.. وانتهت أجازتي دون اتخاذ أية خطوة في هذا الشأن.
فرجعت
إلى عملي وأمضيت عاما آخر وعدت لمصر فوجدت شقة فتاة القلب مغلقة من جديد.. وقدرت
أنها لابد قد تزوجت وفقا لشروط والدها وانتقلت إلى الجنوب.. فحاولت أن أصرف تفكيري
عنها. وبدأت أفكر في الارتباط بأي فتاة تضعها الأقدار في طريقي, بعد أن تزوج كل
أخوتي وراحت والدتي تلح علي في الزواج, وخطبت بالفعل فتاة رشحها لي بعض الأقارب,
وعدت إلى عملي وأنا لا أشعر بأية رغبة في إتمام هذا الارتباط معها, وانقطعت عن
مراسلتها حتى شعر أهلها بعدم رغبتي في استكمال المشوار, وطلبوا فسخ الخطبة.. وشغلت
بحياتي وعملي في الغربة عامين آخرين ثم رجعت إلى مصر لإجراء جراحة بسيطة.. فوجدت
والدي الحبيب قد أصيب بالمرض الخطير ويتلقى العلاج القاسي في المعهد المتخصص في
علاجه.. وحزنت لذلك كثيرا وساءت حالتي النفسية.. وخيم الاكتئاب علي, وفي غمرة ضيقي
ذهبت لزيارة أخي الذي كان يعمل في الدولة العربية, وعاد للاستقرار في مصر منذ
فترة, فإذا بي أجد نفسي أمام فتاة القلب القديمة بعد كل هذه السنوات الطويلة, وقد
نضجت وأصبحت كالبدر في تمامه, فشعرت بسعادة بالغة, ولم أتوقف أمام ما لاحظته على
مشيتها التي بدت معها وكأنها تعاني التواء في القدم أو ما شابه ذلك.. ورأيت ألا
أضيع الفرصة هذه المرة بعد أن جمعتنا الأقدار على غير موعد من جديد, فلقد أصبحت هي
في الرابعة والعشرين من عمرها ولم تتزوج, وأصبحت أنا في الثامنة والعشرين ولم أتمن
فتاة سواها, وقد ادخرت كل ما يكفي للزواج.. فماذا إذن يحول بيننا الآن.. وفاتحتها
على الفور برغبتي في لقائها لكي نرتب معا كل شئ قبل التقدم لأسرتها ففوجئت بها
ترفض مقابلتي أو الحديث معي في مشروع الزواج, وصدمت لذلك صدمة كبيرة, وسألتها عن
السبب وهي لم تتزوج بعد وليس هناك ما يحول بيني وبينها.. فلم تجبني سوى بالصمت
الحزين ـ فسألتها ألم تعد ترى في فتي أحلامها القديمة, فأجابتني صادقة بأنها لم
تتعلق بإنسان ولم تحب أحدا سواي منذ رأتني أول مرة وحتى الآن.. لكنها بالرغم من
ذلك لا تريد أن نلتقي مرة أخرى أو نتحدث في أمر الزواج.
وزادني
ذلك حيرة, وحاولت جاهدا أن اعرف منها سبب ابتعادها عني دون جدوى, إلي أن ذهبت ذات
يوم مع والدي إلي المعهد الشهير لحضور احدى جلسات العلاج, فإذا بي أراها هناك مع
أختها الصغرى ودهشت لرؤيتها في هذا المكان وسألتها عما جاء بها إليه.. فلم تجبني
سوى بدمعة صامتة ترقرقت في عينيها.
وعرفت
الحقيقة القاسية التي عجزت طوال الأسابيع السابقة عن مصارحتي بها.
لقد
أصيبت بالمرض الخطير منذ عامين, وهي في هذا المكان لتلقي نفس العلاج الذي يتلقاه
أبي.. وقد بدأ المرض في العظام أعلى الركبة وتمت زراعة عظام لها في جراحة كبيرة
وتحسنت حالتها لفترة, ثم عاود المرض الظهور من جديد وهذا هو سبب مشيتها.. وروت لي
كل التفاصيل.. فهدأت خواطرها وطمأنتها إلي ارتفاع نسبة الشفاء من هذا المرض وازددت
اقترابا منها فوجدتها إنسانة بكل ما تحمله الكلمة من معان, ولديها من الصفات
الطيبة الكثير والكثير وأهمها عفة النفس واللسان الذي لا ينطق إلا خيرا أو يصمت.
واستمر اقترابي منها طوال فترة وجودي في مصر, وأحببت كل شيء فيها ثم شعرت فتاتي بالألم مرة أخرى ودخلت غرفة العمليات من جديد مصحوبة بدعائي الحار لها بالشفاء, وأجريت لها جراحة خطيرة استغرقت سبع ساعات, ونقلت إلى العناية المركزة في حالة خطيرة, وقال الطبيب إن اليومين التاليين للعملية حاسمان بالنسبة لها, فبذلت المستحيل لكي ادخل إليها العناية المركزة واطمئن عليها.
ولكاتب هذه الرسالة أقول:
أجد
حرجا كبيرا في محاولة التعبير عما أريد قوله لك في هذا الشأن رعاية لمشاعر
الأبرياء, وحرصا عليهم, ولهذا فأني سأجمل رأيي لك دون تفصيل واعتمد على ذكائك في
إدراك المسكوت عنه تقديرا للظروف.
وفي
هذا الإطار فأني أقول لك إنك كنت تستطيع أن تحول تعاطفك السلبي مع فتاتك إلى تعاطف
إيجابي لا يكتفي فقط بالأسى الصادق لها ولا بالتعجب لمفارقات القدر والاستسلام
لوساوس الشيطان, أو السقوط في بئر الاكتئاب, وإنما يتجاوز كل ذلك إلى فعل قد لا
يكلفك الشيء الكثير.. وقد لا يلزمك أيضا بالشيء الكثير, لكنه يسهم إسهاما نبيلا في
رفع الروح المعنوية لهذه الفتاة المعذبة بأقدارها.. ويبث فيها روح الأمل في مقاومة
المرض والانتصار عليه.
فلقد
كنت تستطيع ودون أية حسابات أو مغارم أن تعلن لوالدة هذه الفتاة أمامها انك ترغب
في الارتباط بها وتتقدم لطلب يدها وهي في فراش المرض.. مؤجلا بقية الخطوات الأخرى
إلى ما بعد تمام الشفاء الناجع بإذن الله من مرضها.. فتشعرها بجدارتها بالحب وبنيل
نصيبها العادل من السعادة.وتجدد أمالها في الحياة حين تجد إلى جوارها قلبا مخلصا
يشاركها محنتها.. ويأمل في السعادة معها, فتسعد بأيامها وتتشاغل عن آلامها وأحزانها,
ويقدر لك الجميع نبل دوافعك ويعفونك غالبا من أية أعباء حقيقية لمثل هذا الالتزام
الأدبي خاصة انه ليست لديك بالفعل خطط أخرى الآن للارتباط بغيرها, فإن تحققت
الأحلام, فلقد ظفر القلب بما تطلع إليه.. وأسهم بأثر فعال في إعانة فتاته المعذبة
على أمرها ومنحها أسبابا إضافية لمقاومة المرض, وأسبابا أخرى لتعميق روابطها
بالحياة, لأنه كلما قويت أسباب تعلقنا بالحياة قويت إرادة الحياة فينا وازدادت
قدرتنا علي مقاومة أسباب الفناء.
وإن
قست علينا الحياة فلقد رضينا عن أنفسنا لأننا لم ننكص عن أداء واجب كان الأجدر بنا
ألا نتقاعس عن أدائه ولم نتردد في العطاء الصادق لمن نحب. وإنما أسعدنا قلبا حزينا
في أيامه العصيبة وخففنا عنه بعض آلام الحياة, ورشحنا أنفسنا فيما بعد لجوائز
السماء.. وتعويض الأقدار.
ولقد
تذكرت وأنا اكتب لك هذه الكلمات ما قاله بطل رواية القنصل الفخري للروائي الانجليزي
جراهام جرين مبررا زواجه وهو في الستين من عمره من فتاة فقيرة بائسة لم تكن لتظفر
ذات يوم بزوج مثله:ـ حين تصل إلى مثل عمري ستكون قد كدست أكواما من الندم على
أشياء فعلتها.. وأشياء أخرى كان ينبغي لك أن تفعلها ولم تفعلها.
لهذا
فإنه شيء عظيم حقا أن تشعر بأنك قد جعلت شخصا واحدا علي الأقل أكثر سعادة مما كان
عليه من قبل.. ولو بدرجة قليلة!.وأخشى أن يكون إحجامك عن إعلان نيتك أو رغبتك في
الارتباط بهذه الفتاة قبل فوات الأوان ـ وحتى لو كنت قد فعلت ذلك مراعاة للحال ـ
واحدا من الأشياء التي يندم المرء كثيرا فيما بعد علي أنه لم يقدم عليها في وقتها
المناسب, وحين كانت تعني الكثير والكثير لمن يهمه أمرهم.
والمؤكد
هو أننا كنا نستطيع أن نحذف من كومة الندم التي تتكدس لدينا علي مر السنين الكثير
والكثير من الأشياء لو كنا فقط قد تسلحنا في الوقت المناسب ببعد النظر.. وشجاعة
الاختيار.. فهل تلقيت الرسالة أيها الصديق؟
رابط رسالة نداء الرحيل لكاتب الرسالة بعد عدة أشهر
· نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 2002
شارك في الإعداد / علا عثمان
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر