نداء الرحيل .. رسالة من بريد الجمعة سنة 2003
أكتب لك هذه الرسالة بعد أن
هدأت نفسي قليلاّ.. فأنا كاتب الرسالة التي نشرتها بعنوان "كومة الندم"
ورويت لك فيها أنني شاب أعمل بإحدى الدول العربية, وأنني كنت قبل عدة سنوات أذهب
إلى شقة شقيقي الذي كان يعمل بالخارج وقتها لأتفقدها واطمئن عليها من حين لآخر
فرأيت في شرفة المسكن المواجهة لها فتاة لفتت نظري بشدة بسماحة وجهها ورقتها,
وأنني تبادلت معها النظرات طويلاّ ثم التقيت بها.. وفتنت بصفاء روحها وطيبتها
وملائكيتها واعتزمت التقدم إليها بمجرد أن أستطيع تدبير تكاليف الزواج, ثم جاءتني
الفرصة للعمل في دولة عربية فسافرت إليها ورجعت في أول إجازة وزرت شقة شقيقي الذي
كان قد رجع من عمله بالخارج واستقر فيها.. وتطلعت إلى شرفة فتاة القلب لأراها
وأترقب أول فرصة للالتقاء بها وتجديد عهدي معها فلاحظت أن الشقة مغلقة ومهجورة
وسألت البواب فأفادني بأن الأسرة قد أغلقت الشقة منذ فترة طويلة وانتقلت إلى بلدها
بالصعيد.. وانقطع الاتصال بيني وبين فتاتي عند هذا الحد وفشلت في الاهتداء إلى
عنوانها أو إلى أي وسيلة للاتصال بها وانتهت إجازتي فعدت إلى مقر عملي وبعد عامين
رجعت إلي مصر.. لأقف بجوار أبي الذي فاجأه المرض اللعين ورحت أصاحبه إلي العلاج المرهق
فى المعهد.. فإذا بي التقي فيه بفتاتي تنتظر دورها لآخذ جلسات العلاج نفسه..
والتقت عيوننا وانفطر قلبي
لمرضها لكني رأيت أن روحها عالية وإيمانها كبير وابتسامتها الطيبة كما هي, وعرفت
منها أنها قد تباعدت عني بعد اكتشافها مرضها.. وعادت العلاقة الإنسانية بيننا ورحل
أبي عن الحياة يرحمه الله.. وبعد فترة أخرى دخلت فتاتي المعهد لاشتداد المرض
عليها.. وزرتها فيه كثيرا.. وسمحت لي والدتها بزيارتها لكي أخفف عنها وأرفع
معنوياتها.. وانتهت إجازتي فعدت إلي مقر عملي وأنا حائر هل أقدم علي الارتباط بهذه
الفتاة المحكوم بأقدارها.. أم هل اتجه اتجاها آخر, وكتبت لك رسالتي الأولى
لأستشيرك فكان جوهر ردك أنني كنت أستطيع أن أسعد قلب هذه الفتاة وأن أدخل البهجة
على أيامها الحزينة لو كنت قد صارحت والدتها برغبتي في خطبتها حين تسمح بذلك
ظروفها الصحية فى المستقبل فأشعرها بذلك بالجدارة وبأنها فتاة جميلة مرغوبة كغيرها
من الفتيات وأن هناك من يسعد بالارتباط بها, فتزداد أسباب تعلقها بالحياة..
وقدرتها على مقاومة المرض, وقلت لي وأنت تحاذر ألا تجرح مشاعر هذه الفتاة أو أهلها
أنني لم أكن لأخسر الكثير لو فعلت ذلك.. بل كنت لأربح راحة الضمير وبهجة إسعاد فتاة
صغيرة حزينة وسألتني في نهاية ردك هل فهمت الرسالة التي بثثتها لي بين السطور,
والتي لم ترد التصريح بها رعاية للمشاعر؟
وأنا أكتب إليك الآن لأقول
لك إنني تلقيت "الرسالة" وفهمت مغزاها واقتنعت بها واتصلت بفتاتي في
اليوم التالي لنشر القصة مباشرة لأبشرها بقرب موعد عودتي إلى مصر فردت علي
والدتها.. وقدمت لها نفسي.. فسألتني من أنا؟.. فطلبت منها أن تعطيني فتاتي لأحدثها
وستعرف هي على الفور من أنا ففوجئت بها ترفع صوتها منادية ابنتها: يا فلانة تعالي
كلمي فلان ثم تكرر نفس العبارة عدة مرات في هستيرية شديدة.. فتجاوبها أصوات بكاء
وعويل شديدين من جوارها.. ففقدت أعصابي ولم أعرف ماذا أفعل.. ثم جاءتني أختها
وقالت لي البقاء لله.. فلقد رحلت فتاتي عن الحياة في اليوم السابق.. أي في نفس
اليوم الذي نشرت فيه قصتي معها.
يا ربي.. لقد رحلت عن
الحياة قبل أن تتم عامها الخامس والعشرين ولم يمهلني القدر لكي أسعد قلبها بإعلان
خطبتنا.. أو أبشرها بقرب عودتي إليها ورجعت إلى رسائلها أعيد قراءتها مرارا
وتكرارا وإلى صورها أعيد تأملها طويلا, وتذكرت آخر لقاء معها في المعهد وهي تقول
لي إنها تشعر أن هذه المرة ستكون المرة الأخيرة التي أراها فيها وتطلب مني ألا
أنساها رحمها الله رحمة واسعة وجعل آلامها ومرضها في ميزانها يوم العرض العظيم
وأبدلها خيرا مما تركت.
لقد كتبت لك هذه الرسالة
لكي أقول لك إنني لم أتقاعس عن أداء واجب إنساني فرضته علي الظروف, ذلك أن كل
أفراد أسرتها كانوا يعلمون برغبتي فيها وارتباطي بها, ولقد تحدثت مع شقيقها وكانت
تلتقي بي بعلمه لأنه شاب فاضل يتفهم الظروف جيدا, وقد اتصل بي ثالث يوم بعد رحيلها
وعزاني فيها وعزيته في أخته.. وأنا واثق من أن فتاتي قد رحلت عن الحياة وهي تعلم
برغبتي فيها وأملي في السعادة معها.. ولم يبق إلا أن أقدم عزائي فيها لوالدتها
وأخوتها وأدعو لهم الله جميعا أن يعينهم على فراقها .. والسلام عليكم ورحمة الله
وبركاته.
ولكاتب هذه الرسالة أقول:
ما أسرع ما تجري أمور
الحياة في بعض الأحيان فإن كان ثمة ما يقال في مثل هذه الظروف المؤلمة فلعله أن
نتعلم ألا نؤجل رغباتنا الخيرة اعتمادا على أن في الوقت متسع لتنفيذها أو الإعلان
عنها في أي مرحلة.. غير أن الأعمال بالنيات في النهاية يا صديقي ولاشك في أنك قد
فزت بأجر النية الطيبة بمجرد اعتزامك إسعاد قلب هذه الفتاة وشد أزرها في محنتها
يرحمها الله.. ولا ينقص منه شيئا إن لم يمهلك القدر لتحويل النية الخيرة إلى فعل
ذلك أن الإنسان إذا هم بفعل الخير وحالت بينه وبين تنفيذه الظروف كتبت له عند ربه
حسنه, وإذا هم بارتكاب السيئة وحالت بينه وبين ارتكابها الحوائل لم تكتب عليه سيئة
برغم انعقاد نيته عليه, وهذا من رحمة الله الرءوف الرحيم بعباده.. فأرض عن نفسك يا
صديقي, فإنك لم تتقاعس بالفعل عن أداء واجب إنساني كانت تطالبك به الظروف المحزنة
وحافظ علي صلتك الإنسانية بشقيق فتاتك الراحلة وأسرتها الفاضلة.. إكراما لذكري
العزيزة الراحلة.. وإعلاءّ لهذه المشاعر النبيلة ولاشك في أن السماء سوف تعوضك عمن
فقدت خيراّ عظيما .. وتعوض أسرتها عن فقدها خير الجزاء في قادم الأيام بإذن الله.
· نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد
الجمعة" عام 2003
شارك في
إعداد النص / علا عثمان
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر