الأسباب الجارحة .. رسالة من بريد الجمعة سنة 2002
أكتب
إليك رسالتي هذه وأرجو ألا تتسرع في الحكم علي قبل أن تصل إلى ختامها .. فأنا سيدة
في أواخر الثلاثينيات من العمر, عشت حياة طبيعية وأنهيت دراستي والتحقت بالعمل
وتزوجت رجلا فاضلا وأنجبت منه أبناء, وكأي زوجين كانت بيني وبين زوجي خلافات
عابرة نتجاوزها بالتسامح والرغبة المشتركة في استمرار الحياة.. غير أنه في إحدى
المرات تعرفت على زميل لي انتهز فرصة خلافي مع زوجي وتقرب إلي بكلامه الناعم
واقتربت منه, والأمل يراودني في أن أجد لديه الحب الذي أفتقده في حياتي, ولفت
نظري اختلاف الطباع والعادات بينه وبين زوجي.. فكأنما أرادت الأقدار أن أجد لدى
زميلي كل ما أشكو من افتقاده لدى زوجي.
فزوجي لا يعبر عن عواطفه.. وحديثه خال من
كلمات الحب والاعجاب .. وزميلي لا يتحدث إلا بالحب, وزوجي ضيق الصدر سريع
الغضب والآخر طويل البال وصبور وهادئ الطباع, وزوجي لا يهتم بالخروج معي
واصطحابي إلى الأماكن الجميلة ولا باللفتات الشاعرية, وزميلي مستعد لأن يخرج معي
في أي وقت وإلى أي مكان.. وهكذا وجدت فيه ضالتي وازددت اقترابا منه وخرجت معه
إلى المتنزهات والدعوات المختلفة وانبهرت بمعاملته الرقيقة لي حتى سحرني.. وأصبح
يتدخل في حياتي وفي عملي ويفتعل الأسباب لكي يكثر من الخروج معي ويؤخرني عن العودة
إلى بيتي.. وبعد فترة توثقت خلالها علاقتنا, طلب مني الانفصال عن زوجي وأولادي
وبيتي لأصبح له خالصة, واستجبت له وافتعلت العديد من المشاكل مع زوجي وطلبت منه
الطلاق إلى أن استجاب لي في النهاية وطلقني, بالرغم من معارضة أمي الشديدة
للطلاق وغضبها العارم مني.
وما أن تم الطلاق حتى شعرت بأنني قد أصبحت كالطائر الحر الطليق وأن حلمي السعيد
يقترب من التحقيق خاصة وأن زميلي ليس متزوجا وليست هناك عقبات تحول دون زواجنا,
وبسبب غضب أمي الشديد مني رفضت بإصرار أن أعود للإقامة معها فانتقلت للإقامة مع
أختي الأرملة التي تقبلتني كحل مؤقت لمشكلتي, ورحت أعد الأيام على انقضاء فترة
العدة إلى أن انتهت, وذهبت إلى زميلي وأنا في قمة السعادة لأبلغه بانتهاء العدة
وأطلب منه أن نتزوج على الفور, ففوجئت به يقول لي ضاحكا أنه لم يعدني بالزواج..
ولم يفكر فيه, وإذا كان قد طلب مني بالفعل الانفصال من زوجي وأولادي.. فلكي
أكون خالصة له تحت أمره في أي وقت يريدني فيه.. بعيدا عن قيود الزواج ورقابة
الزوج.. واحتمال وقوع المشاكل من جانبه, وهذا لا يعني أنه يريد أن يتزوجني.
وصعقت حين سمعت منه ذلك.. وظننته يمزح لكنه
أكد لي أنه جاد في كل ما قاله.. وشعرت بغصة شديدة في حلقي وحاولت التماسك
والتظاهر بأنني لن أنهار أمامه وسألته ولماذا لا يفكر في الزواج مني لكي نعيش معا
تحت سقف واحد وننهل من نبع الحب كما نشاء.. فإذا به يصدمني صدمة أشد بذكر أسباب
جارحة جعلتني أتمني لو كانت الأرض قد ابتلعتني قبل أن أعرفه أو أرتبط به, فلقد
قال لي بكل استهانة أنه لا يثق في زوجة خانت زوجها وتركت أبناءها لمجرد أن التقت
برجل سكب في أذنيها بعض الكلمات العاطفية, إذ لا يأمن أن تفعل معه نفس الشئ بعد أن يتزوجها إذا التقت برجل مثله..
كما أنه لا يثق في قدرة سيدة مثلي على أن تحفظ اسمه وبيته وأولاده!
فتركته وأنا لا أرى ما أمامي.. وقطعت علاقتي به.. ولم أعد
أطيق مجرد النظر إليه.. وأدهشني أنه أيضا قد استراح لذلك, ولم يبذل أي جهد
لتخفيف وطأة كلامه الجارح لي أو الاعتذار عنه.
ووجدت نفسي وقد خسرت كل شئ.. وخاصة احترامي لنفسي, بعد أن
كسرت قلب أولادي وخنت زوجي وأغضبت أمي وفقدت عطفها ومساندتها لي.. وفقدت أيضا
الحلم الكاذب الذي تصورت فيه سعادتي.
إنني
أكتب هذه الرسالة لأحذر كل زوجة تراودها فكرة ترك بيتها وأولادها من أجل نزوة
عاطفية أو كلمة حب مؤقتة من رجل ناعم.. وأناشدها أن تتقبل أقدارها وترضى بما
اختارته لها الظروف, وتحاول حل مشاكلها مع زوجها بغير أن تسمح لأي ذئب بأن ينتهز
فرصة خلافها مع زوجها ويسحرها بكلمات مزيفة كاذبة لا تغني ولا تسمن من جوع.
فالندم يقتلني على ترك أولادي وزوجي وبيتي من أجل هذه الكلمات
المسمومة, ولقد سألت أحد الشيوخ عن تفسيره لما حدث لي فأجابني بأن الشيطان قد
تسلل إلي من نقطة ضعفي واستسلمت له فغلبني لضعف إيماني, وهذا صحيح, ولهذا فإني
أناشد كل زوجة أن تتقبل أقدارها مرة أخرى لأنني لو كنت قد تقبلتها لما جرى لي ما
جرى .. وأسأل في النهاية هل يعاقبني الله سبحانه وتعالى على ما فعلت من ترك زوجي
وأبنائي.. وهل يتقبل توبتي, وهل يقبل زوجي عودتي إليه نادمة وتائبة ومعتذرة..
وهل تكتب لي كلمة تقول له فيها أنني قد تعلمت الدرس القاسي؟
ولكاتبة هذه الرسالة أقول:
في أعماق الجحيم نتعلم الحكمة وإنما بعد فوات الأوان, ولأن الحديث عن الجانب الديني والأخلاقي فيما فعلت لا يحتاج إلى استفاضة.. فلسوف أتجاوزه إلى محاولة تحليل ما يمكن أن نسميه بمنطق الأوغاد في هذه القصة والقصص المماثلة, لعلنا نستطيع بذلك فهم طريقة تفكيرهم وتجنب بعض شرورهم.. فالرجل الذي يغوي امرأة متزوجة ويغريها بهجر زوجها وأبنائها وأسرتها وحياتها السابقة برمتها, لكي تكون خالص له على حد تعبير شريكك في هذه القصة المؤسفة, تتنازعه دائما تجاه شريكته في القصة فكرتان متناقضتان.. الأولى هي الرغبة في الاستئثار بشريكته ومواصلة الرحلة معها إلى ما لا نهاية..والثانية هي الشك في نفس الوقت في جدارتها به وبأن تكون زوجة له تحمل اسمه وتحفظ شرفه وتخلص الود له دون غيره من الرجال.. ولأن كلا من الفكرتين فكرة قهرية ملحة ولا يسهل التخلص منها فإنه يتراوح دائما بين الاقتراب منها بدافع الرغبة أو العاطفة وبين النفور منها بدافع الشك في جدارتها وأخلاقياتها, ويتوقف مصير شريكته معه على قدرة إحدى هاتين الفكرتين على التغلب عليه وإزاحة الأخرى, ومن عجب أن الرجل يبني فكرة الشك في جدارة شريكته به في مثل هذه القصة الشائنة على تناقض عجيب من تناقضات النفس البشرية وهو مدى استجابتها لإغوائه هو نفسه لها! بمعنى أنه يبذل كل ما في وسعه من مهارة وحيلة لإغرائها وتشجيعها على التخلي عن وفائها لزوجها والتزامها الأخلاقي والديني به, فإذا نجح في مسعاه حاكمها في أعماقه بنتائج سعيه هذا وأدانها بها واعتبرها غير أهل للثقة فيها والاطمئنان إلى قيمها ومبادئها وأخلاقياتها, مع أنه لو لم يركز كل سهامه وأسلحته وخداعه عليها لما خطت غالبا على الطريق المنحدر معه.
ومبرر الأوغاد في ذلك هو نفسه منطق عطيل في قتل زوجته وحبيبته
ديدمونة في رائعة شكسبير المعروفة, فلقد صور شاعر الانجليزية الأشهر موقف قتل
عطيل لها بعد أن صدق فرية خيانتها له بأنه دخل عليها وهي نائمة في فراشها فقبلها
للمرة الأخيرة قبلة حانية ثم بكي بدموع قاسية وكتم أنفاسها حتى ماتت مبررا ذلك
لنفسه بأنها لو عاشت فسوف تخون رجالا آخرين كما خانته.. ثم لم يلبث بعد قليل أن
تبينت له براءتها فألقى بنفسه فوق سيفه ورقد بجوار جثمان حبيبته المظلومة ومات!
وهذا المنطق يكشف أن أساس فكرة الشك هو أن من خانت زوجها مرة قد
تسمح لها أخلاقياتها بأن تخون غيره! وهي نفس الفكرة القهرية التي تراود أحيانا
الرجل الذي يغوي امرأة رجل غيره بدعوى الحب والكلمات المسمومة.. غير أن الأعجب
حقا هو أن هذا المنطق السائد لدى الكثير من الأوغاد في تعاملهم مع شريكات القصص
المماثلة لا يقابله على جانب الزوجات منطق مماثل تفرضه عليهن الحقائق في تعاملهن
مع أمثال هؤلاء الرجال وهو منطق التشكك في أخلاقيات الرجل الذي يسعى لإغراء زوجة
محصنة بخيانة زوجها معه, واعتبار هذا السعي في حد ذاته مؤشرا كافيا إلى مستوي
قيمه الأخلاقية والدينية مما يفرض الحذر معه والشك فيه وعدم الثقة في وفائه
والتزامه الأخلاقي بما يعد به.
ولهذا تشعر بعض الغافلات بالصدمة حين يتكشف القناع عن الوجه
الحقيقي لشركائهن في مثل هذه القصص المؤسفة.. مع أن كل شئ في أجوائها كان يوحي
منذ البداية بنوعية القيم الحاكمة لأطرافها, إنها قصة قديمة تتكرر منذ الأزل ولا
يتعلم أحد درسها القاسي إلا بالثمن الغالي من الكرامة والأمان والأسر المتهدمة
والأطفال الحائرين.
فإذا كنت قد خدعت بالكلام الرقيق واللفتات الشاعرية والطباع
المخالفة لطباع زوجك السابق, فلم يكن ذلك لأن زميلك كان أفضل من زوجك أو أرق
طبعا أو أكثر عاطفية, وإنما فقط لأن العشق ــ كما يقول لنا الأديب الفرنسي
أونوريه دي بلزاك ــ أسهل دائما من الزواج.. لأنه في العشق يحتاج الرجل لأن يكون
لطيفا بعض الوقت, أما في الزواج فإنه يحتاج لأن يكون لطيفا كل الوقت وهذا أمر
مستحيل.
فكيف خدعت إذن بهذه الفرية الساذجة وهي لطف العاشق في مقابل
جمود الزوج أو احتكاكات الحياة اليومية العادية معه؟
وماذا فعلت لكي تكفري عن جريمتك في حق أبنائك وزوجك السابق
وأسرتك ووالدتك الغضبى منك.. إن صدق الندم هو بداية الطريق إلى الغفران.. لكن
الطريق طويل.. ويتطلب منك الكثير والكثير من الالتزام الديني والأخلاقي والعائلي..
كما يتطلب منك أيضا العرق والدم والدموع لكي تجدي الطريق إلى أبنائك وتعويضهم عن
هجرك لهم.. وانقيادك وراء الأهواء.
· نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 2002
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر